حسام الحميد

30 /3/ 2020

مع مرور الذكرى  التاسعة لإنطلاقة الثورة السورية العظيمة ثورة الحرية والكرامة نقف من جديد للتفكير ملياً في هذه السنوات التسع التي مرت على الشعب السوري  بكل ثقلها الأسود  محملة مع كل يوم من ايامها بكل أشكال العنف الدموي الذي مارسه النظام الأسدي المجرم ضد شعب أعزل خرج يحلم بالحرية والكرامة  ومطالباً  بأبسط حقوقه التي كفلها له الدستور وهي العيش الكريم , خرج منادياً ( الشعب السوري مابينذل) هذه العبرات كانت الركلة الأولى التي اسقطت جدار الخوف من هذا النظام الطائفي المقيت والذي دمر  النسيج الإجتماعي في سوريا على مدار  الخمسون سنة الماضية  قبل ان يدمر  اليوم البشر والحجر .

لكن هذه السنوات التسع بقضها وقضيضها لم تكن كافية لكي يدرك المجتمع الدولي مدى حقد ودموية هذا النظام  المجرم ووحشية الزمر الطائفية الإيرانية العاملة معه  التي استباحة الأرض والعرض وقتلت وشرد الملايين ، ولم تكن هذه السنوات كافية للعالم ولاحتى للاشقاء العرب (إن اصطلح أن نسميهم أشقاء) للعمل على منع النظام المجرم من ارتكاب مزيداً من جرائم الإبادة الجماعية في سوريا بل تجرأ بعضهم على المطالبة بعودة النظام إلى حضن الجامعة العربية وكأن الدم السوري المراق في كل مكان داخل سوريا لا يعنيهم ولا ذاك الشعب المشرد خارجها في بلاد اللجوء يعني لهم شيء.

ولكن منذ الأيام الأولى لثورة الحرية والكرامة أدرك الشباب الثائر ان ثورته العظيمة هذه هي ضرورة حتمية لا مناص منها للخلاص من حكم عصابة العائلة الأسدية التي استولت على السلطة في سوريا فحولتها لمزرعة تمتلكها، وحولت الشعب السوري بنظرها إلى مجرد خدم لديها أو عبيد مؤجورين,وعانى الشعب السوري في ظل نظام الاستبداد والشمولية اللذيْن حكما ممارسة النظام على مدى خمسة عقود من الفقر والبطالة وفساد كبيرفي كل قطاعات الدولة ومنها التعليم والصحة  وعانى من قبضة أمنية شديدة  أدت إلى موجات من القمع والاعتقالات الواسعة لكثير من فئات الشعب ,وبالتالي صار الأيمان لدى هذا الشباب الثائر بأن الثمن مهما كان غاليا فالثورة من أجل إسقاط النظام صارت أكثر من ضرورة للخلاص من هذه العصابة المجرمة ، وبقاؤها حتماً سيكلف الشعب السوري كل ما يملك .

لكن الشباب السوري الذي خرج يطالب بحريته لم يدري أن هذا المطلب لن يغير النظام في سوريا فحسب بل سيكون خطراً كبيراً يمكن أن يغير العالم.

فلم يشهد العالم منذ نهاية الحرب الباردة صراعاً عالمياً كالذي يحدث الأن في سوريا ,صراعاً يبدو في ظاهره محلياً لكن باطنه يبدو اكثر تعقيداً بين الأقليمي والعالمي, فقد أصبحت الأرض السورية المستباحة اليوم من قبل عدد لا متناهي من الدول مسرحًا للصراع العسكري والسياسي بين هذه القوى العالمية منها والإقليمية، وتُرك الشعب السوري يواجه قوى عسكرية كبرى وحده دون أي دعم أو مساندة.

فلا تزال وبعد انقضاء تسعة سنوات لعبة المصالح الاستراتيجية للأطراف المتحاربة على الأرض السورية بكل قوانينها وبكل قذارتها هي الحل السائد على حساب مصالح الشعب السوري, ولا زال اللاعبون فيها يتبادول الأدوار ويتقاسمونها في محاولة لأبقاء جذوة الأزمة السورية مشتعلة كٌل حسب مصلحته متجاهلين بذلك شلال الدماء اليومي الجاري على الأرض السورية والعدد الهائل من الأرواح التي أزهقت تحت ضربات قوات النظام المجرم والميليشيات الإيرانية والطيران الروسي ،ورغم الأعداد الكبيرة للمدنيين المحاصرين في المدن السورية كحلب و درعا وحمص ودير الزور والملايين في إدلب وريفها ومئات آلاف اللاجئين التي غطت بقاع الأرض,كل ذلك لم يدفعهم لمجرد التفكير في  إنهاء هذه اللعبة.

تسع سنوات من سياسة تحويط الأزمة لم تعط أكلها، فلم يسبق أن شهد أي صراع من صراعات العالم هذا الكم الهائل من التصريحات والتصريحات المتناقضة والمضطربة لقادة الدول اللاعبة في الملف السوري والمئات من الاجتماعات الأممية والقرارات الدولية واللجان واللجان المختصة والقرارات الصادرة عنها، ولم يعرف أي صرا ع من الصراعات في العالم هذا العدد الهائل من قرارات الفيتو ضد قضية شعب أعزل خرج مطالباً بحريته، فلماذا كل هذا التناقض ولماذا يرغب المجتمع الدولي في بقاء الأزمة السورية بلا حل إلى أجل غير مسمى؟

للإجابة على هذا السؤال يجب أن نعرف أن المعادلة الوحيدة التي يتفق عليها كل الأطراف المتصارعة اليوم هي أنه لا مصلحة لأحد بالجوار الأقليمي أن تنجح الثورة السورية وتبني بلداً ديمقراطياً

فنجاح الثورة السورية وتغيير النظام الأسدي كان سيؤدي حتماً إلى قلب كل توازنات المنطقة التي اشتغل الغرب والشرق على بنائها لعقود طويلة .وتغيير النظام الأسدي في سوريا وهو الحليف الوثيق لإيران في المنطقة كان سيؤدي مباشرة إلى تغيير الأنظمة في لبنان والعراق التابعين بشكل مباشر للوصاية الإيرانية ناهيك عن التأثير المباشر على البلد الجار في الجنوب الأردن الحليف الإستراتيجي للغرب وقد تصل شعلة التغيير إلى دول الخليج الخزان النفطي الإستراتيجي وحتى تركيا لن تكون بعيدة عن هذا التأثير ،  لذلك وقف الجميع يتأمل مصيره في حال نجاح الثورة السورية وحصول المواطن السوري على حريته من نظام استبدادي جعل من البلد جسراً ليلعب دوره في خدمة العالم ثمناً  لبقائه في السلطة. ولهذا فقط كان الموقف العالمي كله معادٍ لهذه الثورة العظيمة.

ولأن الثورة السورية تهدد فعلا بتغير المنطقة والعالم، وهذا ما يعرفه اللاعبون الإقليميون والدوليون وعلى رأسهم إسرائيل وأمريكا، فقد فعل الجميع وأعني تماما “الجميع” أقصى ما بوسعهم وقوتهم لوأد هذه الثورة العظيمة وإفشالها منذ أن بدا لهم أن النصر حليف الثورة وأن سقوط النظام بات قاب قوسين أو أدنى.

ولندرك قوة هذه الثورة العظيمة وصلابة الشعب السوري الثائر ولنعرف ماهية الصراع الذي يخوضه اليوم ضد دول وقوى خارجية وداخلية علينا أن نعود إلى بداية الثورة السورية التي أنطلقت على إثر اعتقال الأمن لخمسة عشر طفلاً في مدينة درعا وتعذيبهم بطريقة وحشية، بسبب كتابتهم شعارات تنادي بالحرية وتطالب بإسقاط النظام على جدار مدرستهم,وانتقلت بعدها لتنتشر بطريقة سلمية في كافة المحافظات والمدن والقرى هاتفة بشعارها المقدس ( الشعب يريد اسقاط النظام ) ولكن النظام واجهها بالقتل منذ اليوم الاول ورغم عدد الشهداء المتزايد كل يوم استمرت الثورية السورية في نهجها السلمي الجماهيري ما يقارب العام حتى عجز النظام عن كسر إرادة الثوار السلمية ففعل كل ما أمكنه لدفعهم لحمل السلاح وجرهم نحو استخدام العنف للدفاع عن النفس ونجح في ذلك بعد ما قام  بإنزال الجيش لمكافحة التظاهرات وحصار المدن، ورغم رفض عدد كبير من ضباط الجيش الشرفاء وعدد كبير من جنوده تصويب أسلحتهم على أهلهم وشعبهم، فبدأت الانشقاقات التي قادت إلى تأسيس الجيش الحر، وحمل السلاح للدفاع عن أرضهم وعرضهم فقام النظام عامداً بإطلاق سراح أعضاء الحركة السلفية المعتقلين في سجن صيدنايا ليقينه بأنهم سيحملون السلاح ضده  وسيعملون على تأسيس قوى  مقاومة تتخذ طابعاً سلفياً دينياً وترفع شعارات إسلامية، وتغرق الساحة بالمتطرفين من شتى بقاع الأرض ولكي يقنع العالم بأن ما يحدث هو حركة تمرد إرهابية ولسوء حظ الثورة  فقد استغل هذه الفرصة عدد من اجهزة الأستخبارات الدولية وبعض الدول المجاورة  للتخلص من العناصر المتطرفة على أراضيهم بفتح المجال أمامهم لركوب قطار الإرهاب العابر للحدود مثل “القاعدة” و “داعش” وبذلك نجح النظام وأعوانه في تحويل الثورة إلى صراع طائفة ضد أخرى وترك الجميع أمام الخيار الذي رتب لهم وهوأن يختار المجتمع الدولي  بين نظام حكم علماني وبين خلافة إسلامية ذات طابع إرهابي.

وبعد الانتصارات العديدة التي حققتها الثورة واتساع رقعتها وسيطرتها على مدن وقرى كثيرة  بات على الشعب السوري بعد أن واجه النظام بكل قوته ووحشيته وكسره أن يواجه إيران التي زجّت بعشرات آلاف “المجاهدين” من حزب الله، ثم المليشيات الطائفية العراقية، ثم الحرس الثوري الإيراني، ومن ثم المليشيات الأفغانية والباكستانية “الزينبيين”، وقدّمت الخبرات والقدرات العسكرية العالية منذ اليوم الأول لدخولها لحماية النظام بعد أن أقتربت قوى المعارضة من إسقاطه ، ودفعت إيران لذلك مليارات الدولارات، وقدمت كل احتياجات السلاح ودفعت الأسد لأستخدام طيرانه وصواريخه الباليستية  ضد المدنيين ولكن ذلك كله لم يكن ليكسر عزيمة الثوار على الأرض ,وفشلت إيران كما فشل النظام في اخماد هذه الثورة مما دفعها لطلب تدخل الجيش الروسي بكل ترساتنه من الاسلحة الثقيلة والطيران والذي لم يترك سلاح لديه قديم أو جديد إلا وجربه في قتل المدنيين السوريين وتدمير المدن باستخدامه سياسة الأرض المحروقة, ولا زال حتى اليوم وبعد مرور قرابة الخمسة سنوات على التدخل الروسي في سوريا لايزال غير قادر على انهاء الثورة عسكرياً .

ولأن التدخل الخارجي الإيراني والروسي حقق مكاسب كبيرة عسكرياً على الأرض كان لزاماً على كل من تركيا , المملكة المتحدة , فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية أن تعمل على تدخل مضاد ولكن ليس لمصلحة الشعب السوري وإنما لمصالح خاصة بتلك الدول، وبذلك ابتدأت حروب عالمية بين الدول على الأرض السورية متخذة من سوريا كبلد، ومن دماء الشعب السوري وأمله بالحرية وقودا لها. وهذا التدخل جاء بعدما أيقن الجميع انتهاء سوريا الأسد وسقوطها تماما، فبدأ الجميع يبحث عن محاولة للإمساك بما يمكنهم من التأثير برسم خارطة المصالح في صياغة مستقبل سوريا وعمد  كل طرف على تغطية أهدافه الحقيقية بأهداف وهمية تم إدخالها في دوامة الحرب  فكانت داعش وكان التحالف الدولي لمحاربة الأرهاب جسراً لأن تتدخل هذه الدول في الصراع عسكرياً من خلال دعم وحدات حماية الشعب الكردية تحت مسمى قوات سوريا الديمقراطية للسيطرة على المنطقة الشرقية في سوريا كاملة بعد هزيمة داعش  وهذا ما شكل خطراً حقيقياً على الحدود الجنوبية لتركيا والتي تعتبر وحدات حماية الشعب الكردية منظمة أرهابية هدفها زعزة الأمن القومي التركي من خلال السيطرة على كامل الشريط الحدودي السوري مع تركيا لذلك لم يكن لدى الأتراك خيار سوى التدخل عسكرياً في الأراضي السورية من خلال عملية درع الفرات 2016 ثم اتبعتها  بعملية غصن الزيتون في 2018، لاحتواء التمدد الكردي على الشريط الحدودي السوري المتاخم لتركيا , ثم كانت عملية نبع السلام في أكتوبر 2019 واخيراً عملية درع الربيع في فبراير 2020.

وبهذا نستطيع أن نقول: إن الجيوش الخمس المتحاربة على الأرض السورية ليس لأي منها مصلحة في انتصار الثورة السورية ولم تفعل أي شيء لتحقيق مطالب الشعب السوري بل على العكس عملت جاهدة على سلب القرار من يد الشعب السوري وتحطيم عزيمة الثورة وتفتيت قواها من خلال مسرحيات جنيف وأستانا وسوتشي وحرصت هذه الدول كل الحرص على تحقيق مصالحها في اماكن أخرى من خلال استخدام الورقة السورية.

ولكن رغم مرور هذه السنوات التسع ورغم وجود كل هذ الجيوش والمليشيات والعصابات والمنظمات الأرهابية على الأرض السورية فأن ثورة الشعب السوري التي يقف كل العالم بوجهها هي ثورة عظيمة وسيذكرها التاريخ بأنها أكثر ثورة مميزة بالتاريخ بل الثورة الأكبر والأكثر تميزا والأكثر تأثيرا في العالم.

 

لقد حققت الثورة السورية انتصارها المحلي منذ اللحظة الأولى لانطلاقها فقد أسقطت جدار الخوف وكسرت مملكة الصمت وأسقطت شرعية هذا النظام المجرم, ولكن رغم صعوبة الظروف المحيطة بها الأن ورغم دخولها في متاهة صراع المصالح الدولية والتغيير الإقليمي  لكنها  ستعيد سيرتها الأولى وستنتصر وحتماً ستنتصر لأنها أصبحت أسطورة  والأساطير لا تنكسر.