أكرم البني

كانت موجعة السنة التي انتهت، فما جرى لا يبشّر بالخير، بل ينذر بالإمعان في قهر السوريين وسحق إنسانيتهم وأحلامهم، ويشي بتكرار مشهد يدمي القلوب من هول الخراب وأعداد الضحايا، ومن شدة معاناة المنشغلين بلملمة جراحهم وتسكين آلامهم وما يكابدونه من أجل استمرارهم في الحياة، سواء كانوا لاجئين ومهجرين خارج الحدود، أو نازحين داخل الوطن، أو ممن تفادوا دوامة العنف ويجاهدون لتدبّر لقمة عيشهم في ظروف أمنية واقتصادية قاسية.
وما يعمّق الألم والوجع، أن العام المقبل سيحفل بتقدّم الدور الخارجي المناهض للتغيير السياسي والداعم لاستمرار مناخ القوة والقهر، ليس فقط بتفعيل الحضور الإيراني وأذرعه العسكرية التي لم تأل جهداً لتمكين السلطة في مواجهة أعدائها، أو بتوسيع الضربات الجوية الروسية وما تحدثه من تبدلات في توازنات القوى تمهّد لحسم معارك أخرى بعد مدينة حلب، وإنما بموقف غربي بدأ يميل الى تبني رؤية موسكو في معالجة هذه البؤرة من التوتر، يحدوه تقدم أوزان القوى اليمينية والمحافظة، والنتائج المقيتة للانتخابات الأميركية، بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، مانحاً قيادة الكرملين فرصة ما كانت لتحلم بها للتفرد في رسم مصير بلادنا، بعيداً من حلم أبنائها بمجتمع المواطنة والديموقراطية.
ويزيد الطين بلة التبدل الحاصل في الموقف التركي بعد فشل المحاولة الانقلابية، وانتقاله من داعم صريح للمعارضة السورية، إلى موقع الحياد، فالتفاهم مع روسيا، ثم لعب دور الوسيط بينها وبين بعض الجماعات المسلحة، بدءاً من هدنة الزبداني إلى ترحيل بقايا المدنيين من شرق حلب، والثمن إباحة التدخل العسكري المباشر لحكومة أردوغان في شمال البلاد وشرقها.
وبينما يستمر الطرفان في الادعاء أن تفاهمهما يأتي في مواجهة تنظيم «داعش» والإرهاب الجهادي، تتواتر ضربات موسكو للنيل من مختلف التشكيلات المسلحة المعتدلة وعزل ما لا يرضيها من المعارضة السياسية، وتتجه أنقرة الى محاصرة الوجود العسكري الكردي وإجهاض أخطاره عليها، من دون أن يرف لها جفن تجاه الوعود التي أطلقتها دعماً لثورة السوريين.
والأنكى عندما تبقى بلادنا وحيدة، لسنة جديدة، في مواجهة مصيرها المرعب، وعندما يتفاقم عجز المجتمع الدولي عن التحرك لوقف الفتك بالإنسان السوري وأحلامه المشروعة في الحرية والكرامة! فكيف الحال مع التراجع المريع في وحدة البشرية حول قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، وتقدم ظواهر شعبوية وعنصرية تعلي من شأن الذات وتقدسها على حساب حيوات الآخرين وخياراتهم، وتسقط من أولوياتها واجب الدعم والتعاطف مع ما يكابده بشر يشبهونها ويستحقون مثلها الحياة على سطح هذا الكوكب!
وعند السؤال، إذا كان العام الجديد سيحمل فرصة جدية لوقف العنف والشروع بمعالجة سياسية للاستعصاء القائم، وإذا كانت ثمة جدوى من التحرك الروسي لعقد مؤتمر حوار بين السلطة وبعض المعارضة في الآستانة، لن تجد جواباً يحملك على التفاؤل، ربما لأن أطراف الصراع التي يفتنها الخيار الحربي وتزدري السياسة يصعب أن تعود جدياً الى المفاوضات وتلتزم المعالجة السلمية، وربما لأن التوصل إلى حل عادل وقابل للحياة صار بعيد المنال، ربطاً بإصرار المنتصر عسكرياً على فرض شروطه، ليغدو ما جرى الاتفاق عليه في «بيان جنيف» محط نقد ومراجعة لمصلحة مشروع روسي مطعم بمصالح حليفيه التركي والإيراني، واضعاً المعارضة السورية في موقع لا تحسد عليه لتقديم مزيد من التنازلات، بخاصة في محتوى التغيير السياسي المنشود بما يكرس أسس الاستبداد ولوازمه.
هل يكفي للرد على هذا الواقع الموجع والمؤلم الركون الى لغة السلاح أو الى زخم التضحيات العظيمة التي قدمها ولا يزال الشعب السوري طلباً لحقوقه المشروعة، أم باتت الحاجة ملحة أولاً الى إعادة بناء ثقة المجتمع بمشروع التغيير الديموقراطي كي تستقيم مواجهته لقوى مستبدة لن تتوانى عن استخدام أكثر وسائل القهر ضراوة للحفاظ على تسلّطها ونفوذها؟!
ألا يصح أن نغمز من هذه القناة إلى أن طريق العنف والإقصاء بات مجرباً، ولن يقود سوى إلى استمرار دوامة الموت والخراب؟! وتالياً إلى أولوية الحقلين السياسي والمدني وجدواهما في مواجهة سطوة السلاح وتفرد الفصائل المقاتلة في تقرير كل شيء، والتي يبدو أنها تهرب اليوم مجدداً إلى الأمام، فبدلاً من الوقوف نقدياً أمام حاضنتها الاجتماعية والاعتراف بمسؤولياتها تجاه ما حصل، تندفع نحو خيار الاستقواء ببعضها حفاظاً على ذواتها المريضة، والمثل مشاريع الوحدة التي تطرح بين أهم الفصائل المسلحة تحت راية إسلاموية وبإملاءات لا علاقة لها بمصالح الناس وشعاري الحرية والكرامة!
وأيضاً، ألا يصح بعد مرارة ما نعيش، إشهار عجز المعارضة عن الخروج من جلباب نظام نجح في تحويلها إلى صورة تشبهه من حيث نمط التفكير وأساليبه، ودورها الضعيف في التصدي، فكرياً وعملياً، لمن لا يقيم للإنسان وزناً ويحكمه هوس الغلبة والهيمنة والنفوذ؟! والأهم، البدء بوقفة نقدية تعيد بناء صورة صحية لمعارضة سياسية تظهر عمق التزامها بخيار التغيير الديموقراطي، وتلاحمها حوله، وجاهزيتها للتضحية في سبيله، وتكشف أنها على اختلاف منابتها الاجتماعية ومشاربها الأيديولوجية قادرة على التوافق وعلى احترام تنوّعها والاحتكام الى الحوار، بعيداً من المهاترات والشتائم وأساليب المبالغة والتجهيل؟!
والحال، بعيداً من تشاؤم العقل، ومشاعر التحسر والإحباط التي بدأت تتغلغل في النفوس، يصح التذكير بأن الواقع القائم على القهر والظلم والفساد بصفته المحرك الأساس للشعب السوري، يزداد اليوم حضوراً ووضوحاً أمام استبسال هذا الشعب وعظمة ما قدمه من تضحيات، الأمر الذي يغذي الأمل والعزيمة على الخلاص من محنة لا مخرج لها سوى التغيير الديموقراطي، فبذور السوريين طيبة، وإن سقط بعضها على الطريق وأحرقته أشعة الشمس، وحاصرت بعضها الآخر الأشواك الضارة وخنقته، فمنها ما نثر في الأرض الطيبة وستنمو وتعطي، بلا شك، ثمارها.

“الحياة”