لا شك أن التجديد الديني مطلب ملحّ وراهن، وأنه لم يعد ترفًا لمتفكّهين، ولكن الخطوة الأساسية في مسعًى جليل كهذا تحتاج إلى تفكيك للمفهوم، من أجل تمثله تمثلًا مفهوميًا يمكّن من الإحاطة به، ولا يكفي أخذه مجملًا من دون تبصر، ولا امتطاء صهوته من دون سرج.

ولا يكفي -بطبيعة الحال- محاكاة التجديد الديني الذي حدث في العالم المسيحي؛ لأن الموضوعين مختلفان، والسياقين متغايران.

أما تفكيك المفهوم، ففحواه أنه ينبغي إدراك متعلّق التجديد، أهو في الأصول أم في الفروع، في السياق الإسلامي، ولا نقصد به المعنى اللغوي، وأما الديني فالمقصود تحديد أي مقوم من مقومات الدين هو الذي يحتاج إلى تجديد: المعتقد أم التشريع أم الفقه أم هذه الحقول مجتمعة.

وأما اختلاف السياقات، فإن من الضروري إدراك أن التجديد المرتجى في سياق إسلامي يتعامل مع نص مقدس متواتر، سُمي بالذكر في سياق التعهد بحفظه، في تعبير لا نبالغ بوصفه بالمعجز؛ لأن الذكر مصدر للذاكرة، ومن معانيه التلفظ، وموثوقية الخبر إنما تكون باجتماع مختلفين في إدراك الحدث إدراكًا حسيًا، وبالاتفاق على تسميته لكيلا يتفاوت التصور الدلالي له عن الواقعيّ، وهذا ما يحققه تواتر هذا النص الذي من شروطه أن يكون مبتدؤه الحسّ. ومع سنة نبوية نُقلت بجهود لا نغالي في وصفها بالعبقرية، وأثمرت علم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل وعلم علل الحديث، وأصبح من التكلف الممجوج محاولة بعض أدعياء التجديد إنكارها بذريعة التاريخانية ونزول مرتبتها عن مرتبة القرآن وكونها صادرة عن بشر؛ لأن التشكيك في المتواتر منها يفضي حتمًا إلى التشكيك في سند القرآن؛ لأنهما يشتركان في جنس التواتر، والتشكيك في الصحيح منها، وإن كان واردًا على الإجمال؛ لأن الصحيح حديث آحاد، لا يمكن أن يكون ذريعة لنسف الحديث كله؛ لسبب بسيط وهو وجود تفاصيل الدين في السنة، ولأن في هدم السنة لذلك هدمًا للدين مقصودًا أو عن غفلة وجهل.

وليس التعامل -لأجل ما ذكر- في السياق الإسلامي، مع الدين نفسه الذي جرى التعامل معه في السياق الغربي، وهو دين في ذلك السياق، تعتور الشكوك نصوصه المقدسة، كما يقر المتخصصون فيه، ووصل الأمر ببعض هؤلاء المتخصصين في تاريخه إلى التشكيك بشخصية مؤسسه، إن لم يكن بمعنى إنكار وجود الشخصية، فبمعنى إعادة إنتاجها عبر التاريخ وإضفاء صفات خارقة عليها.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الدين في السياق الإسلامي قد فصّل في متونه العقدية مفهوم الله وصفاته وأفعاله، وحدد فيها معنى وجوده ومتعلقات صفاته وطبيعة أفعاله، وأصبح لزامًا على من يريد مقاربة كلّ منها أن يدرك الفرق بين الضرورة الأنطولوجية للوجود، والضرورة المنطقية للصفات والطبيعة الجائزة وضد السببية للأفعال. كما ارتبطت معرفة الأقنوم الأول هذا بموروث وجداني عبرت عنه أدبيات المتصوفة المحققين، بحيث أصبح العقل في هذا السياق قرينَ الخيال، والرمز الذي يصنعانه محور البحث، والمرموز الذي يسعيان إلى دركه منتهى السؤل.

لأن المهمة جليلة، ولأنها تتعامل مع تراث بالغ الغنى والثراء، فإن للتصدي لها أداتين أساسيتين: معرفة علوم الغايات: وهي علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والعقيدة. ومعرفة علوم الوسائل: وهي التجويد والقراءات وأصول التفسير ومصطلح الحديث وعلم الرجال وعلل الحديث وأصول الفقه والقواعد الفقهية والنحو والصرف ومتن اللغة والبلاغة.

لا بدّ لمن يتصدى للتجديد أن يتمتع بالقدر المطلوب من الحسّ الأخلاقي الذي يفرض احترام جهود الأسلاف الجبارة، ما صلح منها للاستثمار وما فقد صلاحيته، وألا يسكنه وهم القدرة على نسف هذه الجهود بجرة قلم وبتبريرات واهية.

ومن الضروري عدم الانطلاق في مسار عملية التجديد من مقولة جدلية تفرض نفسها على البعض كحقيقة نهائية، وهي أن الدين -من حيث جوهره- تعبير عن طفولة العقل البشري، والتعامل -بناء على هذه المسلمة المفترضة- تعامل استعلائي مع المنظومة الدينية ومع أصحاب الفكر الديني؛ لأن الانطلاق من هذه القاعدة مصادرة على المطلوب تُفقِد البحث تماسكه المنطقي ومبرره الأخلاقي.

ومن المهم أيضًا عدم الانطلاق من شعور مستحكم بالنقص تجاه المنظومات الأخرى، وعدم محاولة استرضاء أبناء الثقافات الأخرى باختراع تأويلات لا يملك مخترعوها القدر المطلوب من العلم بعلوم الغايات والوسائل. ولعل من التجليات التي يمكن النظر إليها بجدية محاولة نقد العقل العربي، التي تعاني، في وصمها العقل العربي المشرقي بالعقل البياني، شعورَ النقص تجاه العقلانية الغربية، عدا عن تعصب صاحبها المفضوح للمغرب، وهي -لانطلاقها من مسلمة تبخيسية لهذا العقل المدفوع بالنقص- تصف العقل العربي بالعقل الشغوف بالقياس، وهو ما كرره محمد شحرور، وهو وصف يُراد به الانتقاص من آلية عمل هذا العقل الذي صاغ أصوليوه، وفق منهج بالغ الدقة والإحكام، أداةَ تحقيق المناط التي يبحث الفقيه بموجبها عن متغيرات الواقع بأبعاده الثلاثة، استصحابًا للماضي واستصلاحًا للحاضر وسدًا للذرائع في المستقبل؛ من أجل إسقاط الحكم على المحلّ الذي يحمل حمولة من المعنى تجعله صالحًا لإسقاط الحكم عليه، ويصل في تردده بين الحكم والواقع إلى تحويل علة الحكم إلى أصل، وهي آلية تُفقِد اتهام هذا العقل بالشغف بالقياس على أصل مستندها، وهي محاولة عانت لدى صاحبها وبعض من ردد مقولاته نقصًا نبّهنا إلى ضرورة عدم تمكنه من المتصدين للتجديد، في وصمها للعقل العربي بالبيانيّ الذي ينحط عن العقل البرهانيّ، وهي مغالطة مصدرها الموقف الإطلاقي المستمد من منطق أرسطي عقيم، ومن تغافل أو غفلة عن وجود عقل تداولي في التراث الإسلامي، كشف أصحابه البيانيون اللوازمَ الميتافيزيقية للمنطق الأرسطي، وعدم صلاحيته خارج سياقه الثقافي والحضاري، فضلًا عن المغالطة المتمثلة في تسويد المنهج البرهاني الذي لا يمكن لأدلته أن تحتل موقع الصدارة؛ لوقوعها تحت سطوة اللغة الطبيعية التي تحيل الكلام في أوله غيره في وسطه، وخلافه في آخره.

يحتاج التجديد إلى الانطلاق من مقاربة الأصول، من أجل التجديد في الفروع بنصيب منضبط من الثقة التي لا تذهب بعيدًا، فتوقع صاحبها في الغرور المذموم، ولا تهتز فتعبر عن اضطرابها في نقص صريح، وهي مقاربة للأصول تحتاج إلى عُدة ذكرنا آنفًا أنها علوم الغايات وعلوم الوسائل، ولعل من الضروري أن نضيف إليها القدر المعقول من الاطلاع على الفكر المعاصر، الذي يمكن أن يمثل الاطلاع عليه إعجابًا وتقديرًا فائقين للتراث، ولما يمكن العثور عليه من تقاطعات بينهما، وسيكُشف من جهة أخرى عن جوانب قصور في هذا التراث تحتاج إلى معالجة جادة، و إلا فإن مدّعَيات التجديد ستتحول إلى سخرية بصاحبها وإلى تضليل للعوام، وسيتحمل من يضطلع بمهمة التجديد مسؤوليته الأخلاقية.

وقبل كل هذا، لا بدّ لمن يتصدى للتجديد أن يتمتع بالقدر المطلوب من الحسّ الأخلاقي الذي يفرض احترام جهود الأسلاف الجبارة، ما صلح منها للاستثمار وما فقد صلاحيته، وألا يسكنه وهم القدرة على نسف هذه الجهود بجرة قلم وبتبريرات واهية، وإلا فإن مطالبته باحترام جهوده هو ستتحول إلى مطالبة فاقدة شرطها الموضوعي ومبررها الأخلاقي.