دخلت الثورة السورية، قبل أيام، سنتها العاشرة، في أجواء إحباط، يدرك الجميع أسبابه العميقة، والمتعددة، بعد أن عُقدت من أجل المسألة السورية عشرات المؤتمرات، وتشكلت عشرات الأحزاب السياسية، ومثلها تيارات وتجمعات وتكتلات، على أسس مختلفة. ولكن لم يفلح أحد منها على النحو المأمول. وتجري اليوم مراجعات كثيرة لمسار الثورة وما أحاط ويحيط بها، والحالة أو الأحوال التي آلت إليها. وأكثر من أي وقت مضى يُطرح السؤال التاريخي الذي كان قد طرحه ثوار وسياسيون ومفكرون كثر: ما العمل؟

على قدر صواب الرؤية الشاملة للحدث (ربما لم تر سورية مثله منذ قرن) تأتي الحلول. ولعلّ الحال السورية اليوم في أعقد مراحلها، إذ تسبح في فراغ لامتناه، قياساً لا إلى أحلام الشعب السوري، بل إلى ما قدَّمه من تضحيات، وما لحق به وبممتلكاته من خراب ودمار وأوجاع، لعلَّ أخطر ما فيها ذلك التفتت الذي لم يتناول البنى الخارجية أو الظاهرية، بل تعدّاها إلى أرواح الناس، فترك فيها ندوبَ جراحٍ تحتاج معها إلى معجزات لتمحو أثرها وتأثيرها! وقد كان الأمل ألا يطول الزمن بالثورة وأهدافها أكثر من أسابيع أو أشهر على أبعد تقدير، انطلاقاً من ذلك الزخم الجماهيري الذي لم تشهده سورية على ذلك النحو من القوة والشجاعة والفرح المفتقد أيضاً. كذلك لم يتوقع أحد أن يواجَهَ الشعب بتلك الوحشية غير المسبوقة، على الرغم من أنَّ مجازر حماة وسواها من المدن السورية لم تغادر أذهان السوريين منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي. ولعلَّ الشعب السوري كان من طيبة وبساطة، إذ اعتقد أن لديه دولة وقوانين ومؤسسات، يمكنها الاستماع إلى صوته الذي قمع خمسين سنة متتالية. وحتى شعار: “الأسد أو نحرق البلد”، على وضوحه، لم يكن الشعب السوري الطيب ليأخذه على محمل الجد، فهو شعار أحمق، تختبئ خلفه عقلية عصابة لا دولة. وما حدث فعلاً فاق كل تصوُّر إنساني، إذ أظهر النظام كل ما ينطوي عليه الاستبداد من بشاعة.

ويمكن القول إن الثورة المضادة بدأت منذ إطلاق الرصاصة الأولى على المتظاهرين، وكانت من القوة والرعونة وانعدام المسؤولية لتحويل الاحتجاجات السلمية الأولى، ذات المطالب المشروعة، إلى حربٍ أهلية، دوافعها أحقاد دفينة على سورية والسوريين. ولم تكتف الثورة المضادة بالمجازر والتهجير والتدمير فحسب، بل استعانت بالأجنبي الذي صبَّ أحقاده المضاعفة في الاتجاه نفسه، وليمتلك، في نهاية المطاف، البلاد وقرارها السياسي.

وبديهي اليوم أن يقال، وبالوضوح كله: الشعب السوري خارج أي قرار سياسي يتعلق ببلاده، فلا النظام الذي يزعم أنه انتصر في حربه القذرة تلك (إذا جاز استخدام مفردة النصر) يملك شيئاً من قرار البلاد، بل ما يملكه هو توزيع البلاد حصصَ استثمارٍ وقواعد عسكرية وحوزات دينية ومناطق سكنية للمليشيات وذويها مع دمار شامل للبشر والحجر. أما المعارضة فقد اختفى صوتها بالمطلق مع كلُّ تلويناتها ودكاكينها، وتنتظر بعد أن رهنت قرارها لهذه الجهة أو تلك أن تمنّ عليها تلك الجهات بفضلةٍ ما، إذا ما حان وقت القسمة.

ومما يؤسف له أن المعارضة التي خبرت النظام خلال أربعين سنة، وعلى الرغم من كل القهر المضاف، لم تستطع أن تشكل جسماً واحداً أو روحاً واحدة تواجه بها كتلة الاستبداد بدولتها العميقة التي ترسّخت عبر تلك السنين. بل تشرذمت المعارضة وتفتَّتت، ونال بعضها من بعض. وليس كذلك فحسب، بل ساهمت إلى جانب النظام بتفتيت المجتمع بمؤتمراتها التي عقدت على أسس دينية أو قومية أو طائفية، ما سمح في المجال لغلبة الثورة المضادة، فالمعارضة لا تملك، في النهاية، غير وحدتها لكسب السوريين إلى جانبها، مهما طال الزمن، بالثورة السلمية، لكنها منذ البداية وقعت في طين مستنقع التسلح الذي أعدَّ لها فخاً محكماً. وعلى كل حال، ومهما كان من أمر الثورة اليوم، هي لم تنته، وستحقق أهدافها في الحرية والديمقراطية، فهي لا تزال حلماً مشرقاً في أذهان ملايين المشرّدين، وفي صدور الملايين الآخرين في داخل البلاد، هؤلاء الذين يعانون فقدان أبسط شروط الحياة. وأما النظام المتجبّر فقد حمل أوزاراً أضعاف ما كان يحمله قبل العام 2011، ما استدعى خروج المتظاهرين، ربما تأثراً بالربيع العربي الذي أنهى نظامين استبدادين، أقل أو أكثر من النظام السوري، ليصرخوا بالحرية التي تنطوي على مطالب كثيرة، كانت طافية على سطح الواقع السوري، ويلمسها كل من يهمه الشأن السياسي والمجتمعي، ولا ضرورة للخوض في تفاصيلها.

اليوم وقد غاب صوت المعارضة السورية، ولم يعد لها حضور في قيادة العمل الوطني كما كان في البدايات، من خلال الشارع السوري المنتفض، (المجلس الوطني يمثلني)، يبدو أنَّ صعوبات جمّة أمام تأمين شروط ذاتية وموضوعية لبناء إطار وطني شامل، يمثّل السوريين بحق، ويعمل لا على استرداد قرارهم الوطني، بل على استعادة هويتهم الوطنية التي هي الآن في مهبّ الريح. وبدون هذا الإطار، يصعب إيجاد حل للحالة السورية! وإذا كان موضوع المؤتمر الوطني السوري قد طرح، مع بداية الثورة السورية، ولم تتوفر حينذاك الإرادة لعقده من النظام تحديداً، فالمعارضة لم يكن لها في البداية جسم واحد غير مجموعة إعلان دمشق، وربما كانت تتصور أن النظام قاب قوسين أو أدنى من تسليم السلطة، تيمناً بمآل رئيس تونس زين العابدين بن علي ورئيس مصر حسني مبارك، لكن تناقضاتها أخذتها بعيداً عن الهمّ السوري، وأدخلتها في أمر قطف ثمار الثورة قبل إيناعها.

أكثر ما تحتاجه سورية اليوم مؤتمر يسعى إلى المحافظة على الهوية السورية، متعددة الأطياف، تحضره شخصيات وطنية عامة سورية، وعربية إن أمكن، إضافة إلى ممثلين عن التنظيمات السياسية السورية الموجودة (داخل سورية وخارجها)، وترعاه منظمة دولية، أو رجال أعمال سوريون، أو دول وازنة تتمتع بصفة الحياد إلى حد ما، أو الأمم المتحدة ذاتها بعيداً عن مصالح هذه الدولة أو تلك. المهم ألا تتسلط عليه دولة ما وتخضعه لوجهة ما. وإذا ما أتيح لهذا المؤتمر أن يُعقد، فمن شأنه المساهمة في الوصول إلى حالة وعي وطني، ويشكل عاملَ ضغط، لا على “دكاكين الفرق” السورية المنتشرة بكثرة، بل على الأطراف المتدخلة في سورية التي تعلن أنها مع وحدة الجغرافيا السورية وديمغرافيتها. ولعلّ أضعف نتائجه، في تصوري، يمكنها أن تسرِّع في إيجاد حل ما. ربما قاد إلى بيان جنيف، وقرار مجلس الأمن 2254، وبذلك يحرّر قيادة المعارضة من ارتهانها، ويفسح في المجال لسلطة جديدة ونظام جديد ينهي مأساة الشعب السوري.