ياسين الحاج صالح
2015

(المصدر (مجلة كلمن

ليس عبدالله العروي أحد أبرز المفكرين العرب وأدومهم تأثيرا إلا لأنه أحد أبرز مخترعي ”المثقفين العرب“، ومن كبار صناع ”العرب“ أنفسهم. نظر المثقف المغربي النافذ التفكير والواسع الاطلاع إلى العرب كإطار لمشروع عقلنة وتحديث وتجاوز للتأخر التاريخي، فشكل منظور رؤية كثيرين من العرب ومثقفيهم لأنفسهم. ليس قوميا عربيا، لكن عمله يكتسب معناه من التأثير على تفكير وذهنيات المشتغلين بالشؤون العامة من العرب. وهو تأثير كبير حقا، يمتد بين أواخر الستينات ويومنا، ومشفوع دوما بالاحترام.

حين نتكلم على مثقفين عرب، فإننا لا نعني مثقفين من العالم العربي، بل مثقفين ملتزمين بالعرب، بتحديث مجتمعاتهم وعقلنة تفكيرهم وسياساتهم. اللغة العربية كأداة تفكير وكتابة والميراث الإسلامي كمرجع ثقافي وموضوع مراجعة يخلقان بينهم قضية مشتركة وشعورا بوحدة الحال. العروي أساسي بينهم.

بوصفه صانع مثقفين، من شأن نقد جوانب من تفكير العروي أن يكون نقدا لتيار أوسع في تفكير العرب المعاصرين. ومعلوم أن الرجل حاز تأثيرا فكريا قويا في المشرق العربي، وترك أثرا أساسيا على ياسين الحافظ، المثقف السوري المرموق بدوره، وقد غادر العالم عام 1978 قبل أن يبلغ الخمسين. وعبر الحافظ أثر العروي على سوريين ولبنانيين كثيرين، منهم كاتب هذه السطور.

وغير ما سبق، لدي سبب شخصي أيضا للانطلاق من العروي. فقد كان خلال سنوات طويلة بطلي الفكري ونجمي الثقافي، أمتعض حين أقرأ نقدا له.

لهذا الشغف بداية عارضة، لكن دائمة الأثر. في سنتي الجامعية الثانية عام 1979، كنت بين زملاء لي في مسكن أحدنا، حين وجدت في متناولي كتابا بادرت إلى تصفحه. قد أكون قرأت صفحتين أو ثلاثا، لكن خرجت منه باكتشاف لا يزال طازجا في ذاكرتي: إن للكتب علاقة بالواقع! وقتها كنت شيوعيا شابا، أقرأ بمشقة بالغة كراريس للينين، وأعجز عن فهم أي شيء فيها لشدة انفصال ما يقال عن أي شيء أعيشه أو أخبره.

كان اسم الكتاب ”الإيديولوجية العربية المعاصرة“، واسم مؤلفه عبدالله العروي. وقد قرأت الكتاب بعد حين، وفهمت منه القليل فيما يتعدى ”اكتشاف“ دوران الكتب حول ”الواقع“. لكن كنت أشعر أن هاهنا ”ثقافة“، شيء أحب أن أكون فيه وقريبا منه.

سجنت بعد نحو عام ونصف من الواقع، وتسنت لي فرصة معقولة للقراءة في السجن. وبتأثير العروي كانت القيمة العليا لدي هي المعرفة، وقد ساعدتني على التوجه في الحياة وتحمل المصاعب.

تهتم هذه المقاربة بتاريخانية العروي بخاصة[1]، وتستند إلى تجارب شخصية وعامة في نقد المفكر المغربي. فهي بمثابة تنظيم للسجل الشخصي، وتسوية حساب مع تصورات يبدو لي أنها كانت تعرّف المثقف بما هو كذلك. أقول بسرعة منذ الآن إن ”المثقف العربي“ الذي صنعه العروي هو برنامج لتحقيق الغرب أو الحداثة. الغرب في تفكير العروي يحيل إلى التنوير والحداثة والعقلانية في السياسة والنفعية في الأخلاق والليبرالية في الاجتماع والقانون، وليس بالطبع إلى الغرب السياسي الذي لا يخصه العروي بالمجاملة. رغم ذلك، أسهم العروي في صنع ثنائية عرب/غرب التي وجهت أعناق المثقفين في اتجاه غربي حصرا، وأغفلت بقية العالم. ويتوافق برنامج المثقف مع تحقق غرب داخلي، أو عالم أول داخلي، وتثبيت انشقاق عميق في مجتمعاتنا إلى أمتين: حديثة ممتازة ملتصقة بالدولة، و”تقليدية“ مزدراة التصقت بالدين و”التقليد“، على نحو يحاكي مفعول علاقة التبعية الاقتصادية كما درسها سمير أمين ومدرسة التبعية. ثم إن تاريخانية العروي التي تنظر إلى المجتمع كتأخر تاريخي لا بنية له، سهلت تصور المجتمع في مراحل لاحقة كهوية وثقافة، وانقلبت إلى الإيديولوجية الثقافوية التي تبدو لي تعبيرا عن العالم الأول الداخلي وتبريرا له. وفوق تضييق منظورات المثقفين من وراء كونية مزعومة، هي في الواقع غربية، تسهم ثنائية عرب/غرب في جعل الإسلاميين خيارا أكثر معقولية، الخيار المفضل لمن يرفض برنامج العروي في تحقيق الغرب.

من وراء التطلع إلى تصور مغاير للمثقف، هذا النص إقرار بدين كبير لمثقف كبير.

أنوه، أخيرا، بأن المادة كتبت أصلا في صيغة أولى عام 2010، قبل زمن الثورات العربية. وبأمل مزيد من التوثيق والضبط أرجأت نشرها، ثم جرفتني الأحداث بعيدا عنها، ثم عن كتبي وعن بلدي. أعود إليها الآن بعد تحطم الثورة السورية في إطار ممارسة النقد الجذري للثقافة، بوصفه، النقد، تكريما للثورة، و، إلى حين، مسارا تحرريا بديلا.

أعلى قمة في العالم

تضع تاريخانية العروي الواقع، واقع العرب، في ”ما يستشرفونه من أحوال المستقبل“، أي في ”المستقبل الماضي“ للغرب، حسب قول مؤلف ”الإيديولوجية العربية المعاصرة“، وليس في ”ما يعيشونه في الحاضر“[2]. ولا بأس أن لا نتمايز عن الأوربيين بغير ”نبرتنا“، فمن شأن الكبرياء الثقافية أن تديم ”شتاءنا الطويل“[3]، شتاء ”التأخر التاريخي“.

التأخر التاريخي لدى العروي هو أساسا وعي متأخر. ليس بحال واقعا كثرويا معقدا ومتعدد المستويات؛ إنه أشبه بعالم وهمي، يجد حقيقته في واقع حقيقي، هو ذلك المستقبل المكتمل في أوروبا، ما سماه عزيز العظمة منتقدا العروي ”سقف التاريخ“[4]. وفي وهمية هذا العالم ما يقوض من الأساس إمكانية معرفته، وما يفسر تحفظ العروي الصريح على المعرفة الوضعانية والسوسيولوجيا[5].

لكن مقابل واقع غير مكتمل أو ناقص، وبالتفاعل مع واقع ناقص، هل تتكون غير عقول ناقصة؟ هذه مفارقة تنتهي إليها تاريخانية العروي. تصبو إلى ”الوعي المطابق“ أو ”العقلانية“، لكنها تنكر أو تقلل من شأن فعل تعقل الواقع المعاش، أو ”ما نعيش من أحوال الحاضر“ التي يتشكل تفكيرنا وتترقى مداركنا عبر الاشتباك معها. المطابقة عند العروي ليست شأنا معرفيا، نحيط عبره بشبكة الأوضاع الراهنة التي نعيشها، بل هي شأن عملي، مطابقة لحاجات ”المجتمع العربي“. والوعي التاريخاني سرعان ما يتخثر في مذهب أو دعوة حداثية.

غير أن العروي يصرف هذه المفارقة بيسر. يقترح أن نُعرِّف واقع الغرب بوصفه واقعنا ”الموضوعي“ (ومستقبلنا المرغوب)، مقابل الواقع ”الواقعي“[6]، حاضرنا هذا الذي لا قوام له. يقول: ”هذا الواقع الذي هو موضوعي رغم أنه غير حاضر، ليس سوى عبارة أخرى عن مفهوم المستقبل-الماضي“. وفي موضع آخر يقول: ”الموضوعي هو ما يصبح مطابقا للواقع حين تبلغ الدولة القومية غايتها من التصنيع“. ويضيف: ”الموضوع في نظر العرب المحدثين أصح وأمتن من الواقع“[7]. وهذا ما يفترض أن ”الماركسية الموضوعية“ تتيحه[8]،[9].

وتجنبا لمعرفة ناقصة لواقع واقعي ناقص يقترح العروي أن لا نقبل إلا المعرفة الناجزة التي، خلافا لكل معرفة غيرها، وتحت مسمى ”العقل الكوني“، لها الأولوية على البنية الاجتماعية، تتحدد هذه بها بدل العكس[10]. يقول: ”في وضع المجتمع العربي، ولكي يكون كلامنا مطابقا لموضوعه، ألا يجب قلب العلاقة المعهودة بين المجتمع والفكر، بتقديم هذا على ذاك؟ تقضي العادة في الغرب بأن نتدرج من الوضع الاجتماعي إلى الإنتاج الفكري، لكن إذا قبلنا أن مفهوم المستقبل-الماضي يعبر عن تجربة تاريخية فعلية يعيشها عرب اليوم، أفلا يعني ذلك بالضبط أن الأدلوجة (الدعوة) سابقة، عمليا وإجرائيا، تاريخيا ومنطقيا، على المجتمع؟“، وهو ما يعني أن ننطلق من الماركسية الموضوعية في مقاربة أوضاعنا، فهذا يساعد على تشكل بنية اجتماعية رأسمالية، أنسب للتحليل الماركسي.

ليست هذه ”تجربة تاريخية فعلية“ إلا بتأويل خاص، يعمم تجارب مثقفين من الطبقة الوسطى، ويضيق العالم منهجيا (وليس إجرائيا فقط) إلى عرب وغرب، كما سبقت الإشارة. وهذا ليس خيارا فكريا مجردا، أنه نظرة إلى ”العرب“ من فوق، من ”الكونية“ التي هي أعلى قمة فكرية في العالم. وسنرى أن لهذا الخيار مستتبعات اجتماعية وسياسية كبيرة.

لكن على أرضية تفكير العروي، من المشروع التساؤل: كم من الوقت سينقضي قبل أن ”تبلغ الدولة القومية غايتها من التصنيع“، ويتطابق ”الواقعي“ و”الموضوعي“؟ العروي لا يطرح السؤال ولا يجيب عنه. إلى حين يتحقق ذلك، ولا يبدو أن نحو خمسة عقود بعد صدور كتاب العروي قرَّبتنا منه، لا مناص من العيش في واقع غير حقيقي، غير جدير بأن يعرف أو يجري التساؤل عن حقيقته أو يُرسِّخ الوجود فيه. سيتعيّن على ”المثقفين العرب“ ارتضاء عيش ووعي برزخيين، أقرب إلى حلم لا يصحو منه إلا على معاصرة ناجزة مع الغرب، يحققها ”مهندسو الدولة القومية“[11].

هذا الموقف الذي يضعف ”شخصية“ الحاضر لمصلحة مستقبل مفترض، ألا يُسهِّل للماضي التعدي عليه؟ حين يكون الحاضر أجوف بلا صلابة أو قوام متماسك، الماضي الذي يجري الهروب منه كالوباء هو ما سوف يتمادى إليه ويملأ فراغه.

وفي هذا ما ييسر انتشار الإسلامية التي تنسب لنفسها صحوة من عيش برزخي بدوره، وتوجهاً نحو حياة إسلامية سبق عيشها.

وإذا يقلل البرنامج التاريخاني من شأن ”أحوال الحاضر“، جملة الأوضاع والعلاقات التي تشكل راهن مجتمعاتنا المعاصرة، فإنه يقوض الأرضية الأبستمولوجية لنشوء العلوم التجريبية أو أية دراسة ميدانية. بازدراء يسميها العروي ”النزعة التجريبية“ التي تبقى ”على مستوى التجربة الآنية“، فتنفخ الحياة في بنى الماضي[12]. لكن أليس العكس هو الصحيح؟ أليس نخر الحاضر وسحب كل قيمة منه هو ما يمهد السبيل لهيمنة ”معقولات“ ”أصيلة“، لـ“الصحوة الإسلامية“؟ وعند كل مأزق تاريخي، ينبثق السلفي، ”فينيق التاريخ العربي“ في قول العروي[13]، ليتكلم على دينـ“نا“ وأصالتـ“نا“، ويندد بالقيم الغريبة والمستوردة. تاريخانية العروي التي تسهم في تجويف الحاضر وإنقاص كثافته لا تتوفر على ما يحول دون انبعاث الفينيق مرة ومرات.

نظام التعسف

لا ينفصل إنكار الجدارة المعرفية لـ”الواقع الواقعي“، مجال عيش عموم السكان وإنتاجهم وتفاعلاتهم ومعرفتهم وسياستهم، ووجودهم وفنائهم، عن تدهور الجدارة الاجتماعية للمعرفة المتحصلة، أعني قدرة معرفتنا المزدرية لـ”التجربة الآنية“ على مخاطبة قطاعات اجتماعية أوسع، ومساهمتها تاليا في نشر المعارف وتغيير المواقف. تتوافق الهامشية المعرفية والثقافية لما ”نعيش من أحوال الحاضر“ مع معارف ونتاجات ثقافية هامشية، تعجز عن تحقيق اختراق خارج دوائر منتجة ومستهلكة لها، تُعِّرف نفسها بمستقبل مستشرف. أية دوائر؟ من يتاح لهم عيش وتعلم خاص، في الغرب نفسه أو في غرب داخلي، مع اعتبار هذه التعلم خلاصة للعقلانية والكونية.

يبدو، من جهة أخرى، أن إنكار الجدارة المعرفية للواقع الواقعي يقترن بإنكار الجدارة السياسية لعموم السكان. فحيث لا يعترف بأهمية الوقائع المعاشة وأهليتها لأن توصف وتعرف وتُسمى، أي حيث الوقائع محرومة من ”المواطنة“ المعرفية ومن استحقاق التمثيل العقلي والثقافي لمصلحة مذهب للحقيقة أو ”وعي مطابق“، من غير المتوقع أن يحوز الأفراد تمثيلا سياسيا كمواطنين. هذه لأن الوقائع هي أفعال الناس وتفاعلاتهم وصراعاتهم وحلولهم لما يواجهون من مشكلات بما هو متاح من عتاد عملي وفكري. وحيث هناك نظرية هي النسخة السليمة من الواقع وممثلته الشرعية، الفرصة مهيأة لأن نجد حزبا أو عصبة أو زعيما يحكم رعايا مهمشين سياسيا، لا يعترف بأفعالهم وأفكارهم، باسم الحقيقة.

وفي هذا ما يفتح الباب واسعا إلى التعسف السياسي والمعرفي. فالبديل عن تمثيل الوقائع المعاينة معرفيا هو التفكير المتعسف، مثلما البديل عن تمثيل البشر الواقعيين سياسيا هو الحكم المتعسف. التعسف في كل حال هو تحكيم عقل خارجي، ديني أو دنيوي، عقل فرد أو مجموعة، بحياة جميع الناس.

وظاهر أن مشكلات الموقف التاريخاني المزدري لـ”لواقع الواقعي“ ليست معرفية فقط، وإنما هي سياسية أيضا. وفيما يأتي سأحاول أن أظهر أنها تطال كذلك الثقافة والأخلاقيات، والوجود أيضا.

وليس من اللازم أن تكون العلاقة سببية بين المعرفي والسياسي حتى تكون مطردة. لا نعرف مثالا لخفض شأن واقع الحياة الفعلي لمصلحة واقع حقيقي متصور مع الرفع من شأن الأفراد والجماعات. هذا حال اشتراكية القرن العشرين وهي تعد بشيوعية تضمن العدالة والكفاية والسعادة للجميع في يوم سيأتي، وحال الإسلامية التي لا تكف عن الهرب من مواجهة الواقع الفعلى نحو الطوبى والوهم، والقومية العربية البعثية كما خبرناها في سورية في الثلث الأخير من القرن الماضي، وهي تعد بوحدة وحرية يوما بينما تمعن تمزيقا وقهرا للسكان العيانيين. ثم إنه، بالعكس، حيث لا شأن للأفراد وحواسهم وخبراتهم وتجاربهم، من غير المحتمل أن يكون للواقع اعتبار معرفي، وأن نرى ازدهارا عاما للمعرفة التجريبية وللثقافة. المعرفة ليست شأنا مستقلا عن مجتمع البشر وحياتهم إلا في عين مثقفين ليبراليين من الطبقة الوسطى، متحررين من كل التزام اجتماعي. المعرفة التي ليست معرفة بأحوال الحاضر، والحاضرين، هي فعل إداري وليست فعلا اجتماعيا، فعل تحكم وليس فعل تحرر.

والأصل في ذلك هو دنيوية العالم المعاصر، بحيث تكون كل معرفة معرفة لحياتنا في هذا العالم، وكل سياسة هي من خطط العيش في هذا العالم أيضا. ”الواقع“ هو حياتنا في العالم الآن، كشيء مستقل ومكتف بذاته، لا يحتاج إلى عقل من خارج العالم لمعرفته وسياسته. وإننا نهيئ الفرص للدكتاتورية المعرفية (التعسف) والسياسية (الطغيان) حين نعتبر الحقيقي في واقع معاش هو مستقبل يلوح من بعد، لا كتامته المحسوسة وثقله المجرب وعناده وممانعته التكوينية للتمثيل المعرفي والتغير العملي. هذه خصائص ذاتية لكل واقع، وليس لواقعـ”نا“ وحده. واقع حياة الناس لا يمنح نفسه للمعرفة وللسياسة برحابة صدر. أما إذا كان الواقع الحقيقي ”مستقبلا مستشرفا“، فإن أول ما يلزم هو آلة لتسريع الزمن، دولة تحديثية سلطوية، تتولى ”حرق المراحل“، والتعامل مع حياة الأفراد والمجموعات، كصلصال قابل للتشكل إلى ما لا نهاية؛ وذلك بهدف ولوج المستقبل قبل أن يختفي عن ناظرينا، ونضيع. اقتصاد الزمن و”إمكانية الطفرة في التاريخ“ سمات أساسية لتاريخانية العروي[14].

ازدراء الواقع الواقعي معرفيا وثقافيا ليس بالشأن المحايد سياسيا. معادله السياسي الوحيد هو الطغيان. وهذا لأن افتراض طواعية الواقع الكلية للتمثيل والتشكيل يعني قابلية حياة الناس للتشكيل والتطويع، والقص والتمزيق، والتعذيب والحذف.

ويؤسس مفهوم ”الواقع الموضوعي“ مقابل ”الواقع الواقعي“، بعبارة العروي، لاحتكار إدارة الواقع، معرفيا وسياسيا، من قبل نخبة عليمة، متملكة لموضوعية الواقع، ومتحررة بفعل ذلك من مصالحها الذاتية، وتعمل على إدخال الجميع عالم الموضوعية والعقل. من لا يشاركونها عالمها وواقعها هم ”عملاء موضوعيا“ للأعداء الذين ينكرون موضوعية الواقع واتجاه التاريخ. هذا جرى في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، وجرى مثله بمقدار في سوريا. وهو الإيديولوجية المشرعة لأجهزة المخابرات ومحاكم مثل ”محكمة أمن الدولة العليا“ التي، إذ تصدر عن إحاطة صحيحة بالواقع الموضوعي واتجاه التاريخ، تتحرر من الالتزام بإجراءات العدالة وشكلها حيال الأفراد، لمصلحة عدالة كلها مضمون، موجهة من وراء ظهر الشعب نحو القضاء على خصوم نظام طغموي فاسد. وليس مهما أن تطابق الإدانات التي توجهها هذه الأجهزة لضحاياها شيئا في الواقع. المهم أنها تطابق الهدف، الغاية التي يتجه إليها تاريخنا بفضل ”مهندسي الدولة القومية“ البعثيين.

الجهاز التاريخاني للعروي يضع هؤلاء المهندسين ليس فوق المجتمع، فوق كل مساءلة ومحاسبة تاليا، بل فوق التاريخ ذاته. إنهم آلهة دنيويون لا حدود لسلطتهم. هناك بالفعل شيء عظامي في تحديد اتجاه التاريخ ومآلاته، وفي الإنذار بضرب من الجحيم الدنيوي، الخروج من التاريخ، إن لم يجر اتباع الرسالة!

في المذهب التاريخاني، إذن، خلل في الموقف المعرفي الأساسي: الموقف أمام الواقع ومدى جدارته بالاعتبار، يتوافق مع خلل في الموقف السياسي الأساسي، المتصل بقيمة المجتمع والأفراد واعتبارهم. ومثلما لا يحمي ”المنهج“ هناك حقوق الوقائع وجدارتها بالتمثيل المعرفي، لا يحمي ”الدستور“ هنا حقوق الأفراد وجدارتهم بالتمثيل السياسي.

عدمي آخر

”الواقع“ ليس مقولة معرفية فحسب على ما سبقت الإشارة، إنه مجال السياسة والعمل وتفاعلات الناس وفاعليتهم التحويلية على بيئاتهم، وإطار عملية تملك عالمهم والرسوخ الوجودي فيه. وتاليا فإن صرف ”الواقع الواقعي“ باستهانة لمصلحة مستقبل ماض، لا يحرمنا من معرفة يحتمل أن تكون مفيدة، ولكنه يحول دون بلورة سياسات وأنشطة تمكن الناس من التحكم بشروط حياتهم، وأكثر من ذلك يفصلهم عن عالمهم الفعلي لمصلحة عالم آخر، غيب، ويتركهم نهب وجود متخلع.

وعبر تزكية مفهوم ”الواقع الموضوعي“ مقابل ”الواقع الواقعي“، العروي نبي كبير للعدمية بين العرب المعاصرين. القاسم المشترك بين النزعات العدمية هو خفض قيمة الوقع الفعلي أو الحياة المعاشة، لمصلحة واقع أكثر حقيقية أو جوهر أعمق أو ماهية أكثر أصالة أو مستقبل مجيد. هذه العدمية التي ترجئ الحقيقي، معرفة وعيشا، باسم ”مستقبل مستشرف“، لا تسجل فرقا أساسيا عن العدمية الإسلامية التي ترجئ ”الحياة الدنيا“، وتهوِّن من شأنها، باسم دار البقاء في الآخرة، أو تخفض جوهريا من قيمة العيش-في-العالم-الآن لمصلحة ما سماها العروي نفسه ”طوبى الخلافة“.

أهل الزمان

ظهرت تاريخانية العروي في مناخات هيمنة الاقتصادوية الماركسية في تفكير قطاع طليعي من المثقفين العرب، وهي تشاركها نزعة رد الواقع المركب إلى عامل محدد كبير: التاريخ نفسه عند العروي كمسار باطن من العقلنة والحداثة، وهو مفهوم ذو أصول هيغلية، والاقتصاد عند الماركسيين، والثقافوية التي تجعل من الثقافة المبدأ الشارح الأساس لأوضاعنا العامة، وهو ما لا يستقيم دون رد الثقافة إلى بنية تحتية غير متغيرة أو قليلة التغير، أي تغليب تصور الثقافة كميراث أو ”عقل“ على تصورها كاكتساب وتعلم، والسياسوية التي تعيد إلى السياسة ونظم الحكم شرح هذه الأوضاع ذاتها. هذه البنية المشتركة سهلت الانتقال من نظام شرح إلى آخر دون إشكالات. الاختزالية سمة مشتركة لها كلها، وهي ليست مجرد سمة معرفية، ترد الكثرة إلى قليل أو واحد، بل يمكنها أن تكون سمة سياسية أيضا، تقلص المجتمع العياني إلى فكرة أو مبدأ، يمكن أن يتجسد في شخص، في بطل، أو في نخبة قائدة. المناهج الاختزالية تصلح أساسا لبناء دوغما، ولحزب مغلق، ولحكم استبدادي.

وما كان للتاريخ أن يكون فاعلا ومبدأ تفسيريا عند العروي إلا عبر ازدواج تُحدِثه التاريخانية فيه. ما يقوله المنهج التاريخاني أو التاريخوي عمليا هو أن هناك تاريخا غير مرئي في التاريخ المرئي، تيارا خفيا يسري في مجرى التاريخ الظاهر. لدينا التاريخ كتعاقب وقائع، والتاريخ كمفهوم أو مقصد أو روح، كتقدم وحداثة. لا نستطيع تأكيد الثاني دون نفي الأول، مثلما لم يستطع العروي تأكيد ”الواقع الموضوعي“ إلا بنفي ”الواقع الواقعي“. التاريخ الذي يُفسِر، هو التاريخ كمسار خفي، كبنية تحتية، التاريخانية، وليس التاريخ كتعاقب وقائع.

مثل الاقتصادوية، ومثل الثقافوية، ومثل السياسوية، التاريخانية تفسر برسم العمل والتغيير. العروي واضح في ذلك بخصوص دعوته التاريخانية. والاقتصادوية الماركسية عرفناها من الأحزاب الشيوعية، وهي طبعا منظمات عمل. والثقافويون سياسيون جدا ومنحازون منهجيا للطوابق العليا المضاءة من الهرم الاجتماعي. أما السياسويون فعمليون تعريفا[15]. المشترك بين هذه الدعوات غير كونها مذاهب تحاول إعطاء انطباع بالإحاطة بكلية الواقع، وغير العمل بحد ذاته، هو العمل من فوق. إنها مذاهب لعمل النخبة، وليس بحال للعمل التحتي التحرري.

وبفعل هذا التكوين المذهبي العملي فإن الدعوة التاريخانية التي لا تكاد تكون مفهومة شكلت النموذج القياسي للإيديولوجية الحداثية التي طورت في ربع القرن السابق للثورات العربية غرائز محافظة، معادية للعامة والديمقراطية والتغير السياسي.

ولعل تقصي أصول هذا التكوين يحيل على ”وضعية تاريخانية“ أورثنا إياها تقاطع ”الصدمة الغربية“[16] المذلّة مع هيمنة غربية على المثقفين، ومطامح سبق اجتماعي يسرتها حداثة الغرب. وجهت هذه الوضعية التاريخانية الأذهان النشطة في المجال العربي نحو مهمة أولى وأساسية، هي ”التمدن“ أو ”الإصلاح“ أو ”النهضة“ أو ”التقدم“ أو ”الثورة“، أو ”التغيير“، لكن دوما من فوق. لا نطيق، بفعل هذا التكوين العملي، التفكير النظري الأساسي. الفلسفة ممتنعة، والعروي صريح في معاداتها[17]. لكن لا نطيق أكثر العمل من تحت. يبدو هذا بطيئا وغير مضمون الثمار، فلم تطرس له جهود نظرية أو عملية.

هناك استعداد مسبق، مكنون في اللغة والثقافة العربية، لوضعيات التاريخانية. كان الإسلام اندراجا في ”حداثة“ ابراهيمية، شكلت الأفق العالمي للعرب وقتها. وبفعل الوضعية التاريخانية الجديدة، أضحى النازع العملي الفوقي التزاما تكوينيا ومعرّفا للثقافة العربية بكل تياراتها، بما فيها الإسلامية، منذ نحو قرن ونصف أو أكثر. نريد أن نخرج من وضع لا يطاق، صحونا عليه في وقت ما من القرن التاسع عشر. من نحن؟ أمة تستيقظ، ثقافة تنهض، دين يصحو، وليس مجتمعا يحاول التحكم بشروط حياته. ومن باب هذا الاستعداد العملي، الجمعي والفوقي، صارت إيديولوجيات العرب ”زمانية“، موجهة نحو المآلات والغايات الأخيرة والحلول النهائية، الخلاص (التقدم، الحداثة، التجدد، وكذلك البعث، السلفية)، وليست إيديولوجيات ”اجتماعية“، موجهة نحو أوضاع أفضل للبشر العيانيين هنا والآن. في ثقافة العرب الحديثة، ”المثقف“ ممثل الزمان وليس عضوا في مجتمع، متجه النظر إلى غاية نهائية وليس منغرسا في بيئة حية، ناطق باسم ”آخرة“ ما وليس قائما بدور مخصوص في عالم دنيوي. والعروي، المثقف المتقدم على مجايليه دون ريب، والأوسع اطلاعا على التاريخين والثقافتين، العربية والغربية الحديثة، هو من سيبلور هذا الالتزام في صيغة مذهبية واعية بذاتها.

ما أريد قوله هو أن ضربا من ”التاريخانية الموضوعية“، إن حاكينا لغة العروي نفسه، كان هو الموقف الضمني للأجنحة الأكثر حداثة في النخبة العربية، الثقافية والسياسية، منذ ظهورها، وبصورة أقوى بعد الاستقلال. أضع عبارة تاريخانية موضوعية بين قوسين تحفظا، فموضوعيتها ليست مبرأة من خيارات سياسية وانحيازات اجتماعية خاصة، وإن تكن أيضا تحمل استعدادات ثقافية وتاريخية أقدم. التاريخانية الموضوعية هي برنامج سياسي للبرجزة والأوربة، يحمله مثقفون يتطلعون إلى قيادة مجتمعاتهم ثقافيا، وإن أمكن سياسيا. هذا البرنامج، لأنه ”موضوعي“ بهذا المعنى، متجاوب مع تطلعات صعود منتشرة، تحقق فعلا. وسنرى أن ثنائية الأمتين والعالمين هي تحققه. بلغ هذا التوجه المنتشر في الثقافة العربية قبل العروي وعيه الذاتي في تفكيره. بخصوص العروي يصح الكلام على تاريخانية ذاتية، أعني تاريخانية مذهبية واعية لذاتها ومتملكة لموضوعها (تأخر المجتمع العربي)، وعلى دراية بالغاية الأخيرة (المستقبل المستشرف). وتاريخانية العروي الذاتية هي ما تفسر تسامحه مع ”الماركسية الموضوعية“، بل تزكيته لها، وإن شاب التزكية احتقار غير خفي. فمن موقع الإحاطة بمآل التاريخ، هناك حيث تعي التاريخانية ذاتها وتنحل في التاريخ، تبدو تبسيطية وابتذال ”الماركسية الموضوعية“ ”مرحلة“ محتومة، طورا لا مناص منه من أجل بلوغ الواقع الحقيقي، الموضعي بدوره، مطابقة الغرب بالمعنى التاريخي للكلمة. إنها شيء نافع، وإن يكن فظا.

والحال أن ازدراء العروي للماركسية الموضوعية التي ابتكرها وروج لها عرضٌ دالٌ إلى أقصى حد. عرض ”يقول“ إن الماركسية تلك مذهب تعبئة وإنجاز، أداة تربوية مفيدة، وليست نظرية تشرح واقعا، وتحرص على رهافة التحليل والاتساق الذاتي، الأمر الذي لا يتكتم عليه العروي على كل حال. فهو يخاطب ”رجل السياسة، الزعيم المصلح الخاضع لمنطق العمل“[18]، و”المصلح العربي المسؤول“[19]. وبينما يظهر هنا بجلاء المنطلق الفوقي لتاريخانية العروي، فإنه يظهر أيضا أن العروي مثقف أكثر تعقيدا من المثقف التاريخاني أو ”الماركسي الموضوعي“ الذي ينوه هو به. لكن هذا يولد تناقضا في ذهن من يتربى ثقافيا على العروي: فكيف يقتدي بنموذج أدنى، بينما يمثل مؤلف ”الإيديولوجية العربية المعاصرة“ شخصيا نموذجا أعلى؟ ولماذا، إذا كان العروي سقفا متاحا، أقف عند ”الماركسي الموضوعي“ المبتذل؟ التاريخانية كمذهب لتجاوز التأخر، الذي هو أساسا وعي متأخر، تدفعني إلى تمثل مؤلف ”العرب والفكر التاريخي“ ووعيه، لا ”الماركسي الموضوعي“ الذي قد يكون شيوعيا عراقيا متحالفا مع حزب البعث في السبعينات، أو بعثيا عراقيا أو سوريا ماركسي الميول، أو مناضلا من ”حزب العمل الثوري العربي“ الذي أسسه ياسين الحافظ وقاده حتى وفاته (ذو دلالة أن العروي لا يضرب مثالا واحدا على ماركسيِّه الموضوعي، ولا يكاد يذكر ياسين الحافظ[20])؟ وكيف للمرء أن يركن إلى ”الدولة القومية“ وتكنوقراطييها، بينما هو يعي حدودها بفضل مثقف مثل عبدالله العروي؟ حال العروي كمثقف في التاريخ الفعلي يكذب مقاله التاريخاني.

وحاله كمثقف واسع المعرفة نافذ التفكير يكذب أيضا حاله كداعية لمذهب عملي خلاصي.

ظلامية مستنيرة

معلوم أن تاريخانية العروي تنسب دورا إيجابيا لكل من المثقف والسياسي. لكنها لا تتيح لهذا الدور أن يمضي بعيدا في رأيي، بسبب انشدادها إلى ”واقع موضوعي“، ”المستقبل المستشرف“، الذي هو في الوقت نفسه ماضي أوروبا. ماذا يفعل سياسي مشدود النظر إلى ”الواقع الموضوعي“ أمام صعوبات ”الواقع الواقعي“؟ كيف لا يغريه القمع الماحق بغرض تحقيق ”المطابقة“؟ أن يكون بطرس الأكبر أو ستالين؟ ومن أجل استمرار انضباط السياسة بـ”الواقع الموضوعي“، هل يستغنى عن منع التغير السياسي لقطع طريق النكوص إلى ”الواقع الواقعي“ وسياساته؟ وهل يمكن منع التغير بغير عنف منظم، وأجهزة للعنف المنظم؟ خلال جيل واحد من ”الموضوعية“، سيقود منع التغير السياسي إلى تعفن لا يطاق، وربما إلى موت وفير.

المثقف التاريخاني ماذا يفعل هنا؟ برنامجه هو تحقيق الواقع الموضوعي، وإدانة الواقع الواقعي. لكن هذا البرنامج بالذات يلغي لزومه لأن المطابقة فعل سياسي، والسياسي الذي يحكم الناس ويتحكم بهم هو كفيلها. التاريخانية كدعوة عملية تلغي استقلالية المثقف، ووجوده ذاته.

المعرفة لا لزوم لها أيضا. فبما أن الأصل الواقعي لعدم الاعتراف بالواقع هو ”أولوية العمل“[21]، أسبقية تغيير الواقع على أي شيء آخر، إرادة التقدم والتمدن، ”الواعز العملي أو الهم الإنجازي“ على قول العروي نفسه[22]، فإن المعرفة مؤجلة. أسباب مشروعة جدا ومهيبة هي ما سوغت الغفلة عن حاجة حيوية جدا، لكن أقل هيبة: التلبث أمام الواقع الواقعي ومعاناته والاعتراف به ومعرفته، والعمل على الربط بين هذه المعرفة وبين الواقعين الواقعيين من الناس.

بـ”الهم الإنجازي“ من ناحية، ولكون ”الوقت محسوبا لدينا“ من ناحية ثانية، يبرر العروي تراوحنا داخل ”الدولة القومية“ بين ”الإحجام عن التفكير“ وبين التفكير بالمثل أو المماثلة[23]. وهذا وصف طيب لعدم الحاجة إلى المعرفة. فلمَ نبذل جهودا مضنية لتملك ما سوف يمضي ويتلاشى، وما يجب أن يمضي ويتلاشى؟ غدا، سيمّحي كل هذا الواقع البائس، فلنسرّع امِّحاءه بدل انكبابٍ على معرفته يقتضي اعترافا به، بل احتراما له. لا بد لمعرفة الواقع السيئ أن تكون معرفة سيئة هي ذاتها، ولسياسته أن تكون سياسة سيئة، ولا بد أن الوجود فيه وجود سيئ كذلك. تغيير الواقع السيئ هو وحده العمل الجيد.

بيد أن هذا خطأ أساسي. بالتعرف إلى الواقع الواقعي والاختلاط به والانحناء عليه لا نسدي له خدمة، بل نطور أهليتنا على المعرفة والعمل والسياسة، والوجود. الواقع الواقعي هو حياتنا الدنيوية وأهليتنا الوجودية والسياسية، وليس موضوع معرفة أو تغيير فحسب. لا نستطيع لذلك أن نتعامل مع حياتنا-في-العالم-الآن بهذه الاستهانة دون المجازفة بخسارة حريتنا، وربما حياتنا. ليس ”الواقع الموضوعي“ و”المستقبل المستشرف“ سبيلا إلى الرسوخ في العالم، وليس فيهما غير ما يخفف وزننا ويخلعنا من العالم. ليس أننا نفضل هذه الحياة بالضرورة، لكنها فرصتنا النادرة في هذا العالم، فرصة أكثرنا على الأقل.

وليس ظاهرا كيف لمن يُضيّع الواقع أن يكسب تغييره. وحين يجري إعدام الحاضر، فإن المستقبل هو ما نحرمه من الحياة. لقد انقضى نحو خمسين عاما منذ زكّى العروي خفض قيمة الحاضر. خلالها، و”الوقت محسوب لدينا“، ازداد هذا هشاشة، ولم يكف المستقبل المنشود عن الابتعاد.

في المحصلة، طورنا موقفا ظلاميا بدوافع نيرة. فكان أن حصلنا على عدد كبير من السياسيين السيئين (كلنا)، بدل عدد أقل (بدئيا، لكنه متزايد) من مثقفين جيدين وسياسيين جيدين. أقول السياسيين السيئين لأن التاريخانية تجعل المثقفين جميعا سياسيين، بل تجعل السياسة مفهومة كتقدم أو تدارك للتأخر هي الثقافة الوحيدة. كل شيء يغدو نضالا وتعبئة[24] وعملا سياسيا، وكل معرفة إيديولوجية، ولا يُتَصور التغير إلا كـ”حل“ أو خلاص.

كذب المقال على الحال

قد يبدو مستغربا أن تفكير مثقف من الأبرز عربيا يؤول إلى إلغاء استقلال صناعة المثقف ودوره الاجتماعي. العروي ذاته مستمر في الإنتاج، وكتبه تثقف وتثير التفكير. لكن يبدو لي أن الرجل نسيج من التناقضات. سبق القول غير مرة إن حاله يكذب مقاله، على ما قاله هو عن ابن حزم في ”مفهوم العقل“. وتكريسه سنوات للكتابة عن المفاهيم بهدف الضبط وإنتاجية التفكير، ثم قوله في ”السنة والإصلاح“ إنه ألف أن يقرأ كتب الفكر بالذوق، كما تقرأ الروايات وكتب الأدب تناقض آخر. ثم معاداته للفلسفة، وهو فيلسوف كبير. هذه مؤشرات على حيوية فكرية، لكنها تثير الاضطراب عند القارئ. والمفارقة في ما يخصني أن كتابا لهذا المثقف المرموق يزكي احتقار الواقع وعدم إهدار الوقت على معرفته، هو ما تولد عنه لدي ”كشف“ علاقة الكتب بالواقع!

ومثلما ميز العروي بين واقع واقعي وواقع موضوعي، وأميز استنادا إلى عمله، وخاصة ”مفهوم التاريخ“، بين تاريخ-وقائع وتاريخ مفهوم، يمكن التمييز في العروي نفسه بين عروي العمل، المثقف المنتج، المدقق، الواسع الأفق، التاريخي، وبين عروي الخلاصات، التاريخاني والمذهبي. هذا الازدواج يسري في كل عمله. وبفعل هذا الازدواج يمكن الاستناد إلى أحد العرويين في نقد الآخر، دون أن يقتضي ذلك حتما اعتناق ما يجري الاستناد إليه. عمل العروي يثقف، لكنه في مجمله فوقي، ويؤسس لتعال نخبوي على المجتمع ثقافيا، وللتسلط سياسيا.

إنتاج النقص وتعميمه

فلنجمل محصلات هذه الدعوة التاريخانية التي تضع شروط الحياة الفعلية بين قوسين.

نقص المعرفة أولا. من الذي يهتم بمعرفة الناقص، إن كانت متاحة له معرفة ”عالم المثل“ الأوروبي؟ معرفة الواقع النثري المنظور، الناقص، لا بد أن تكون ناقصة ونثرية هي ذاتها. لا داعي لها، إذن. العروي يقول ذلك بالحرف تقريبا، يقول إن خلاصة تحليلاته تقود إلى استنتاج واحد: ”استبعاد كل معرفة موضوعية للمجتمع العربي“. هذا لأن عرب اليوم ”يحتقرون الحاضر الذي يعيشونه إلى حد أنهم لا يرونه جديرا بالدراسة“[25]. سيكون فعل المعرفة الجيد، بالمقابل، هو متابعة تيارات الفكر الغربية، والغربية حصرا (ليس الهندية أو البرازيلية أو التركية أو الإيرانية…)، ومحاكاتها. أن نوسع اطلاعنا على هذه التيارات، لكن مع العيش في الواقع الواقعي والانخراط في صراعاته لا يبدو خيارا جاذبا. أجزم أن نتاجنا المعرفي متواضع لهذا السبب بالذات، وأن قلة نظرياتنا المبتكرة ومناهجنا الجديدة ومساهماتنا الأساسية في العلوم أصلها هنا.

العروي يتحفظ عن تيارات فكرية غربية، ما بعد البنيوية الفرنسية وما بعد الحداثة، لكن هذا التحفظ يبدو ذاتيا، تجميدا مصطنعا لتطورات فكرية تضمر تحولات اجتماعية واقتصادية، باسم طور بعينه من أطوار حداثة الغرب. هذا قرار تعسفي، يفقر صورة الغرب، بعد أن كان اختيار الغرب مستقبلا ماضيا أفقر العالم ونظرتنا إلى العالم، وهو يعكس الطابع الوظيفي التعبوي لدعوة العروي التاريخانية.

ثم هشاشة الثقافة. الواقع ”الصلب“ ممانعة مبدئية للتشكيل والتمثيل والتغيير، والثقافة نتاج التوقف أمام الممانعة، أو الصراع مع الواقع. لا تتشكل ثقافة ذات شأن قبالة واقع ذي قابلية تامة للتشكل على ما تصادر تاريخانية العروي، والتاريخانية الموضوعية لعموم الحداثويين، بل عبر مقاومة ممانعته ومحاولة التغلب عليها. كانت مشكلة الأدب الاشتراكي أنه افترض مطواعية الواقع، ما تأدى إلى النزعة الإرادوية المزدرية للثقافة. هذا الأدب متواضع لذلك بالذات. وانتهى إلى الدعاية للمذهب لأن الحقيقة (الحق والجمال والخير) معروفة سلفا ومكنونة فيه (في المذهب).

وبإعدام الواقع ”الواقعي“ على مذبح الواقع ”الموضوعي“، أيّ موضوع يتكون للثقافة؟ غاية ما يتكون ثقافة تعبوية، إرادوية في البداية، ثم إدارية مع تسرب الملل إلى النفوس ووهن العزائم، من نوع تلك التي كانت قد تطورت في الاتحاد السوفياتي على أرضية اعتبار الواقع مطواعا تشكله الإرادة الثورية كما تشاء، أو ”صفحة بيضاء“ يخط عليها أمثال ماوتسي تونغ المصير الذي يرتأون لمئات الملايين.

لكن ربما في لحظة معينة يصبح الواقع الموضوعي هو واقعنا الواقعي، فنبدأ بإنتاج المعرفة والثقافة والفن بمنطق واقعي وفكر مفتوح؟ لم يحصل ذلك في الاتحاد السوفياتي الذي انقلبت الثقافة فيه إلى إدارة، والفكر إلى ملخصات، والسياسة إلى مخابرات. وليس هناك ما يسوغ الاعتقاد بأن ”الموضوعيين“ بيننا سيغدون ”واقعيين“. ما تدره ”الموضوعية“ من سلطة وتحكم يقف عائقا أمام ”واقعية“ عامة مهمشة.

وفي المقام الثالث تسلطية السياسة. يتوافق الموقف المعرفي الأساسي مع إنكار المواطنة المعرفية للوقائع كما سبق القول، فيخفض من شأن واقع حياة الناس وتجاربهم وأشواقهم وإبداعهم وعلاقاتهم. هذا التخفيض يقوض فرص المواطنة الحقوقية والسياسية لمن يعيشون في الواقع الواقعي وحده. المواطنة لا تتأسس على أرض كهذه. بالمقابل، يرفع البرنامج التاريخاني من شأن نخبة محدودة من السياسيين والمثقفين، أو بالأصح السياسيين-المثقفين ”الموضوعيين“ و”العقلانيين“، الممنوحين ”دورا إيجابيا“. ومقابل الواقعيْن، الواقعي والموضوعي، تنشأ ثقافتان، واحدة واقعية لكن فقيرة، لا يجد أهلها ما يحد من إملاقهم الثقافي غير دين آبائهم القديم، والثانية موضوعية، يتدوال أهلها المعارف العقلانية والفنون التقدمية والمفاهيم العصرية التي تقول لهم إنهم من أهل التقدم والحداثة، السلطة لهم والمجد. وبقدر ما تمسي هذه الثقافة أساسا لتميز نخبة، يتدهور محتواها التحرري والديمقراطي.

وبما أن بنية المجتمع الذي ترد منه المفاهيم، أوروبا، ترتسم في أفقنا الذهني، وأن على جهود تدارك التأخر أن تنطلق من هذا الارتسام لتثمر، فإن ما سوف نراه لن يتعدى ما هو منظم ورسمي ومُضاء وفوق وعقل ووعي، وما هو دولة ونخبة وترتيب ومركز ومدينة وبرجوازية، وقوي و”أوروبي“ و”مثقف“ بالمعنى الإيديولوجي للكلمة، أي ما أسميه ”العالم الأول الداخلي“، بينما ينزوي غير مرئي كل ما هو حواس وغير منظم وغير نظامي ومعتم وتحت وأمي ومجتمع وفقير وريف ومحيط وضعيف وعام ومحلي (العالم الثالث الداخلي). وسيجد المثقف المبرمج على ”الواقع الموضوعي“ نفسه أقرب إلى نخب السلطة التي تنظم وتحرس هذا القطاع المنظم والمضاء والنخبوي من القطاعات المعتمة، غير المنظمة، والشعبية. هذا الانقسام بين أمتين وعالمين مسجل في برنامج المثقف الذي صممه العروي، برنامج تحقيق الحداثة، أو أوروبا، أو الغرب[26].

ويبدو لي أن النظام السياسي الذي يستخرج من المذهب التاريخاني للعروي، هو ذاته ما يستخرج من مجمل المقاربات الثقافوية والتنويرية: ”الاستبداد المستنير“، محاولة استخدام سلطة الدولة لضغط الزمن وتدارك التأخر. الرجل يخاطب صراحة في تآليفه الأكثر احتفاء بالتاريخانية المسؤول والمصلح ومهندس الدولة القومية كما رأينا. والدور الإيجابي المناط بالسياسي مشدود لديه إلى اقتصاد الزمن أو ضغطه، أي ”حرق المراحل“.

ولعل هنا هو مصدر تناقض آخر في عمل العروي بين نزعة تغييرية هي منطلق عمله وبين نزعة منسحبة أو متحفظة تسم تآليفه. قلما يكون العروي مقنعا وهو يتكلم على ”شد عزائم الثوريين“، نتثقف على يديه وتتوسع آفاقنا، لكن لا يشد عزمنا بحال، كيلا أقول إنه يثبّطه. وفي جذر ذلك، في تصوري، أن ”المستقبل الماضي“ ليس بحال حلما ثوريا، ليس دعوة إلى عدالة أكبر وحرية أكبر. إنها عقيدة ترقٍّ اجتماعي نخبوية، وبرنامج لسياسة من فوق، تخاطب ”المصلح“ و”المسؤول“، وليس الثوري.

ثم هشاشة الوجود، بعد نقص المعرفة وإدارية الثقافة وتسلطية السياسة. فالنظر إلى الواقع المعاش كشيء خفيف، قياسا إلى ”مستقبل مستشرف“ هو واقعنا الحقيقي، مثله مثل النظر إلى ”الحياة الدنيا“ كدار فناء عابرة مقابل ”دار البقاء“ الدائمة، يحكم علينا بوجود خفيف من الدرجة الثانية، وجود وكيل يسهل حذفه، ربما يحاول التعويض عن وكالته بإيديولوجية الأصالة. وهذه لا تواجه الوكالة عن ”أوروبا“، التي تنتحل اسم الحداثة، لأنها وكالة، بل لأن الوكالة هذه تعتبر أن أوروبا هي الأصل وهي الواقع الحقيقي، أي لأسباب ”قومية“ أو ”هويتية“. ”الأصالة“ هي وكالة عما يفترض أنه ميثاقنا الحقيقي الذي يجد أصله في الغيب والوحي. يبقى وجودنا التاريخي محصورا بين قوسين، شيئا غير معترف به.

والوجود الوكيل باب للعدمية، لثقافة انتقاص مبدئي ودائم من حياة الناس.

إلى ذلك فإن تقرير النقص، نقص العقل (أو نقص الدين)، على أي كان، إذ يبيح تقريعه وتأنيبه، يسهل كذلك السيطرة عليه وينال من قدرته على الدفاع عن نفسه، أو يقوض حماياته المعنوية والأسيجة الأخلاقية التي تمنع الاعتداء عليه. وعلى هذا النحو، تتكون شخصيات يستبيحها الشعور بالذنب أو النقص، بما يسهل للكاملين من ”الموضوعيين“ توجيهها والتحكم بها، وحذفها عند الضرورة.

ثم أن أولوية العمل المقررة، تؤسس لتبعية الضمير، ضمير لا استقلال له عن برنامج تحقيق الحداثة، وعن المآل المرغوب، المرجأ دوما. مثلما وجودنا مُرجأ ومعرفتنا مرجأة، أخلاقيتنا أيضا مرجأة. سنكون عادلين ذات يوم، حين يغدو الواقع حقيقيا، أو يتطابق ”الواقعي“ و”الموضوعي“، وحين يتحلى الناس بوعي كوني وتاريخي، وتغدو السياسة عقلانية. وقتها نقرر أن لكل إنسان قيمة مساوية لكل إنسان. الآن، أخلاقنا تتبع العمل، وأرفع واجباتنا هو تغيير الواقع. ومن شأن الإنسانية في الأخلاق الآن، والكرامة الإنسانية المتساوية الآن، أن تعقد مسألة تغيير الواقع.

والجوهري على هذا المستوى الأخلاقي أن مبدأ العدل وطلبه، هنا والآن وفي كل وقت وكل العالم، يتراجع لمصلحة قيم إيديولوجية وتاريخية منحولة كالتقدم والحداثة والعلمانية، ليس لها مضامين أخلاقية محددة، لكنها ”موضوعية“. ليس عبثا أن حضور الشواغل الأخلاقية وحس العدالة ضامر كل الضمور عن دعاة الإيديولوجيات ”الزمنية“ كلهم. الأمر متولد عن المقاربة الوظيفية التعبوية، النابعة من بنية هذه الدعوات ذاتها.

ومن هذا الباب الأخلاقي أيضا التاريخانية ليست دعوة ثورية، ولا تشد أية عزائم. الأصل في ذلك هو الضمور التام للبعد القيمي في هذه الدعوة. وهو ضمور ورثته عنها سلائلها الثقافوية، المعنية بالعقل والذهنيات وإصلاحهما.

وفي الحصيلة، يبدو أن التاريخانية الموضوعية، المتمحورة حول الحداثة و”التقدم“، ”تقدمية“ بصورة عارضة و”رجعية“ في الأساس، تؤول نسقيا إلى الاصطفاف إلى جانب ”العقل“ و”الرسمي“ و”النظام“، العالم الأول الداخلي. هذا خبر لا تكذبه سيرة عموم الحداثيين.

وفي هذا الشأن، لا تختلف النتيجة إن كان مركزنا يقع في ماض متناء، ندور حوله بلا نهاية. هنا يصادر الواقع لمصلحة برنامج الأصالة وعقيدتها، أو يجري التمييز بين واقع واقعي دخيل لا يستحق المعرفة والاستثمار فيه، وواقع موضوعي أصيل سبق أن خبرناه ولا ننهض بغير مطابقته من جديد اليوم. برنامج تحقيق الإسلام هنا سياسة محض مثل تاريخانية تحقيق الغرب. وبموجبها يتكون ”غيب“ داخلي مقدس، يحتكر العلاقة مع السماء، ويتحكم بقطاع أوسع من السكان، دنيوي ومتدنٍّ. وهنا أيضا ينحل المثقف في السياسي، ونحصل على الأمير.

والمشهد المجمل كما يتبدى لنا اليوم في أكثر البلدان العربية مكون من نخب عليا سياسية تدير العلاقة مع المراكز الغربية، ونخب دينية تدير العلاقة مع السماء، وبإمرتهما إيديولوجيون ومنفذون وكوادر متنوعون، يتسيدون جميعا جمهورا محروما من الوعي والوحي معا، يهاجر قسم منه ما استطاع إلى الغرب، وقسم إلى الغيب، بينما يكون قسم ثالث منه أداة للعسف الحكومي.

على أن أهم محصلات برنامج تحقيق الحداثة التاريخاني هي الانقسام الاجتماعي العميق بين ثقافتين وأمتين ومجتمعين وعالمين: ثقافة ”واقعية“ وثقافة ”موضوعية“، قطاع تاريخاني أو غربي داخلي وقطاع تقليدي، أمة مزدهرة وبجوارها أمة مندحرة، مجتمع النخبة الكوني ومجتمع العامة المحلي، العالم الأول والعالم الثالث. لا يعد برنامج العروي بحل أزمة ”المثقفين العرب“ وتحولهم من التقليد إلى التاريخانية، بل إلى العقم الشامل، وما يقارب التعالي العنصري على العموم من قبل المثقفين حاملي البرنامج.

حين يكون لدينا واقعان، واحد رفيع وعقلاني ومرتب وأنيق و”موضوعي“ و”حداثي“ و”كوني“، وواحد وضيع وفوضوي ومختلط وحسي ومتناثر و”واقعي“ ومحلي، سيكون لدينا أيضا نوعان من الناس، بعضهم لهم السلطة والوجاهة والمعرفة، وآخرون عوام أميون[27]، لا ينبغي السماح لهم بالتصويت في انتخابات حرة، على ما أفتى قبل سنوات مثقف سوري مر بمدرسة ياسين الحافظ[28]. إن لم يكن سحق الأميين مرغوبا، فإنه لا مجال للاحتجاج ضده على أرضية ”الواقع الموضوعي“ و”المستقبل الماضي“! ومعلوم أنه لطالما كانت التاريخانية ضئيلة الحساسية حيال المعاناة والألم الإنسانيين. ماركس نفسه شاهد على ذلك في مواقفه من الاستعمار (البريطاني للهند والفرنسي للجزائر)، ومن تطور الرأسمالية في أوروبا ذاتها (في ”البيان الشيوعي“، وليس في ”الرأسمال“)[29].

الكونية هي الإيديولوجية التي تموه تكون قطاع امتيازي مفرط في امتيازيته في الأعلى، وقطاع واسع من العموم المفقرين والمحتقرين. فرص العموم في التحضر مرهونة بتسليمهم بهيمنة الكونيين، أما تمردهم فمؤشر قاطع على ظلامية وقدامة متأصلتين.

في السنوات المنقضية من هذا القرن ظهر بوضوح بعد تمييزي وتسلطي لهذا الموقف، نخبوية يمينية متقززة من الجمهور العام، ورثت نخبوية لينينية (بصيغة ”الطليعة الثورية“)، لكنها لم تعد تبالي حتى بـ”نقل الوعي“ لهذا الجمهور الغافل[30]. تكتفي بتقريعه ونصب أسوار فاصلة بينها وبينه، وتجد نفسها على قرب من مراتب السلطة العليا في بلداننا، ولا تخاطب غيرها[31].

تحققت الطوبى، وانقلبت

اليوم، يبدو أن البرنامج التاريخاني الموضوعي المستخف بالواقع، أي بشروط الحياة الفعلية، ينقلب على ذاته معرفيا وسياسيا معا. آل الحداثيون المناضلون إلى التصديق على عقيدة الخصوصية التي ينطلق منها الإسلاميون، عبر جعل ”الإسلام“ التحديد الجوهري لمجتمعاتنا، وإن أضفيت على هذه الروح سمات شيطانية (ظلامية، أصولية، تعصب…). هذا شيء لا يشارك فيه العروي، لكن لا يوفر تفكيره أية ضمانات ضده. والأصل المشترك لافتراض الخصوصية هو إنكار الصفة المركبة للواقع وإغراقه في تأخر متجانس مرة، وفي هوية ثقافية أو دينية متجانسة مرة أخرى. في هذا يخون الحداثيون الحداثة نفسها. فهذه مضادة جوهريا للخصوصيات، تشرح المجتمعات والثقافات بعقول متعددة، لكنها عامة، هي العلوم الاجتماعية من الجغرافيا والديمغرافيا إلى الاقتصاد السياسي والسوسيولوجيا والسياسة والجغرافيا السياسية، والتاريخ.

في واقع الحال، ”الحداثة“ و”الغرب“ و”المستقبل الماضي“ عناصر مكونة لواقعنا الواقعي، وليس لـ”لواقع الموضوعي“ وحده. نحن مندرجون بصور متنوعة في العالم، وعلاقتنا بالغرب ليست قومية، أو منضبطة بثنائية داخل/ خارج الخاصة بالإيديولوجية القومية، لتنضبط أيضا بمدركات من نوع ”المستقبل الماضي“، و”التأخر التاريخي“ و”القدامة“، الخاصة بالإيديولوجية الحداثية.

وفقدان الواقع لثقله أو بنيته الذاتية الذي يدفع بعضنا إلى ”تاريخانية معكوسة“، تجعل من ”السلف“ ”سقف التاريخ“، هو ذاته ما يدفع بعضا آخر إلى تاريخانية منتهية، افتراض الإقامة على ”سقف التاريخ“، والصدور عن معاصرة ناجزة للغرب الراهن. يتعلق الأمر هنا بمثقفين ينجحون في إلغاء التفاوت الجغرافي والاجتماعي والسياسي والثقافي، أي التاريخ ذاته. يجري الحديث عن ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، عن فوكو وليوتار، كأنهما من ”أولاد حارتنا“. لا فرق، لا مسافة، لا موقع، لا تاريخ. يتساءل العروي: ”كيف نكتب مثل بالزاك في عهد بروست، مثل شكسبير في عهد بيرانديلو، مثل موباسان في عهد همنغواي؟“[32]. لكن كيف نكتب في المغرب مثل بروست في فرنسا، في سورية مثل بيرانديلو في إيطاليا، وفي مصر مثل همنغواي في أميركا؟ لا نلغي مفهوم التاريخ إن أنكرنا تفاوت الأزمنة وتداخلها، لكن كذلك إن أنكرنا تفاوت المواقع وحركيتها.

وإلى الانقلاب المعرفي، ألمحنا فوق إلى الانقلاب السياسي للحداثية، وهي تاريخانية متخففة من أي هم إصلاحي عام. هذه الإيديولوجية التي تتكتم على كل ما هو اجتماعي وصراعي في الواقع، وعلى قضايا العدالة والقيم عموما، لا يمكن المبالغة في أضرارها، وانحيازها الاجتماعي المتأصل للغرب الداخلي والغربي، انحازت نسقيا قبل الثورات العربية ضد المهمشين والمفقرين و”المتخلفين“، وإلى طرف طغم الحكم الأشد فسادا واستبدادية في العالم العربي، دون ما يؤشر على اهتمام، ولو بلاغي، بفرص عموم الناس في المساواة والعدالة والحرية.

افتراض تجانس الواقع واستغراقه في تأخر متماثل، قلما يتأخر عن الرسو على ”الإسلام“ (وهو هوس الحداثية المتمكن، هنا في العالم العربي وفي الغرب)، يخلق مساحة مشتركة واسعة مع المنازع الطائفية الناشطة في المشرق. يغدو ”الإسلام“ اسما مشتركا للاستغناء الكسول عن أية معرفة أوسع بأوضاعنا المعاصرة، ولموقع يسهل تسويقه دوليا في الصراعات الاجتماعية والسياسية الداخلية.

وحيال وحدة الواقع وتجانسه، سوف يكون اللجوء إلى مثال خارجي، ”الغرب“، المتجانس بدوره، شرطا للمعرفة والسياسة معا. ومن هذا الباب يعرض حداثيون مطلقون ضيقا بالتمييز بين غرب وغرب، يتناسب طردا مع نزوعهم الثقافوي وميلهم إلى رد أحوالنا الحاضرة إلى ”الإسلام“[33]. لا يصدر هذا الموقف عن إنكار وجود فوارق ضمن الغرب، بل عن احتياج منطق التعبئة إلى مضاءلة هذه الفوارق قياسا إلى الفجوة الواسعة بيننا، ”الإسلام“، وبين الغرب. ما الداعي إلى تعقيد الأمر وإدخال الكثرة والنسبية إلى الغرب، حين نحتاج إلى وحدته وتماثله مع ذاته، من أجل تجسيم الفرق بيننا وبينه؟ من أجل التعبئة والتحريض؟ الهدف تعليمي.

لكن هذا في البداية فقط، وفي الأساس المنطقي. شيئا فشيئا يظهر للوضعية التعليمية محتوى سلطوي. المعلم ممتاز ومتفوق، والتلميذ جاهل وتابع. ما الذي يضمن، إذن، ألا يحاول المعلم الحفاظ على جهل التلاميذ من أجل أن يبقيهم في وضع تلمذة دائمة، كمصدر لعلاقة تبعية؟ وقد ينتج لهم، أو يسهم في إنتاج، ما يلزم من ”إسلام“ كمنبع للجهل اللازم؟ ليس للأمر علاقة باشتباه في النيات، بل بمنطق الوضعية التعليمية السلطوية: نريد ظلاميين لننوِّرهم، لكن ماذا نفعل إن تنوروا؟ ألا نكون أحوج إلى ظلاميتهم منا إلى استنارة لا يستحقونها، ونخسر انفرادنا بالنور إن تحققت لهم؟ لن يقال بالطبع إن المراد فعلا هو الامتياز السياسي والاجتماعي، وإن حماية الامتياز تقتضي إنتاج ما يلزم من قدامة أو ظلامية أو أصولية، البرابرة المناسبين لتسويغ تحصين الامتياز والسيطرة على العامة. ماذا تفعل الأرستقراطيات الرثة الجديدة دون البرابرة؟ إنهم نوع من الحل[34].

الإسلام غير موجود حين تكون السياسة ممكنة

من أي موقع يتكلم العروي؟ من موقع عربي عام. لا يظهر في طرحه أننا نشغل مواقع في بلدان بعينها، في أوضاع عينية محددة سياسيا بشدة. في ”الإيديولوجية العربية المعاصرة“، يرى أن مصر ضعيفة الصفة العربية (مصر الناصرية في الستينات)، لكنه يفسر تمسكها بالصفة العربية بحاجات العمل ومنطق ”الدولة القومية“. يعيد على هذ النحو الاعتبار للتجانس العربي. إنه لازم كشرط إمكان لخطابه العربي العام. هذا اللاموقع، إن جاز التعبير، يكمل مفعول خلخلة الحاضر الذي يقوم به مفهوم المستقبل الماضي. إنكار البنية السياسية للواقع، أي أيضا الصراعية والكثروية، محدد أساسي للبرنامج التاريخاني الذي ينزع بالمقابل إلى تعريف الواقع تعريفا ثقافيا: ”العرب“. والعرب لم يكونوا إطارا لحياة اجتماعية أو إنتاج مادي أو فاعلية سياسية يوم ألف العروي كتابه عام 1967. وهم اليوم أكثر بعدا عن الصفة السياسية. يختزل العروي بصورة مجادل فيها تماما في ”الإيديولوجية العربية المعاصرة“ الإطار العربي العام إلى مصر، ومنها يتحول إلى المغرب. لكن هل يصح ما يقال في الكتاب عن سورية؟ عن العراق؟ عن لبنان؟ عن السودان؟ عن السعودية؟

ما كان في وسع العروي أن يبلور مذهبه التاريخاني إلا بافتراض وحدة العرب في ثقافة مصنوعة في مصر التي ورثت الموقع الصانع لثقافة عربية، سبق أن صنعت ذات يوم في الحجاز، أو ُرّدت إليه. كان هناك مشروع فعلا، المشروع الناصري، بناء دولة قومية مصنعة في مصر مع تطلع إلى وحدة عربية من نوع ما، ولعل العروي تطلع إلى أن يكون فكره هو الوعي المطابق لحاجات تحقق هذا المشروع. لكن الانهيار السياسي للمشروع يظهر تناقضات الفكرة التي يقوم عليها. ومنها بخاصة عدم رؤية الواقع الواقعي المتمثل في بلدان ومجتمعات ودول قائمة، لسكانها حاجات مختلفة ويواجه كل منها تحديات مغايرة لغيره. لا نعترض على العمومية العربية لفكر العروي من موقع ”قطري“ أو ”ضد قومي عربي“، بل من موقع اجتماعي، يرى السكان وجهود السكان لامتلاك السياسة والحياة في أطر مختلفة. فكر العروي يضحي بالواقع كسياسة، ويضحي أكثر بالسياسة من تحت لمصلحة السياسة من فوق. فإذا كان المنطلق هو التحت الاجتماعي نجدنا في غمار صراعات مختلفة، لا تتطلع إلى ”التقدم“ و”العقلانية“ و”الحداثة“، بل إلى العمل والتعليم والخبز والسكن والصحة و… حريات التفكير والتعبير والتنظيم والاحتجاج، والتصويت. نطاق هذه المطالب هو الدولة القائمة، وليس ”الوطن العربي“. وحيال هذه الدولة التي تشكل واقعنا الأقرب، الواقعي، ما قد يجدي للتحرر، ولحداثة متحررة، هو طلب العدل، كفاح باسم المساواة، باسم طعام كاف ومسكن لائق وتعليم مساو، وفرص عمل، وحريات عامة حقيقية. تقرير المصير والتحكم بالحياة.

وبمجرد أن ننطلق من هنا، سنتبين أن ”الإسلام“ غير موجود تقريبا، مجرد اسم آخر لمعرفة تعميمية كسولة لا تصلح لشيء، أو لثقفنة الصراع السياسي، بل تطييفه. ما هو موجود هو أفراد وجماعات تحركهم مطالب حياتية وسياسية متنوعة.

مقابل تاريخانية العروي ومستقبله الماضي، ليس ثمة بديل في تصوري عما يثمره الانخراط في صراعات اليوم من تمرس معرفي وسياسي وأخلاقي ووجودي. لا انعزال ولا انفصال، ولا هجرة إلى الغرب أو الغيب أو السلطان. التمرس واكتساب الأهلية لمواجهة الصعوبات والتحديات، هنا والآن، هو ما قد يمكننا من مواجهة تحديات أبعد. أما تنكب الواقع وصراعاته فلا يؤدي إلا إلى خرع معمم، معرفي وسياسي وأخلاقي ووجودي، ضرب من قزامة بنيوية على جميع المستويات.

تجاوز المتأخرين

في نقده لتاريخانية العروي كان عزيز العظمة رأى البنية السياسية للواقع[35]، لكنه قررها تقريرا عارضا وسجاليا، ولم يبن عليها شيئا من جهة، وظلت سياسة الفوق المشدودة إلى ”الدولة“ من جهة ثانية. أعماله اللاحقة تشارك تاريخانية العروي التكتم على الصفة السياسية المركبة للواقع. أقصى ما يراه العظمة هو أن هناك دولا، وتنال ثناءه عموما قياسا إلى ما تحكم من مجتمعات[36]، أما الطبقات والمحلات والعشائر والطوائف، وحتى الناشطون والمثقفون المقموعون، فيقعون خارج الساحة البصرية لمنظوره، هذا حين لا يدينهم بوصفهم معادين للدولة. والمجانسة الثقافية التي ينسبها إلى الدولة (دون تمييز بين مفهوم الدولة المجرد وواقع الدول الفعلي)، ويراها شيئا مرغوبا بشدة، هي افتراض يمكنه من اعتناق عقيدة ”العلمانية“ التي تتصف ”مسيرة التاريخ الكوني [بأنها] آيلة“ إليها، علما أن ”مسيرة التاريخ العربي محكومة بهذا المسار“، هذا على الرغم من ”الصراعات الطبيعية التي تستثيرها هذه المسيرة مع القوى المحافظة التي أضحى الدين علما

عليها، وبالرغم من إعادة الاعتبار إلى مؤسسات دينية خالية وإلى عقل ديني بال في مجال الصراعات السياسية“[37].

نجد هنا كل المتاع التاريخاني في سطرين أو ثلاثة. المسيرة والمسار، والتاريخ الكوني الآيل إلى سقفه العلماني، والتاريخ ”العربي“ (الدول الاثنتان وعشرون شيء عارض، رغم أن المؤسسات ”الخالية“ والقوى الاجتماعية ”النافلة“ والعقل ”البالي“ لا توجد إلا فيها)، فضلا عن ”الدين“ الذي هو علم على المحافظة، على نحو ما هي العلمانية علم على التقدم ومسيرة التاريخ الكوني. احتمال نزعة محافظة حداثية، بل فاشية، غائب بقدر غياب إحالة السياسة إلى مجتمع بعينه وصراعاته الفعلية. لكن سياسة العظمة لا ترسو على غير هذا الاحتمال الغائب. هذا ”مكتوب“ في هوس الحداثية بالإسلام، هوس يشارك فيه العظمة، وقد قاد في سياق الثورة السورية إلى اختزال الصراع إلى النظام وداعش أو النظام والقاعدة من جهة، وإلى بناء تحالف محلي وإقليمي ودولي عريض، عابر لليسار واليمين، منحاز إلى فاشيي ربطة العنق ضد فاشيي اللحية. يصعب تصور ذروة أعلى للحداثية.

لا شيء ديمقراطياً أو تحررياً في هذه السردية عن المسيرة والمسار والتاريخ والكوني، ولا مكان لعموم الناس. الواقع أنهم غير مرئيين إطلاقا في عمل العظمة. مثله مثل عموم الحداثيين والتاريخانيين والثقافويين، يرون ”الدولة“ و”الإسلام“ و”العلمانية“ والإسلاميين، ويمكن أن يروا المجموعات ”الديمقراطوية المعادية للدولة“، لكن ليس بحال عموم السكان، أو أي شيء عن الحياة اليومية، أو أي وصف لخبرة حية.

لا مكان للسياسة لأنه لا مكان للمجتمع. هنا مفارقة التاريخانية: كلها سياسة وتعبئة وعمل لتجاوز التأخر، لكن سياستها لا تحتاج في شيء للمتأخرين العيانيين.

هم التأخر، والمطلوب بالأحرى تجاوزهم!

تأسيس الإرهاب

الاشتراك الأساسي بين التاريخانيين، الصحيحين منهم والمعكوسين، الحداثيين والإسلاميين، يتمثل في صدورهم معا عن تخارج القيمة والواقع[38]. الواقع سيئ ومرفوض عند الطرفين معا. ولكون القيم منفصلة عنه، فإن العروي ينكر شرعية دراسته وضعانيا كما أسلفنا. الدراسة الوضعانية تفترض أن المجتمع المعني دوّن قيمه في مؤسساته، فلم تعد القيم إيديولوجية خاصة، وصارت معرفة المجتمع وصفا وشرحا لآليات عمل تلك المؤسسات. وهذا ليس حال ”المجتمع العربي“.

ليس حال أي مجتمع إلا في عرف إيديولوجيين وضعانيين محافظين.

لكن، بالمقابل، أليس تقرير خلو الواقع التام من القيمة مدخلا إلى العدمية؟ إن في صيغتها الإسلامية التي تقول إن مجتمعاتنا جاهلية كافرة، مستحقة للتدمير تاليا؟ أو في صيغة حداثية تراها مجتمعات مستباحة للقدامة والردة الدينية، ما يسوغ أشد القسوة في التعامل معها؟

التجسيد السياسي للعدمية في كل حال هو الإرهاب.

ليس هناك ما هو تغييري أو تحرري في هذا التكوين. إنه تكوين إرهابي يدفع ثمنه عموم الناس، ينتفع منه المتسلطون من الحكام والطوابق العليا من المجتمع، أو منافسوهم من الإسلاميين الذي يتطلعون إلى حكم امتيازي بديل.

من الممكن تصور سياسة أخرى، تنطلق من ”الواقع الواقعي“، وتحاول معرفته وضعانيا، وتعمل على تغيره. امتلاك السياسة، الاجتماع والكلام والاحتجاج، والانخراط في صراعات اليوم، والتحكم بشروط الحياة، وجهة ممكنة لسياسة تحررية بديلة، ومن تحت. هذا المسلك الذي يبدأ من ”الواقع الواقعي“ متواضع، لكنه تحرري وديمقراطي جوهريا. ويفتح مجالا واسعا للرسوخ النفسي والسياسي والوجودي، وللتطور الإنساني، ولظهور رجال ونساء أفضل. المسلك المعاكس، التاريخانية بجهتيها، الحداثية والإسلامية، تغييري عرضيا ومحافظ جوهريا. التحرر غير ممكن هنا. والرسوخ أيضا.

أفق للحرية

ما يمكن ترتيبه على هذه المناقشة:

1. من اعتبار الواقع بلا قوام ذاتي نتأدى إلى معرفة بلا موضوع، وثقافة بلا صلابة، وسياسة بلا ضوابط، ووجود متخلع بلا ركائز، وسيكولوجية مخلخلة بلا كثافة، وأخلاقية بلا تضامن. إنسانية مبعثرة لا قوام لها. هذا وجود وكيل أو من الدرجة الثانية؛ ومعرفة من الدرجة الثانية، أي إيديولوجية، مع استحالة الفلسفة؛ وسياسة من الدرجة الثانية، تبعية للخارج وقمع منظم في الداخل. الأصالة الوحيدة الممكنة في هذا العالم هي إيديولوجية الأصالة، وهي وكالة وتبعية بلا نهاية.

2. ”ما نعيشه من أحوال الحاضر“ غير مستقل في الحالين، مرة يستتبعه الماضي ومرة المستقبل. ولما كان الحاضر موضوع السياسة والإنسانيات[39]، كانت هاتان ممتنعتين. ثم إن تغيير حاضر هش بلا كثافة لن يكون إلا تغييرا هشا وبلا كثافة، شيئا قابلا للتهاوي والنكوص دوما. مصير ”دول قومية“ مثل العراق ومصر والجزائر، وسورية، شاهد عليه.

3. سحب الثقة من ”الواقع الواقعي“ لا يؤسس لثقة بالعالم ولفاعلية في العالم. افتراض نقص العقل (وإن بصيغة نقص الدين) يحول دون فهم ما في الواقع من عقل، أو من عقول كثيرة، تشكل موضوع العلوم الاجتماعية. وتاليا، يمتنع فهم أي شيء، السياسة والدين والمجتمع والاقتصاد. يمتنع فهم الغرب أيضا، وإن بحؤول الكمال المنسوب لهذا دون رؤية تناقضاته وتاريخه و”نقصه“.

4. بينما يقود إنكار ”الواقع الواقعي“ لمصحلة غيب من نوع ما إلى العقم الفكري والمحافظة الاجتماعية والتسلطية السياسية والهشاشة النفسية والأنانية الأخلاقية وركاكة الوجود… أي النقص المستدام، فإن من شأن الانخراط في صراعات اليوم وتثبيت النفوس في الكفاح من أجل العدالة وضد التمييز وأشكال الظلم، هنا والآن، أن يكون السبيل إلى إنسانية أرسخ. الانخراط في الصراع، وليس التاريخانية، هو ما من شأنه أن يحرر المثقف العربي من شياطينه الداخلية التي تكلم عليها العروي قبل نحو أربعة عقود.

5. التقبل الأوسع للواقع الواقعي الذي يحيل إليه هذا النقد ليس محافظا إلا بالعرض، فيما هو تغييري في الأساس والجوهر؛ إنه ينفتح على الرسوخ في العالم والمشاركة في الصراعات الواقعية والتمرس بصعوبات الحاضر وممانعته، بينما يفضي تهميش الواقع، حتما، إلى خفة عامة، وإلى نزعة محافظة تسلطية، تناضل لحماية ما هو منظم ورسمي ونخبوي وفوق وحديث ومضاء.

6. ليست القيم محققة في أي مكان في العالم أو في أية حقبة تاريخية عرفها تاريخنا أو تاريخ غيرنا. لا نهاية للتاريخ. الغرب ليس كونيا، إنه تشكل تاريخي ناقص. وكل لحظة هي جديدة، وليست نسخة ثانية للحظة سبقتها في الغرب. لا حرية ممكنة على أرضية ”المستقبل الماضي“.

7. نعيش في واقع سياسي، وليس ثقافيا. في بلدان بعينها، سورية أو مصر أو المغرب…، وليس في ”الوطن العربي“. هذه الواقعة منطلق كل سياسة وكل عمل تحرري. ولا تنضبط العلاقة بين البلدان العربية بنموذج تاريخاني. ليس أي منها هو ”المستقبل الماضي“ لغيره.

8. وفي هذه البلدان مجتمعات وتعليم وعمل وصحة وسكن وبطالة وجوع وفقر وقمع وتعذيب وقتل، وفيها حياة يومية، وحياة أسبوعية وشهرية وسنوية، وليس فقط تاريخ. وفيها حاضر وليس فقط مستقبل. موضوع السياسة والمعرفة هو الآن وهنا، وليس المستقبل والتاريخ وسردياتهما الكبيرة.

9. انقلب برنامج تحقيق الغرب إلى ضده. أنتج نخب سلطة عنصرية متوحشة، تعامل أكثريات مجتمعاتها مثل المستعمرين الغربيين وأسوأ. الغرب الذي تحقق استعمار داخلي، لأن المهمة التنويرية أو التحديثية تحتاج قوة من فوق لفرضها على المتأخرين.

10. انتهى البرنامج. المثقف الجديد يكافح من أجل امتلاك السياسة والحياة هنا والآن، في الوطن، في المنفى، وفي العالم.

[1] التاريخانية تاريخية مضاعفة، أو واعية بذاتها، تقرر الاكتفاء الذاتي للتاريخ ومحايثة مبادئه وأصوله ومعرفته له. لكن التاريخانية التي ينصب عليها النقد في المتن هي التي ربطها الأستاذ العروي بالتأخر، وشدها إلى ”مستقبل مستشرف“ محقق في نطاق آخر.

[2] العروي: الإيديولوجية العربية المعاصرة، الطبعة الثالثة، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 1995، ص 94. هذه الطبعة من الكتاب ترجمها العروي نفسه في ”صياغة جديدة“، متحفظا عن ترجمة المرحوم محمد عيتاني للكتاب عام 1970. وفي هذا ما يقول إنه مثابر على البرنامج التاريخاني، الأمر الذي أشار إليه باقتضاب دون توضيح في السنة والإصلاح (2008).

[3] العروي: العرب والفكر التاريخي، الطبعة الثالثة، دار الحقيقة، بيروت، 1980. ص 201–202.

[4] كتابه: التراث بين السلطان والتاريخ، الطبعة الثانية، دار الطليعة، بيروت، 1990. ص 105–127.

[5] الإيديولوجية…، م س، ص 167.

[6] المصدر نفسه، ص 94.

[7] المصدر نفسه، ص 168.

[8] المصدر نفسه، ص 169–188.

[9] الماركسية الموضوعية هي الدعوة التي يقتضيها الواقع العربي كي يتطور نحو مستقبله المستشرف، تمييزا عن ماركسية ذاتية، اعتقادية وجامدة، هي ما كان يتبناها الشيوعيون العرب. في عرف العروي الماركسية الموضوعية تتضمن الليبرالية والأنسية، وهي أقرب إلى تفكير ماركس الشاب منها إلى تفكير ماركس الكهل.

[10] المصدر نفسه، ص 203.

[11] الإيديولوجية…، ص 186.

[12] نفسه، ص 165.

[13] من الذاكرة، عن كتابه أزمة المثقفين العرب، ترجمة ذوقان قرقوط. اعترض العروي محقا على مستوى ترجمة هذا الكتاب، وغيره، وأكثر فصوله مضمنة في كتابه بالعربية: العرب والفكر التاريخي.

[14] العرب والفكر التاريخي، ص 153.

[15] من أجل تعرف الثقافوية وأمثلة عن ثقافويين سوريين، تنظر للكاتب: مذاهب المفكرين السوريين في الدولة العربية، العدد صفر من مجلة كلمن، بيروت، 2010. وكذلك: نظرية الحتمية الثقافية في الثقافة السورية، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=173134

[16] التعبير لهشام جعيط: أزمة الثقافة الإسلامية، دار الطليعة، بيروت، 2001، ص 100.

[17] لكن العروي فيلسوف في عدائه للفلسفة، وفي اطلاعه الواسع على السجل الفلسفي. حال الرجل في قضايا كثيرة يكذب مقاله.

[18] الإيديولوجية العربية المعاصرة، ص 166.

[19] نفسه، ص 188.

[20] تنظر مقالتي: ياسين الحافظ وعبدالله العروي http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=637097

[21] نفسه، ص 190.

[22] نفسه، 160.

[23] نفسه، ص 160.

[24] صلابة ”عزائم الثوريين“ هي ما يسوغ به العروي التأويل التاريخاني لماركس ويرفض التأويل الليبرالي المحافظ. العرب والفكر التاريخي، ص 172.

[25] الإيديولوجيا… ص 189. لكن فتوى العروي هذه تعرف العرب، مثل واقعهم، تعريفا موضوعيا، لا تعريفا واقعيا بحيث يشبهون العروي نفسه. يحصل أن عربا ”واقعيين“ يهتمون بدراسة واقعهم الواقعي، ولا تبدو هذه الدراسة معدومة القيمة.

[26] أنوه مجددا أن العروي حين يتكلم على الغرب أو أوروبا فإنه يحيل إلى الحداثة والعقلانية والليبرالية والعلمانية والبرجوازية، الغرب العام أو الكوني في تصوره، وليس إلى الغرب الخاص، الثقافي (يهودي مسيحي)، أو السياسي. تحقيق الغرب هو التحديث والعقلنة على هدي ما تحقق في الغرب. هذا في رأيي برنامج فوقي وغير ديمقراطي، لكن لا وجه عادلا لاستثمار إسلامي أو قومي عربي لنقد هذا البرنامج.

[27] سبقت الإشارة في المتن إلى ما قاله العروي عن أن من شأن استعارة عنصر بنيوي من مجتمع آخر أن تؤدي إلى ارتسام مجموع بنية هذا المجتمع الآخر في أفق المجتمع المستعير. وسياق تفكيره ككل يوحي أن العنصر المقصود ثقافي وفكري. الإيديولوجية..، ص 28. يضيف: ”يوجد حقا في صلب كل دعوة [إيديولوجية] مدلول طبقي، لكنه غير ناشئ عندنا. بل يمكن القول إن ذلك المدلول المستوحى من الخارج هو الذي يساعد المجتمع العربي، دون أن يكون وحده العامل الأول والفعال، على أن يتمايز وتتبلور فيه الطبقات“، ص 61. أريد القول إن تشكل مجتمعاتنا المعاصرة من طابقين، نخبوي ممتاز وأكثري مفقر ومحتقر هو التمايز الطبقي الذي يرتسم في أفق مجتمعاتنا بفعل تحديث مشدود إلى مطابقة ”المستقبل الماضي“ لأوروبا، وعقلنة وعي النخبة، وليس بعدالة أكبر للسكان وحريات وأكبر وتعليم أفضل وتحكم أوسع بشروط الحياة الفعلية.

[28] جورج طرابيشي: في ثقافة الديمقراطية. الطبعة الأولى، دار الطليعة، بيروت، 1998؛ ص 22. جدير بالذكر أن دستور 1950 في سورية نص على وجوب محو الأمية تماما خلال عشر سنوات!

[29] انظر للعروي: مفهوم التاريخ، الطبعة الخامسة، المركز اثقافي العربي، بيروت، 2012، ص 373.

[30] معلوم أن نظرية التنظيم اللينينية المضمنة في كتاب ”ما العمل؟“ تعول على بناء طليعة ثورية تتولى نقل الوعي إلى الطبقة العاملة من خارجها. دون ذلك، الطبقة العاملة غارقة في المطلبية والتريديونيونية أو النقابية الضيقة.

[31] اهتدى العفيف الأخضر، وهو مثال عن هذا المسلك، إلى مخاطبة رؤساء دول وحكومات، اليمني والسوري والتركي، في رسائل مفتوحة ينصحهم فيها بتحديث بلدانهم. ليس هذا بالشأن العارض، إنه وثيق الصلة بفلسفة العفيف التحديثية الفوقية واللاديمقراطية جوهريا. الأخضر مثال المثقف الذي يحكّم عقلانيته الذاتية بواقع بلدان مختلفة لا يعرف عنها إلا القليل. ويظن أن مدركات مثل التخلف ومعادلاته، مشروحة بلغة الثقافة، تغني عن معرفة التفاصيل، أي ”الواقع“. تراجع قائمة ببعض مواده على الرابط التالي http://www.ahewar.org/m.asp?i=37 واللافت أنه تغيب من هذه القائمة رسالته إلى بشار الأسد التي ينصحه فيها بتحديث عملية صنع القرار في سورية: http://www.metransparent.com/old/texts/lafif_lakhdar_letter_to_assad.htm

[32] الإيديولوجية العربية المعاصرة، ص 21.

[33] من أجل نموذج نضالي رث، تنظر مؤلفات ومقالات شاكر النابلسي. المقالات متاحة على النت على الرابط: http://www.ahewar.org/m.asp?i=171

[34] بتصرف من ختام قصيدة ”في انتظار البرابرة“ لقسطنطين كفافيس، الشاعر اليوناني. ترجمة: رفعت سلام http://almashhad.net/News/36528.aspx

[35] العظمة، المصدر نفسه.

[36] ينظر بحثي: مذاهب المفكرين السوريين في الدولة العربية، مصدر سبق ذكره.

[37] العلمانية من منظور مختلف، الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992. ص 197. ورغم أن العظمة يقول كلاما آخر في ”دنيا الدين في حاضر العرب“: ”اعتبارنا للعلمانية ليس اعتبارا ناجما عن سياق نظرية شاملة للتطور التاريخي، أو في مجرى عقيدة جبرية“ (ص 51، من الطبعة الثانية، دار الطليعة، بيروت، 2002)، إلا أن الهيكلة العامة لتفكيره تبقي هذا الاستدراك الأخير شكليا. النضالية والتصلب النفسي الواسم لنصوصه و”مسيرة التقدم“ (ص 32) التي يحتفي بها لا تتوافق مع تصور غير حتموي للعلمانية. في موقع آخر من الكتاب نفسه يقول: ”وأرجو الانتباه إلى أني لا أفترض مسارا تاريخيا متسقا ومتساوقا هو الحداثة، بل إني أفترض وجهة تاريخية، لها طرف محدد، تغلغل في المسارات التاريخية الأخرى على نحو مقرر، لا انفكاك عنه، وعلى جميع الصعد“ (ص 162). أقل ما يمكن أن يقال هو أن هذا الكلام غير واضح فيما يريد، يتردد في نفي شيء وفي تقريره معا.

[38] يتكلم العروي على التخارج في كتابه ”مفهوم الدولة“.

[39] يقول العروي في كتبه ”مفهوم الحرية“ إن الاهتمام بالإنسانيات مؤشر على طلب الحرية ووعي الحرية في المجتمع. لكن برنامجه التاريخاني يقوض أسس الإنسانيات، ويتعارض مع أية سياسة للحرية، كما حاولت أن أظهر في المتن

Read more: http://www.kalamon.org/articles-details-242#ixzz3gzxIfA15
(Kalamon: http://www.kalamon.org)