محمد فارس

أواخر أيار (مايو) الماضي، صعد مقاتلان من «حزب الله» اللبناني باصاً متّجهاً إلى إدلب عند حاجز التّكيّة، البوابة الغربية لمنطقة وادي بردى بريف دمشق الغربي. حاجز التّكيّة أحد الحواجز العسكرية الثلاثة التي تتحكم بقرى الوادي. والباص من عداد القافلة الثالثة ممن آثروا الانتقال إلى إدلب بعد المعركة الأخيرة (23 كانون الأول /ديسمبر) 2016- 29 كانون الثاني (يناير/ 2017).

تأكد المقاتلان من هويات المسافرين. من بينهم مسلحون معارضون مع عائلاتهم. آخرون أعادهم مقاتلو حزب الله إلى الوادي ممن هم دون السابعة عشرة ويرغبون في تجنّب الخدمة العسكرية الإلزامية. وبعضهم يريد أن يهرب خوفاً من «انتقام» الجيش الحكومي على رغم أنه لم يسجّل نشاطاً معارضاً لنظام الرئيس السوري بشار الأسد.

«الدولة السورية تريد أن يبقى أبناؤها فيها»، قال أحد المقاتلين اللبنانيين مخاطباً المسافرين بنبرة مهذبة. «نحن هنا لحماية سورية، ظهر المقاومة. وسنغادر حين نقضي على التكفيريين الذين جاؤوا من خارج البلاد وغرّروا بالناس. نريد أن تعودوا إلى بيوتكم معزّزين مكرمين».

 

شراء العودة

كان أسعد شفيع (37 عاماً) متكوّراً على نفسه في زاوية في الباص يودع بحزن زوجته وجدان متحدثاً إليها على جواله بصوت عال.

– «هل عليك مشكلة أمنية؟» قال أحد المقاتلين اللبنانيين.

– «لا!» أجاب شفيع.

– «إذاً، عُد إلى وجدان والأولاد، أشغلت بالهم» قال المقاتل مبتسماً.

لم يُصغ شفيع إلى المقاتل اللبناني وسافر إلى إدلب ومنها إلى تركيا.

عاش شفيع طوال السنوات الست الماضية قلقاً بعد اندلاع المظاهرات ضد نظام الأسد ربيع 2011. صحيح أنه لم يكن مسلحاً إلا أن خوفه ازداد بعد أن فقد أخوين مسلحين، سقط أحدهما في معركة ضد الجيش النظامي في جرود الوادي، في حين قُتل الآخر خطأً في مشاجرة لم يكن طرفاً فيها.

بعد بضعة أيام من وصوله إلى تركيا، قرر شفيع أن يعود إلى الوادي. فتوسّط والده، تاجر السلاح، لدى ضابط في الاستخبارات العسكرية السورية، ليسمح لابنه بالعودة. واشترط الضابط أن يكفل شفيعاً أحدُ أعضاء «لجان المصالحة الوطنية» الموالية في المنطقة. كان من يمكن أن يدفع والد شفيع 2,500 دولار أمريكي، لكن ذلك سيبقيه «مطلوباً للأمن» بحكم خروجه مع مسلحي المعارضة. إلا أن الضابط «رحّب» بإعادة شفيع إلى الوادي و «نظّف» سجله العدلي، مقابل قبضه مبلغاً قدره 10,000 دولار أميركي واستلام قطع سلاح روسية – رشاش دوشكا وثلاثة رشاشات بي كي سي و4,000 طلقة بندقية كلاشنكوڤ، إضافة إلى قلادة ذهبية. و«فتح [الطرفان] شغلاً في تجارة السلاح». في المقابل، «عاد شفيع إلى الوادي فصار منزله سجناً وأصبح هو مواطناً صالحاً مخصياً»، على ما يقول أحد جيرانه ساخراً.

في 30 حزيران (يونيو) قال الناطق باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) أندريه ماهيستش إن المفوضية «تشهد اتجاهاً ملحوظاً إلى العودة التلقائية إلى سورية وداخلها في عام 2017». وتقدّر وكالات الإغاثة بأن يكون هناك أكثر من 440,000 شخص نازح داخلياً قد عادوا إلى مناطقهم في سورية في الأشهر الستة الأولى من هذا العام مقابل أكثر من 31,000 لاجئ سوري من البلدان المجاورة حتى تاريخه خلال عام 2017. ومنذ عام 2015، عاد حوالى 260,000 لاجئ تلقائياً إلى البلاد، لا سيما من تركيا إلى شمال سورية. وتقول مفوضية شؤون اللاجئين إنه منذ ربيع عام 2011، فرّ 5,500,000 شخص إلى خارج البلد، فيما نزح 6,300,000 شخص بعيداً من بيوتهم داخل البلاد.

 

عودة إلى حضن الاستخبارات

بعد أيام من عودة شفيع توسّط «صحفي» موال للنظام لم تُعرف هويته لدى «جهات أمنية» ليدخل جميل وفهد، 32 و21 عاماً، في «مصالحة وطنية» ويعودا من إدلب إلى «حضن الوطن». إلا أن الاستخبارات العسكرية قبضت على الشابين حال وصولهما إلى دمشق. وكان الشابان قد خرجا مع مسلحي المعارضة في الدفعة الأولى التي خرجت من الوادي إلى الشمال السوري أواخر كانون الثاني الماضي. وسبق لأحد الشابين أن «بايع» تنظيم جبهة النصرة. فيما كان الآخر قد «بايع» تنظيم «داعش». وتمكّن تحالف فصائل معارضة محلية في شباط (فبراير) 2016 من القضاء على «داعش» وإلقاء القبض على كثير من عناصره في المنطقة، فيما تمكن بعضهم من الهروب إلى لبنان. وسلّم مقاتلون كانوا قد بايعوا التنظيمين أنفسهم إلى الجيش الحكومي إثر معركة وادي بردى الأخيرة مقابل تسليم قطع سلاح والتوقيع على أوراق «لتسوية أوضاعهم» القانونية. وانخرط بعضهم في القتال إلى جانب القوات النظامية في تدمر وريف حمص ودرعا والقابون وغيرها.

وتدخل إعلاميون موالون في الوساطة بين النظام ومسلحي المعارضة في مناطق عدة ومنها أثناء خروج مسلحي المعارضة مع عائلاتهم إلى إدلب. كما عرض بعضهم «خدماته» لإعادة الراغبين إلى مناطقهم. وفي 18 أيلول (سبتمبر) 2016، ترأست المذيعة في القناة الفضائية السورية الحكومية كنانة حويجة وفداً للنظام للتفاوض مع مسلحي المعارضة في وادي بردى. وشغل اللواء إبراهيم حويجة، والد كنانة، منصب مدير إدارة الاستخبارات الجوية السورية ما بين عامي 1987 و2002.

 

العودة إلى الخراب

عادت الحاجة فريزة، (61 عاماً) في أيار الماضي لزيارة منزلها في حي المحطة بمدينة الزبداني، 45 كيلومتراً شمال غربي دمشق. لا معالم تؤدي إلى منزلها ولا زاروب (طريق ضيق باللهجة المحلية). وقفت تقلّب ما تبقى من قطع الأثاث المحترقة. أحد ما استعصى عليه حمل الغسالة الكبيرة فاكتفى بسرقة محرّكها. الطبقة العليا التي بنتها في شكل مخالف للقانون لم تعد صالحة للسكن. السقف مطبق على الأرض وألعاب أحفادها الذين فرّوا مع والديهم إلى أوروبا مبعثرة هنا وهناك. لم يبقَ من الساعة ذات الرقّاص التي ورثتها عن جدتها سوى صندوق خشبي وبضع نوابض معدنية. خزانة عرسها محروقة ولا أثر للصندوق المصدّف. أغلب أشجار السفرجل والخرما في حديقة المنزل يابسة. بناء «السرايا» ومحطة القطار الأثريان شبه مدمرين. «ضاعت الذكريات مع تعب العمر ولا أحد يعوضني»، تقول الحاجة فريزة.

وفي 13 حزيران أعلن المحامي العام بريف دمشق عبدالمجيد المصري عن افتتاح المجمع القضائي في منطقة الزبداني، وأن عدداً كبيراً من الأهالي يراجعون المحكمة وخصوصاً أصحاب العقارات. وأوضح المصري أن المجمع القضائي السابق دمر بالكامل إلا أنه «تم إنقاذ عدد لا بأس به من الدعاوى». واحتفلت وسائل الإعلام الحكومية والرديفة «بعودة الأمن والاستقرار» إلى الزبداني، وعرضت تقارير عن «عودة المصطافين» إلى المنطقة. واستعداداً لـ «مهرجاني الزبداني وبلودان» تسعى الحكومة لإصلاح طريق دمشق- الزبداني وسكة القطار ما بين بلدة الهامة والزبداني.

تجلس الحاجة فريزة على رصيف أمام حديقة «المنشية» وتتمتم بحرقة أغنية شعبية للممثل والمونولوجست رفيق السبيعي (1930 – 2017) يقول مطلعها: «صفّر صفّر يا بابور وخدنا ع الزبداني… ببقين منعمل فطور العشا ببلودانِ».

الحياة