لم يكن سمير القصير مجرّد مناضل ومثقّف يساريّ دفع روحه ثمناً لمواقفه الشجاعة، وذهب إلى السماء التي كانت أليق بشاب رقيق وجميل وشجاع مثله، ولكنه مثل حالة متعيّنة لصراع التنوير مع الظلام، وحلقة مهمّة من حلقات مخاض عسير لاستيلاد الحرية من رحم النضال ضد الاستبداد.

سمير الذي ولد لأب فلسطيني وأمّ سورية كان أعرف من غيره -ربما بحكم هذا الواقع-بمعنى امتهان الحرية والكرامة وسلب الحقوق التي تمسخ بدونها إنسانية الإنسان.

وهو الذي عبّر بخطاب أنيق وشجاع عن كشفه لفوات اليسار العربي الذي تنازعه توجهان: توجه معاد للإمبريالية ومتحالف مع تيار “الممانعة” الإسلامي، وتوجّه حداثويّ ينظر بعين واحدة إلى قيم الحداثة الغربية غافلاً -بسبب عواره هذا-عن عيوبها.

فرفض القصير الصريح للعنصرية كان تعبيراً عن إدراك لما ينطوي عليه الوجدان الجمعيّ المسيحي في لبنان الذي يقول لسان حاله “نحن جزء من الغرب والمسلمون متخلفون” -حسب تعبير للمرحوم ياسين الحافظ-من استعلاء، وهو استعلاء لا يعدم بذوراً في قيم الحداثة الغربية تنتش بسهولة عند متلقّيها المستورد بدون تبصّر لها، لكي تتحوّل إلى موقف يوجّه سلوكاً ينضح بالعنصرية.

ونضاله من أجل مشروع الدولة -الذي تعيقه الميليشيا الطائفية ” الممانعة” في لبنان-إدراك لبؤس اليسار المتحالف مع هذا التيار الصنيع للثورة الخمينية بمشروعها الأيديولوجي الطائفي.

كان القصير مناضلاً يسارياًّ بالمعنى الحقيقي للكلمة عندما ربط بين مساري التحوّل الديمقراطيّ في سورية من جهة واستقلال لبنان من هيمنة الأجهزة الأمنية السورية الذي أخذت هذا البلد الجميل رهينة لها من جهة أخرى.

وفي الوقت نفسه لم تكن لتنطلي عليه الفكرة الزائفة عن تأجيل الديمقراطية بدعوى أولوية الصراع مع العدوّ الوجوديّ الإسرائيلي الذي لا يمكن مواجهته أصلاً بقيادة أنظمة شمولية تصادر دولها ومجتمعاتها.

اليساريّون الذي قادوا المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، والذين قتلوا في شوارع بيروت من أجل حصر شرعية المقاومة بحزب الله في البداية

ومن أجل قمع صوت الحرية لاحقاً، والذين مثل القصير أحد  أنصع نماذجهم، يمكن أن يؤسّسوا لمفهوم جديد للمقاومة تنسج بنيته الوطنيّة اللبنانية، والنضال من أجل الديمقراطية، والتشبّث باستعادة الحقوق العربيّة، والحرص على قيم العدالة الاجتماعيّة بدون التقوقع في خندق اليسار الأنتي امبريالي، أو اليسار الحداثوي ذي العين الواحدة.

المجرم الذي نفّذ جريمة اغتيال القصير كان مدركاً للخطر الذي يمثّله نموذج كهذا على مشروعه، فلا أخطر عليه وهو المقود ببنية أيديولوجية مصمتة من فكر كفكر سمير منسلخ عن الأيديولوجيا، وموجّه بقيم لا تدّعي القدسية، وتستمدّ قيمتها من مدى نفعها للقضايا التي تشتغل عليها، ومن سلوك نضاليّ يسترشد بهذه القيم التي يجدّدها احتكاكها المستمرّ بواقعها.

الفرد الحرّ الدائب عن تحقيق فرديته بجناحي الذاتية والعقلانية الذي كأنه نموذج سمير القصير، هو الذي اضطّر قاتله إلى ارتكاب فعلته، لأنه الكفيل بكشف عجزه، وهو الذي يريد التحليق بجناح الذاتية المهيض فقط بدون جناح العقل المتجدّد.

القابعون في أقبية الأمن شعروا بالضّعة أمام هذا النموذج القادر -إذا استمر محلّقاً بجناحيه-أن يساهم في صنع تاريخ جديد يغلق عليهم أبواب زنازينهم، ويجعلهم أثراً بعد عين.

في ذكرى استشهاد القصير نستنشق عبير الحرية من ابتسامته البريئة، ومن رائحة دمه الزكيّة ونقول له: لم ولن يذهب دمك هدراً فقد نهضنا من صمت الثرى لنحقّق الحلم الذي حلمنا به سويّة، فنم قرير العين يا شهيد لبنان وسورية.

رئيس التحرير