في ذكرى الجلاء تتداعى الأفكار وترسم فضاء يتجول فيه الفكر في مسارب التاريخ ومأساة الحاضر وغموض المستقبل.

ذلك الحدث الذي يحتفل بذكراه السوريون كحدث انبثقت عنه دولتهم الوطنية التي قامت بجهود نخبتها المدنية ذات الباع الطويل في النضال الوطني، والتي بذلت كلّ ما بوسعها لترسيخ استقلال القرار الوطني والدفع بالبلاد نحو الحداثة والشرعية الدستورية.

لو استيقظ هؤلاء المؤسسون من رقادهم وشاهدوا ما ارتكبته آلة الإجرام الأسدية بحق سورية والسوريين من مظالم لاستطابوا الموت وفضلوه على الحياة.

ربما يصلح لتفسير دورهم غير المقصود في المآلات المشاهدة اليوم ما يسمّى بنظرية الفقاعة والتي فحواها إحاطة الفقاعة بجرم المراقب الموجود داخلها حتى لا يستبين له ما خلفها ولا يتضح له ضغط القوى المحيطة بها إلا عندما تبلغ من القوة حدّاً كافيا لتفجيرها.

فبالرغم من نضالهم المستميت لانتزاع قرارهم فإن امتدادات القوى الإقليمية والدولية في الشأن السوري الذي تحول إلى ساحة للصراع بين الملوك في العراق والسعودية ومصر والأردن الموالي بعضهم لربيبته أمريكا والآخر لبريطانيا من أجل الاستئثار بالنفوذ على سورية والخروج بحلّ للقضية الفلسطينية لا يقضّ مضاجعهم ولا يهدد مصالحهم، واضطرار زعماء وطنيين لمنح الولاء للقوة التي ينزع إليها هواه ويركن إلى قدرتها على تحقيق مصلحة الوطن عقله، كانا عاملين أساسيين في تفاقم أزمة الهوية السورية منذ ذلك الحين وتفتيت قاعدة الإجماع الوطني وتدخل أجندات خارجية في سياساتها.

ووضع سورية الديموغرافي الذي لم يسمح بطمأنة الأقليات التي وجدت في الأحزاب الإيديولوجية منفذاً قادراً على إيصالها إلى عالم السياسة الرحب الكفيل باستنبات المصالح ما قبل الوطنية وإنتاش بذورها بما تسقى به من شعارات طوباوية كان من الممكن تحويله باتجاه مغاير لو لم يقصر إدراك هذه النخبة عن مفاعيله وتفاصيله وتعقيداته.

انصراف هذه النخبة وحاضنتها عن المؤسسة العسكرية وتركها ساحة للأقليات المعذورة في اندفاعها نحوها وترسيخ نواتها الصلبة فيها بسبب ما عانته من ظلم اجتماعي وتهميش طائفي ومناطقي واثني حوّل هذه المؤسسة إلى مفرخة لصناع الانقلابات التي اختتمها حافظ الأسد مستفيداً من كلّ أخطاء سابقيه ومكرّساً لنظامه السلطوي الذي استباح سورية الدولة والمجتمع.

ولم يكن لما جرى أن يجري لولا تفصيل يغيب عن وعي الكثيرين وهو بناء المؤسسة العسكرية بناء على نواة أساسية هي قوات المشرق الخاصة التي شكّلها الفرنسون من أبناء الأقليات والتي نشب خلاف بين زعماء تلك المرحلة بين مطالب بحلّها بسبب الشكّ في ولائها للأجنبيّ، وبين مطالب بالإبقاء عليها؛ لأن نسبة كبيرة منها ساهمت لاحقاً في النضال الوطني ضده وهو الرأي الذي تمّ تبنّيه وكان سبباً في تمهيد الطريق لأصحاب المشاريع الطائفية لكي يواصلوا نسج شبكات الثقة خاصّتهم داخل المؤسسة العسكرية وتغوّلها فيما بعد.

تغليب هذه النخبة المدنية لمصالحها عندما هدّدت من قبل التيارات الراديكالية ونكوصها عن مشاريعها الحداثية وما سبّبه هذا من استقطاب في الحياة السياسية السورية وجد له الراديكاليون والعسكر حلا بالاتكاء إلى ركن شديد هو مصر عبد الناصر وما تلا تجربة الوحدة من إجهاض التجربة الليبرالية الديمقراطية كان خطأ تاريخياً ارتكبته هذه النخبة ومسؤولية تاريخية تتحملها.

يقع على كاهل المعارضة الوطنية اليوم عبء فهم السيرورة التاريخية وعدم التقوقع داخل الفقاعة التي ينذر انفجارها بالانكشاف على واقع أكثر مأساوية.

فالحرب الدبلوماسية التي تخوضها والتي تتزامن مع ذكرى الجلاء، والتي يطبعها انكفاء الأمريكي وتعنّت الروسيّ وانتهازية الأوربي، ولا يتوانى فيها الصديق عن قبول تسليم الإرادة إذا وجد من يسلّمها إليه تفرض عليها تبصراً لا يشوشه خداع واستيقاظاً لا تشوبه غفلة، فمعركة الجلاء الحقيقية هي معركة اجتثاث نظام الإجرام من جذوره والإلقاء بكل رواسبه في مزبلة التاريخ، وهو ما يتطلّب فاعلين ذوي إرادة ومعرفة وقدرة على تصحيح مسار التاريخ وتصويب أخطائه وليس مجرد مناضلين بنيات طيبة.

 

رئيس التحرير