رسالة سياسية 

                               
                            قراءة سياسية في وقائع الزلزال وتداعياته!

                  
    كان السوريون فجر السادس من شباط، على موعد مع نكبة جديدة تضاف إلى سلسلة نكباتهم ومآسيهم طوال اثنتي عشرة سنة ألحقها بهم سفاح دمشق وحلفاؤه من الغزاة الروس والإيرانيين. تمثلت هذه المرة بكارثة الزلزال المدمِّر الذي ضرب ولايات جنوبي تركيا ومدن الشمال السوري وعدة محافظات سورية أخرى. نشرَ مآسيه، قتلاً وتدميراً وتشريداً في هذه المناطق، وأدَّت نتائجه وهزَّاته الارتدادية إلى مقتل وجرح وإصابة أكثر من مائة ألف إنسان، بينهم خمسون ألف ضحيةٍ حتى الآن. كان نصيب السوريين منها وفق تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وفاة 7259 سورياً، بينهم 2534 في المناطق خارج سيطرة الأسد، و394 في المناطق الخاضعة لسيطرته، و4331 لاجئاً في تركيا، عدا الآلاف من الجثث والمفقودين وعائلات بأكملها توارت تحت الأنقاض. كما تسبب بتهجير عشرات الآلاف من الشمال السوري. وتقدِّر الأمم المتحدة أن عدد السوريين المتضررين من الزلزال بشكل مباشر قرابةَ 8.8 مليون إنسان، وأن عدد الجرحى والمصابين في الأراضي السورية ارتفع إلى أكثر من عشرين ألف مصاب.

  لئن كانت كارثة الزلزال ظاهرة طبيعية وقدراً لا رادَّ له، لكن أن يكون الإهمال المتعمَّد، والتَّمييز في إنقاذ الأرواح بين منطقة وأُخرى، والتبخيس المتواصل لقيمة حياة السوريين من قِبل المجتمع الدولي وهيئاته، فهو بدون شك وصمة عار جديدة على هذه الجهات التي أدمنت التواطؤ والانحياز على حساب محنة المنكوبين ومآسي المفجوعين بضحاياهم. ويبقى من حق السوريين الذين أصابتهم الكارثة، كما غيرهم، أن تحتضنهم فرق الإنقاذ الأممية والدولية وتعمل على احتواء محنتهم -ولو وصلت متأخرة- بتوفير مراكز إيواء تجمع شتات مشرَّديهم وتقيهم غوائل البرد والجوع، ومشافٍ لعلاج المصابين، كي لا يبقى المنكوبون ضحية الخذلان الدولي ونظام الأسد مرتين. فلقد خَبِرَ السوريون هذا النظام الذي يستثمرَ في مقتلتهم، ولن يكون سلوكه وموقفه المشين مفاجئاً، إذ كيف سيسعى لإنقاذ حياتهم بعد أن قتلهم ببراميله وسلاحه الكيميائي، ودمَّر منازلهم فوق رؤوسهم، وشرَّدهم في كل أصقاع الأرض، ليبقى متربعاً على السلطة فوق جماجم الضحايا وأنقاض الدمار؟!

  كثيرةٌ كانت المفاجآت الصادمة التي رافقت وقائع الكارثة، حيث لم يتوقع أحد بأن وصول المساعدات الأممية وفِرَق إنقاذ الأرواح وإغاثة المصابين والمشردين تحتاج إلى تفويض خاص من مجلس الأمن الدولي، لتجديد أي معبر تسلكه نحو المنكوبين على الرغم من وضوح القرارات الدولية واشتراطات القانون الإنساني الدولي. ولم يكن بالحسبان دولياً وأممياً، أن يصمت العالم بأسره عن مواقف الأسد الذي انتظر ثمانية أيام حتى يسمح للمساعدات بالدخول لمناطق النكبة، بل وأن هذا الأمر جرى ترتيبه بين الأسد والجهات الأممية. إلا أن الأمر الذي فاق كل التوقعات هو عدم تمكن أي جهد دولي أو أممي من كسر احتكار النظام وأدواته الفاسدة، للسيطرة على المساعدات بإدارة “الهيئة العليا للإغاثة” التي تسيطر عليها مخابرات الأسد، على الرغم من معرفة الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية بأوضاع الاستجابة الانسانية في مناطق شمال غرب سوريا قبل الزلزال، حيث كانت بحالة يرثى لها، إذ يعتمد 90% من سكانها على المساعدات الإنسانية التي لم يتجاوز حجمها 60% من احتياجات الغذاء خلال عام كامل، ولم يحصل القطاع الصحي فيها على أكثر من 26% من احتياجاته. فالمناطق التي أنهكها القصف والتدمير، وتسيس المساعدات خلال 12 عاماً، قد شكَّلت الأرضية الخصبة لتفاقم أوجاع المهجرين ومضاعفة معاناتهم جرَّاءَ نكبة الزلزال.

    من أعراف المجتمعات البشرية، أنه في حالات الكوارث والنكبات، توضع الخلافات والتناحرات السياسية جانباً، وتنصبُّ الجهود على إنقاذ الأرواح وإغاثة المنكوبين، وتعزيز روح التضامن الإنساني بين الشعوب. لقد تجلَّى ذلك بوضوح في الحالة التركية رغم انقسام المجتمع الدولي حول المواقف من أردوغان وسياسته، حيث كانت اليونان وقبرص وأرمينيا من أوائل الدول التي وجَّهت إغاثاتها إلى تركيا. لكن الأمر بدا مختلفاً كلَّياً في الحالة السورية، بسبب مواقف الأسد وسلوك نظامه المشين منذ لحظات الزلزال الأولى وعلى مدار أيام النكبة، فقد بدا شامتاً ومتشفِّياً حتى حدود الحقد والانتقام من الذين انتفضوا عليه، ومستهتراً وغير مبالٍ إزاء من ناصروه وضحُّوا من أجله، حيث غاب إعلان حالة الطوارئ، وكذلك الحداد الرسمي على أرواح الضحايا، كما لم يرَ الأسد في هذا الحدث الجلل ما يدفعه لتوجيه كلمة للسوريين تحمل توجُّهاً مختلفاً، أو خطاباً يعزّيهم، بل رأينا عكس ذلك في زيارته إلى حلب، أكثر المناطق تضرراً، إذ عكست هذه الزيارة حجم الاستهتار والتخلي عن المسؤولية الإنسانية والأخلاقية والسياسية، حيث استقبل بالهتاف والزغاريد مرسلاً ضحكاته إلي كاميرات المصورين والمعجبين كمراهق يحتفل بعيد  ميلاده، ومكرراً ثرثرته الممجوجة عن الصمود والمواجهة ومبادئ السيادة دون أن يكلِّف نفسه بالحديث عن واجباته وتحضيرات نظامه ودولته في مواجهة الكارثة.

    في سياق هذا العرض الموجز، لابد لنا من وقفة متأنية أمام جملة من الوقائع والحقائق التي سبقت وقوع الكارثة، وتلك التي رافقتها أو تَلتْ تطوراتها، والتي يمكن تلخيصها بالآتي:

1- سجلت الأمم المتحدة ومؤسساتها المعنية كل أشكال التقاعس والتخاذل الفاضح في إيصال الإغاثة لمستحقِّيها في الوقت المناسب في مرحلة إنقاذ الأرواح، وكذلك في مرحلة الاستجابة الطارئة لاحتياجات المنكوبين، حيث لم تشهد مدن الشمال السوري أي دور إنقاذيٍ أو إغاثي في الأسبوع الأول، مسجِّلةً مع المجتمع الدولي فصلاً جديداً من فصول التخلّي عن المسؤولية في حماية أرواح السوريين والذي بلغ حدود التواطؤ بحجة عدم مخالفتها للقرارات الدولية، في الوقت الذي تعامت فيه عن وصول عشرات الطائرات الإغاثية إلى مطارات دمشق وحلب واللاذقية، وتجاهلت العديد من الوفود والاتصالات التي تواردت لإغاثة مناطق الأسد وتعزيته بالضحايا، والتي كان ينتظرها مع حلفائه في فريق الممانعة ، كمنفذٍ لإنهاء عزلته العربية والإقليمية والدولية، والانطلاق منها نحو المطالبة برفع العقوبات، بينما ملايين السوريين الذين تكدَّسوا في المنافي والمخيمات هرباً من بطشه وإجرامه يدفعون من حياتهم ودمائهم النصيب الأكبر من نتائج الزلزال وكوارثه.

2- في الوقت الذي كانت تنهمر المساعدات الإغاثية على تركيا، وكذلك الاتصالات السياسية من كبار زعماء وقادة العالم، كنا نشهد انعدام العزم الدولي في الوقوف إلى جانب السوريين في محنتهم بالتوازي مع حالة اندفاع للعديد من الرؤساء والملوك العرب تجاه الأسد، حاملين الإغاثة والتعازي لمناطق سيطرته، وبقاء مناطق الشمال السوري محرومةً من أبسط أشكال الدعم والإنقاذ والإغاثة، وكان واضحاً التركيز الدولي على إرضاء تركيا وإهمال الشمال السوري، وحتَّى الدول الأوروبية لم تبدِ اهتمام بالمستوى المطلوب تجاه هذه المناطق ومنكوبيها. وعلى الرغم من أن آليات الاستجابة الطارئة للمنظمات الأممية تسمح بوصول فرق ومعدات الإنقاذ خلال (12-48) ساعة إلى البلد المتضرر، وباستخدام كافة المعابر الممكنة للوصول إلى الضحايا بناءاً على طلب ممثل الأمين العام المقيم في البلد المتضرر، أو بناءً على طلب حكومة هذا البلد، وهذا ما فعلته تركياً، إلا أن سورية لم تفعل ذلك ولم يحرِّك المجتمع الدولي ولا الاتحاد الأوروبي وحتى الأمم المتحدة ساكناً. أما تصريحات وكيل الأمين العالم “مارتين غريفيث” بعد ثلاثة أيام، عن تسيير آلاف الخبراء المختصين في البحث والإنقاذ خلال أقل من 72 ساعة استجابة للزلزال في تركيا وسوريا، فقد كانت مجرد كلام دعائي، حيث لم يصل أي منهم لمناطق شمالي غرب البلاد، ليتبيَّن لاحقاً أن الأمم المتحدة قد فعَّلت آليات الاستجابة الطارئة في مناطق سيطرة النظام وحجبتها عن غيرها، دون تقديم أي تفسير لهذا التمييز المشين، ولئن كانت مساعدة أهلنا المقيمين في مناطق سيطرة النظام أمراً جيداً ومطلوباً، إلا أنه من العار أن لا يشمل هذا التفعيل الأراضي السورية كافةَ.

3- على الرغم من دعوات الأمم المتحدة المتكررة منذ اليوم التالي للزلزال (إلى عدم تسيس المساعدات وجهود الإغاثة)، إلا أن سلوكها وقراراتها على مدى أسبوعين كاملين كانت في غاية التسيس ومحكومةً بتوازنات القوى داخل مجلس الأمن الدولي بدل انشغالها بواجباتها وفق مقتضيات القانون الدولي والانساني. كما أنها لم تكتفِ بسياسة التمييز والانحياز لجهة النظام، بل عمدت إلى سياسة التعمية والتضليل التي ظهرت بدايتها بعدم تحديد مناطق استجابتها بوضوح، ثمَّ الإعلان في اليوم الثالث عن (وصول أول قافلة مساعدات أممية إلى شمال غرب سوريا المنكوبة)، بما أوحى للمتابعين أن جهود الاستجابة الفعلية قد انطلقت، لكن بيان الدفاع المدني أوضح أن هذه المساعدات لا علاقة لها بالكارثة وهي مجدولة مسبقاً، لكنها توقفت بسبب الزلزال ثم استأنفت رحلتها، وبأنها لا تتضمن معدات لفرق البحث والإنقاذ وانتشال العالقين تحت الأنقاض. إلا أن الجانب الأكثر ريبةً وخطورةً في مواقف وسياسات المنظمة الأممية، قد برزَ في تصريحات لاحقة حين أَفادَ “غريفيث” نفسه في 12 شباط (لقد خذلنا الشعب السوري في شمال غرب سورية، ويحق لهؤلاء أن يشعروا بأن الجميع قد تخلى عنهم، وهم ينتظرون المساعدات الأممية التي لم تصل). وعلى الرغم من أن هذا الاعتراف الأممي جاء متأخراً وبدون قيمة، حيث لم يعد ثمةَ أرواح يمكن إنقاذها، لكنه أعطى انطباعاً مُضِّللآً لمدلولات هذا التصريح وأهدافه بعد تكتم كامل من الأمم المتحدة عن موقف النظام الرافض لإدخال المساعدات إلى الشمال السوري، ووضوح تصريحات وزير خارجية الأسد عن( ضرورة الحصول على ضمانات بأن لا تصل المساعدات إلى أيدي الإرهابيين ). 

4- كانت المساكن والأبنية التي ضربها الزلزال في الشمال السوري، على شفا حفرة من الانهيار، بسبب قصفها بالصواريخ والبراميل المتفجرة من قبل ميليشيا الأسد، وتكفَّل الاحتلال الروسي بتدمير البنية التحتية وسائر المرافق العامة فيها. كما شكَّلت الزلازل السورية الممتدة منذ 2011 الأرضية الملائمة لجعل هذه الكارثة تتويجاً للخراب العميم، وفرصةً ملائمة لتحرك النظام، الذي يتصيَّد الفرص للخروج من عزلته، وأن لا تفوته فرصة جديدة للاستغلال السياسي ولو عبر مصائب حلَّت بشعبه، وكان تواقيت المواقف والقرارات مرسومة بعناية، فبعد حملة إعلامية واسعة طغت أصواتها على هدير الكارثة بهدف التركيز على رفع العقوبات وإنهاء العزلة السياسية، جاءت الموافقة على تسهيل مرور المساعدات إلى مناطق الشمال السوري بعد أسبوع، عندما تأكد الأسد من فوات الفرصة لإنقاذ المحاصرين تحت الأنقاض، ولا بأس من المتاجرة بعمل فرق الإنقاذ لانتشال الجثث والضحايا، بعد أن ارتفعت آماله في الخروج من سنوات العزلة، بعد أن لاحت بوارق الأمل بانفتاح القادة العرب عليه وكأنهم بدأوا يتقبلون فكرة بقائه في السلطة، الأمر الذي يمكن البناء عليه لجذب الغرب أيضاً ونيل اعترافه، وبدء العمل لكسر العقوبات . 

5- في أتون هذه المحنة السوداء التي ألمَّت بشعبنا السوري، لابد لنا أن نتوقف عند عظمة هذا الشعب المكافح في مقاومة ثقافة الموت وإذكاء حب الحياة. فقد تجلَّت الروح الوطنية العالية بأبهى صورها، عبَّرت عنها عزيمتهم الصلبة في إظهار كل أشكال التضامن والتآخي في إغاثة إخوتهم المنكوبين، وكذلك في العديد من المبادرات الأهلية والخيرية والطبية رغم ضيق اليد ومصاعب العيش. كما لابد من التنويه بكل ضروب النخوة والشهامة التي أبدتها العشائر في كل من دير الزور ودرعا والسويداء، الذين نظَّموا ووجَّهوا حملات التبرع نحو المناطق المنكوبة، وكذلك حماسة المتطوعين من الشباب السوري للعمل الميداني ومد يد العون للجائعين والمشردين والعراة. لقد رسم جميع هؤلاء مشهداً وطنياً رائعاً، مؤكدين وحدة هذا الشعب المنكوب في مواجهة كل عوامل الفرقة والانقسام التي زرعها النظام في صفوفهم، في تجدٍ غير مسبوق لألعابه السياسية والأمنية الهادفة إلى ترسيخ الحواجز الاجتماعية، ومنع كل مظاهر التضامن الاجتماعي والانساني ليتسنى لهم السطو على المساعدات الإغاثية ومنع وصولها إلى مستحقيها. كل ذلك عكس وحدة هذا الشعب وتوقه للحرية والكرامة والعدالة، مدشنين مشهداً جديداً يعزز الإيمان بقيم الثورة وأهدافها ويؤكد استمراريتها فيهم.

6- لا يفوتنا في هذا المشهد المأساوي التوقف أيضاً عند الدور المشرِّف الذي لعبه فريق الخوذ البيضاء ومتطوِّعو الدفاع المدني، الذين ضربوا مثالاً وطنياً ساطعاً بجهودهم الجبارة وإمكانياتهم المتواضعة في إنقاذ أرواح الناس والتخفيف من آلامهم، كما في الكشف عن حجم التلاعب الدولي وفضح مغالطات المنظمات الأممية وأكاذيبها. كما لابد من الإشادة بالدور الهام الذي لعبته الجمعيات السورية في تقديم الإغاثة الطبية والغذائية، وخاصةً الجمعية الوطنية السورية الأمريكية (سامز)، وفريق (ملهَم) التطوعي وكلها جهات مشهود لها بالكفاءة والنزاهة المطلوبة بشدة في هذه الأيام العصيبة.

7- كشفت الكارثة التي أصابت مناطق الساحل السوري حقيقة افتقار النظام وجمعياته ومنظماته (المدنية والخيرية) لأدنى درجات الثقة لدى السوريين، وذلك بسبب قناعة ترسَّخت مع الأيام عند أهالي الساحل بأن النظام سيسرق معظم المساعدات التي يتلقاها باسم ضحايا الزلزال. ولم يتوقف الأمر عند فقدان الثقة، بل تطور إلى حالة رفض جماعي لتسليم المساعدات الأهلية التي جمعوها بأنفسهم لأية جهة تابعة للأسد، كما أصر المتطوعون والمتبرعون على الاعتماد على الثقة المتبادلة في علاقاتهم الشخصية والأهلية ومحيط الأصدقاء والأقارب لتأمين وصول المساعدات إلى مستحقيها، مما اضطر النظام لإصدار تعميم أمني بعد أقل من 48 ساعة يمنع من خلاله العمل الإغاثي إلا عن طريق الجمعيات المرخصة التي تخضع لنفوذه، لكن ذلك لم يمنع الأهالي -رغم التهديد والاعتقال- من توزيع مساعداتهم بشكل فردي ومباشر، حيث تلقَّت مراكز الإيواء من مختلف المناطق رغم القيود والمحاذير ورغم سيطرة الأمانة السورية للتنمية التي تديرها أسماء الأسد. لقد تحوَّل أهالي الساحل السوري إلى خلية أزمة كبيرة تدير المساعدات وتشرف على إيصالها، وقد شملت حملات الدعم والإغاثة جميع المناطق والقرى في حالة تعاضد وتضامن سوريةٍ حقيقة، ضاربةً عرض الحائط بكل الحواجز والسدود التي بناها الأسد، فقد وصلت شاحنات المساعدات من إدلب إلى اللاذقية، وتوجهت أخرى من الساحل نحو حلب وإدلب في مشهد سوري وطني قلَّ نطيره.

8- برزت مدينة “جنديرس” في ريف عفرين، كإحدى أكثر المدن السورية تأثراً بالزلزال، حيث قضى فيها ما يقرب من 1200 ضحية بسبب تضرر أكثر من ألف بناء طابقي تهدَّم ثلثها بشكل كامل، كما أنقذ فريق الدفاع المدني أكثر من850 شخصاً من تحت الأنقاض، بعد أن تسبب الزلال بتشريد أكثر من 4000 عائلة توزعوا على 40 مخيماً أنشئَ لهذا الغرض، بينما بقيت أكثر من 1000 عائلة اخرى دون مأوى. وقد اعتمدت الاستجابة لتداعيات الزلزال في الأيام الأولى على الفزعة الشعبية والأعمال التطوعية مع غياب إدارة فاعلة لتوجيه فرق الإنقاذ والمتطوعين. واقتصرت عمليات الإنقاذ على جهود الأهالي وبعض عناصر فرق الدفاع المدني عبر استخدام آليات ومعدات بسيطة، بينما تأخر وصول فوق الانقاذ المجهَّزة حتى اليوم الثالث. ورغم وجود العديد من المنظمات الإنسانية في المدينة إلا أنها لم تأخذ زمام المبادرة في إدارة الكارثة، نتيجة تنوع سياساتها وأشكال ارتباطها بالجهات الداعم، وقد كان للعامل السياسي دوراً سلبياً مباشراً، فمنذ سيطرة الفصائل المدعومة من تركيا على المدينة ارتبطت إدارة الكوارث في المنطقة بالجانب التركي الذي غاب كلياً عن المشهد، كما غاب أي دور للحكومة المؤقتة أو الائتلاف الوطني في حين ظهرت حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام بعد يومين ناشرةً آلياتها الثقيلة في المنطقة إلى جانب صور زعيمها الاستعراضية وهو يجري جولته التفقدية.

9- شكّلت ظاهرة اندلاق العديد من القادة والرؤساء العرب صوب الأسد تطوراً لافتاً، على الرغم من ارتدائها اللبوس الإنساني في إظهار روح التضامن والأخوة بين الشعوب العربية، إلا أن مؤشراتٍ عديدة توحي بتحوُّلات لدى هذه الأنظمة من القضية السورية ونظام الأسد، الذي عكسته كثافة الاتصالات وجمهرة الوفود واللقاءات مع الأسد التي يشيرُ بوضوح لوجود محاولات عربية جادّة لاستغلال الكارثة، من أجل التطبيع معه وعودته إلى الجامعة العربية، مستغلين تعقد الأوضاع الدولية والإقليمية وانشغال الولايات المتحدة والأوروبيين بالحرب الأوكرانية. وبعض الإعفاءات الرمزية من العقوبات لنظام الأسد التي لا تتعارض مع الموقف الإنساني. ولئن كان من المبكر الحكم على مستقبل هذه العلاقات سواءً لجهة ثبات الفيتو الأمريكي، أم لجهة استعداد الأنظمة العربية لقبول التسويات، لكن يبقى موقف المملكة العربية السعودية، التي تتحرك ببعد استراتيجي لمواجهة الإيراني، وتقود حراكاً إقليمياً ودولياً بالشأن السوري، هو بيضة القبان في عودة الأسد للجامعة العربية. فهل تتخلى إيران عن سورية؟ ويبقى من الهام جداً التوقُّف ملياً عند هذه الظاهرة، ومراقبة التغيرات التي طرأت على المواقف الدولية والإقليمية التي انعكست على مواقف دولٍ عربية عديدة كانت تحاذر بالأمس القريب التواصل مع الأسد، خشيةَ إثارة حفيظة واشنطن وعقوباتها. فهل ستتغاضى إدارة “بايدن” عن تطور علاقات هذه الدول مع الأسد؟ وهل يتمسك الكونغرس بمواقفه في لجم إدارة “بايدن” عن تقديم أي تنازلات في هذا السياق؟ 

   لكن هناك مخاوف وقلق كبير لدى جمهور الثورة من ظاهرة التعاطف الدولي والعربي التي برزت تجاه سورية بعد نكبة الزلزال، والتي صبَّت نتائجها في خانة الأسد مقابل إهمال وتجاهل أممي ودولي كبير تجاه المناطق الخارجة عن سيطرته، كان من نتائجها عودة الأسد للصدارة الدبلوماسية والسياسية كصاحب قرار، بالتوازي أيضاً مع قرار الإدارة الأمريكية، تعليق الجانب الإغاثي والإنساني من قانون “قيصر” لمدة ستة أشهر وكذلك فعل الأوروبيون، مما قد يفتح الباب أمام تطورات لاحقة تدفع للمزيد من التخوُّف من احتمالات فك العزلة السياسية عن النظام تحت الستار الإنساني، ولاسيما أن حجم الدعم الذي تلقاه فاق كل التوقعات، رغم معرفة الجميع أن 90% من هذه المساعدات تنهب وتصب في مخازن الأسد ومافياته وشبيحته تحت مسمى “الهيئة العليا للإغاثة”.

والسؤال: في ظل استمرار غياب السوريين عن قضيتهم الوطنية، هل تعمد الدول العربية بدعم دولي وإقليمي لخياطة الجرح السوري بقيحه؟ والذي يعني عودة الصراع إلى المربع الأول. أو تطرح تعقيدات القضية السورية أن الحل السياسي بحاجة إلى مبادرة لعقد مؤتمر دولي لتعدد القوى الدولية والإقليمية المتدخلة فيها؟ ومع ذلك وقبل فوات الآوان على القوى الحية والفاعلة من السوريين الإسراع بتشكيل بديل وطني يعبر عن مصالح وطموحات السوريين بالحرية والكرامة والعدالة، ويتمسك بالقرار الوطني المستقل وبقرارات الشرعية الدولية، وينفتح على العرب والدول الصديقة، ويتعامل بشكل إيجابي مع إي تحرك عربي من أجل إنصاف السوريين وقضيتهم الوطنية والخلاص من نظام التوحش والإبادة، وأولها رحيل الأسد عن السلطة الذي يفتح طريق المستقيل لسورية والسوريين. 

دمشق 3 / 3/ 2023                                                                                         


                                                                            الأمانة المركزية
                                                                    لحزب الشعب الديمقراطي السوري