توالت فصول محرقة إدلب ومحيطها، في أسوأ حملة إبادة جماعية عرفتها الأزمة السورية، جنباً إلى جنب مع اشتداد وتيرة القصف الإسرائيلي للعديد من المناطق السورية التي تتمركز فيها الميليشيات الإيرانية. ولا تجد قوى الاحتلالين الروسي والإيراني ومعهما ميليشيا الأسد ومرتزقته، ضالّتهم سوى بزيادة منسوب الجرائم بحق المدنيين السوريين في بلدات إدلب وحلب ومحيطهما. وعلى إيقاع الرقص على خطوط التوتر العالي، وضمن مسلسل المناورات والمراهنات، يبرز التنافس المحموم بين المصالح المتعارضة في سباق مع الزمن لتحصيل المكاسب على الأرض، وتتحرك الدبلوماسيات الكبرى في محاولة لرأب الصدع وضبط ارتدادات الحريق السوري الذي يتطاير شرره في كل اتجاه لدرء مخاطره وتداعياته. فالاحتلال الروسي يصرُّ على تثمير بما كسبته آلته العسكرية، ويفضل حلَّ النزاع وفق مساره المفضل في “أستانا”، بينما تتمسك أنقرة بالعودة إلى خطوط “سوتشي” وترى مصلحتها من خلال قمة رباعية بحضور فرنسا وألمانيا. في حين يسعى حلف الناتو ومعه الاتحاد الأوروبي للإمساك بزمام المبادرة ومواصلة الضغط على الطرفين، أما واشنطن الحريصة على الاحتفاظ بعصا المايسترو في يدها، وإبقاء كلمتها هي العليا، فتعمل من خلال تكتيكات ومراوغات على ترك الأزمة السورية مفتوحة بين مختلف أطراف الصراع ووكلائهم المحليين، تحرق أصابعهم، وتغرق الجميع في مسلسل استنزاف بطريقة الإنهاك المتبادل لإنضاج الحل السياسي وفق شروطها.

  للاحتلال الروسي هدف واضح، هو إعادة تأهيل النظام، وهو على عجلة من أمره للانتقال من الجانب العسكري إلى السياسي، عبر الدعوة لإعادة الإعمار وعودة واللاجئين لتثبيت شرعية الأسد. لكنه – بعد أن خذله المجتمع الدولي في مسعاه – لم يجد بداً من مواصلة التصعيد العسكري لتأمين حضورٍ أوسع وأعمق في الملف السوري، قبل أن تؤتي الضغوط الأمريكية ثمارها في عزل وخنق نظام الأسد سواءً عبر قانون “قيصر” أو عبر حملة الضغط المتواصلة على حليفته إيران بعد مقتل سليماني، أو عبر تفارق المصالح مع الشريك التركي في مسار “أستانا” الذي أصبح من الماضي بعد المعارك الأخيرة في محيط إدلب الشرقي والجنوبي التي خاضتها قوى الثورة مدعومة بشكل كبير واستثنائي من تركيا، والخسائر الكبيرة التي ألحقت بالنظام والمليشيات المساندة له في هذه المعارك .

يدرك الجانب التركي أن حملة بوتين الأخيرة تستهدفه وتهدد بالإطاحة بكل ما أنجزه سياسياً وعسكرياً في سوريا، لأن خسارة إدلب تعني خسارة مناطق تواجده في درع الفرات وغصن الزيتون ودوره في الحل السياسي القادم، لذلك أطلق حملته ” درع الربيع ” التي رحب بها السوريون، لأنها تتضمن مساحة واسعة من المصالح المشتركة مع الشعب السوري وقوى الثورة والمعارضة، مع ما تحمله من رسائل سياسية داخلياً وإقليمياً وعلى المستوي الدولي.

 أما الاتفاقات الهشّة التي صيغت بلغة الغموض البنّاء فلم تكن وظيفتها سوى إخفاء حقيقة المصالح المتناقضة، والمناورة فيها بقصد تحقيق المصالح الآنية وتأجيل التصادم. وهاهو أردوغان اليوم يستشعر كلفة التقارب مع الروس بخسارة الأطلسي، وهو ما سمح لبوتين بالاستفراد به، ولا بد من توسل الدعم الغربي عموماً لمواجهة هذا الاستفراد بعد أن أصبحت تركيا تدافع عن نفسها بشكل مباشر.

  مع شديد الأسف، يركز الصخب الإعلامي الدولي والعربي على دراما التصعيد العسكري واحتمالات المواجهة المفتوحة بين روسيا وتركيا ، ويبرز تهافت العواصم الكبرى ومبادراتها “كلٌ وفق مصالحه” للمساهمة بتدوير الزوايا  دون اكتراثٍ للكارثة الكبرى التي يقع ضحيتها ملايين المدنيين في إدلبَ وعلى أطرافها، وهم يدفعون فاتورة الإجرام الوحشي للنظام وميليشياته، ونتائج الاحتلالات والتدخلات الخارجية بتعرضهم يومياً للقتل والتدمير والتهجير الممنهج على يد عصابات الأسد وإيران والاحتلال الروسي، عبر ترحيل عشوائي بقصد إفراغ المدن والبلدات من أهلها، ووسط آلام تفوق الوصف من برد وجوع ومرض وتشرد، وغياب الحد الأدنى من الدعم الإنساني والدور المطلوب من الأمم المتحدة والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان .

   ولعل الأمر الأكثر مأساوية أن كل ما يجري من صراع على الأرض السورية يتم بأدوات سورية وسط حالة من الغياب التام للحضور السوري الفاعل وقراره المستقل، حيث تستمر قوى الثورة والمعارضة وحاضنتها الاجتماعية في حالة من التذرر والتبدد قلَّ نظيرها، مما يعطي مبررات إضافية وغطاء شكلياً لتوقف العملية السياسية، ويضاعف من ثقل المعاناة التي يتعرض لها ملايين السوريين في جميع المواقع .