القدس العربي
تناقلت وسائل الإعلام، الأسبوع الماضي، أخباراً وتحليلات بشأن حملات روسية حادة النبرة على بشار الأسد «الضعيف» و«غير المسيطر» على الأوضاع في سوريا، حسب تقارير صحافية نشرتها وسائل إعلام روسية مقربة من مركز القرار في الكرملين. وركزت تلك التقارير على فساد النظام والحكومة ورئيسها عماد خميس، مقابل وصف رأس النظام بالضعف، والاقتصاد السوري بالحاجة إلى إعادة صياغة من قبل روسيا. «وكما هزمت روسيا الإرهاب في سوريا، عليها أن تهزم الفساد بالطريقة نفسها»! حسب محلل سياسي روسي استأنس أحد التقارير برأيه. وتأتي «درة تاج» هذه الحملة في «استطلاع رأي» مزعوم أجرته مؤسسة روسية بشأن «مستوى شعبية» بشار الأسد، جاءت نتيجته بما يعزز من «مصداقية» التقارير، فقد أيد ثلث المستطلع آراؤهم فقط بشار الأسد، في حين عبر ثلثاهم عن عدم رضاهم عن أداء رأس النظام، علماً بأن الاستطلاع شمل فقط البيئة المؤيدة للنظام.
لا يعني تشكيكي بالاستطلاع أن نتيجته المشار إليها بعيدة عن الواقع، بل يعني عدم ثقتي بالجهة التي أجرت الاستطلاع. فأمامنا نظام دكتاتوري فظ يقيّم نظاماً يشبهه، وإن كان ضعيفاً وتابعاً له. بوتين وأركان حكمه الذين طالما دافعوا عن نظام الأسد في المحافل الدولية، وحاولوا تبييض صفحته السوداء وتكذيب كل التقارير الأممية أو تلك الصادرة عن جهات مستقلة بشأن فظاعات النظام، كالمجازر الجماعية واستخدام السلاح الكيميائي أو البراميل المتفجرة واستهداف المدارس والمشافي والأسواق الشعبية المكتظة بالناس، إضافة إلى الفظاعات المرتكبة في السجون والمعتقلات، وتهجير نصف السكان… وطالما استخدموا حق النقض في مجلس الأمن لإجهاض أي مشروع أممي يدين ارتكاباته أو يسعى لتأمين المساعدات الأممية، يأتي يوم يوعزون فيه لوسائل الإعلام التابعة لهم بشن حملة حادة ضد تابعهم في دمشق. بل إن بوتين الذي وثقت منظمات حقوقية دولية استهداف طيرانه المنهجي للمستشفيات في مناطق خارج سيطرة نظام بشار، هو آخر من يحق له أو يملك مصداقية تؤهله لشن حملة على تابعه المجرم في دمشق.
إذن هناك ما هو جديد مما استدعى شن هذه الحملة التي لا يمكن ردها إلى «صحوة ضمير» غير موجود أصلاً لدى القيادة الروسية. وعلى رغم أن السنوات السابقة، منذ التدخل العسكري الروسي في 2015، لم تخل من وخزات نقدية لنظام بشار سواء على لسان بعض أركان حكومة بوتين أو الإعلام المقرب منه، فهي لا تقارن بالحملة الجديدة من حيث قوة النقد والاستهداف. يمكن الحديث عن دافعين متداخلين وراء هذه الحملة: فمن جهة أولى لا يملك الروس «راحة البال» التي يملكها نظام بشار الذي لم يتأثر بطول أمد الحرب ولا بحجم الخراب العمراني والخسائر البشرية والتفكك الاجتماعي والانهيار الاقتصادي والتبعية لدول أجنبية واحتلال أجزاء من الأراضي السورية من قبل دول عدة.
فلا شيء يمكن أن يؤثر على نظام لا هم لديه إلا البقاء في السلطة حتى لو كانت سلطة على خرابة، وحتى لو كانت سلطة تابعة لدول أجنبية، وبصرف النظر عن استمرار حالة الخراب والفوضى إلى ما لا نهاية. أما روسيا بوتين فلا تملك ترف الانتظار إلى ما لا نهاية، بل تريد تتويج تدخلها العسكري بإنجاز سياسي ينهي الصراع ويلحق الكيان السوري بالدولة الروسية ويستعيد ما استثمرته من موارد كبيرة في الحرب على شكل استتباع للاقتصاد السوري وابتلاع ما يمكن ابتلاعه من موارد اقتصادية سورية.
روسيا لا تملك ترف الاستمرار في الوحل السوري وضخ المزيد من الموارد في الحرب أو في اقتصاد غير قابل للإصلاح بوجود سلطة إرهابية قائمة على مبدأ النهب والسطو، في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الروسي نفسه من آثار انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية مع انخفاض حاد في الطلب أيضاً بسبب تدابير مختلف الدول في مواجهة جائحة كورونا.
ومن جهة ثانية هناك التنافس المكتوم على التفرد بالخرابة السورية بين روسيا وإيران. إيران التي ترى أنها تزداد تهميشاً في القرارات الخاصة بالصراع السوري، على ما رأينا في اتفاق موسكو بين بوتين وأردوغان بشأن وقف العمليات العسكرية في منطقة خفض التصعيد الرابعة في محافظة إدلب وجوارها، تحاول عرقلة المساعي الروسية لتتويج تدخلها العسكري بحل سياسي، سواء بدعم بشار في محاولاته لعرقلة عمل «اللجنة الدستورية» أو بجعله لا يلتزم بوقف العمليات العسكرية في المنطقة موضوع الاتفاق الروسي ـ التركي. فقبل شهر زار وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو دمشق للضغط على الأسد لكي يلتزم بوقف النار في مناطق إدلب. أما اليوم، بعيد الحملة الإعلامية الروسية على نظام الأسد، فقد جاء وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف للقاء الأسد في بادرة دعم لـ » صموده» في مواجهة ضغوط حليفه الروسي.
ويمكن اعتبار التساهل الروسي مع تركيا في «منطقة خفض التصعيد» في إدلب وجهاً من وجوه الضغط على كل من إيران والنظام ليرضخا لمتطلبات القيادة الروسية للتحالف الداعم للأسد، فضلاً عن تشكيله رسالة استرضاء من موسكو لواشنطن التي لا تريد للصراع السوري أن ينتهي كما يشتهي بوتين. والمقصود بالتساهل الروسي هو مواصلة تركيا لحشد المزيد من القوات والآليات العسكرية وإقامة نقاط مراقبة جديدة، منذ توقيع الاتفاق الروسي التركي في 5 آذار الماضي. فخلال الأسابيع الستة المنقضية بعد الاتفاق المذكور، أقحم الجيش التركي 2700 جندي ليبلغ عددهم الإجمالي 10300، في حين بلغ عدد الآليات العسكرية، بما فيها الدبابات وناقلات الجند، التي تم إدخالها حلال الشهرين الماضيين، 6155. ومن جهة أخرى تواصل المدفعية التركية قصف قرى في مناطق حول تل رفعت ـ شمال حلب – تسيطر عليها الوحدات الكردية في إطار «قوات سوريا الديموقراطية».
ليس معروفاً الهدف، أو الأهداف، التي تسعى أنقرة إلى تحقيقها بزج المزيد من قواتها في إدلب أو ريف حلب الشمالي، وإن كانت موازنة قوات النظام والميليشيات الإيرانية هي النتيجة البديهية لهذا الحراك العسكري.