لم أكن أعرفُ أشياء كثيرةً عن الحياة اليومية في السجون قبل أن أخوض التجربة، وكان مصدر تصوراتي عنها ما سمعتُ عن السجون من تجارب، أو ما تحتفظ به ذاكرتي من قراءاتي في أدب السجون، إلى أن أصبحتُ أنا واحدة من تلك القصص، وعشتُ تجربةً ستبقى تخدش ذاكرتي إلى الأبد.

سبعة أشهر قضيتُ أربعة منها في الأفرع الأمنية، والباقي في سجن النساء في عدرا، وعشتُ تفاصيلها مع ضحايا يشبهونني، أو يختلفون عني كثيراً، لكننا كنّا نتشارك وقتاً تم اغتصابه منا وممّن نحب. لم تكن المُسميّات والتوصيفات التي يطلقونها علينا تشكّل فرقاً، لا فرق إن كنّا سجينات رأي أو سبايا أو رهينات أو أسيرات، نحن فقط مجموعة من البشر سُلبنا الحق في العدالة بأدنى مستوياتها، ولا فرق أيضاً إن كنا قد وضعنا في غُرَفٍ أو مهاجع أو أسواقٍ أو أقفاص.. القيمة الإنسانية واحدة.

غير أن الحديث عن حقيقة ما يجري داخل سجون النساء في معتقلات النظام بالغُ الحساسية، ولعلّه البوح الإنساني الأكثر تعقيداً لما يسببه من رضوضٍ نفسية عميقة، فكثيراً ما تقع الناجيات في فخ التقييم الأخلاقي لما يشاهدنه داخل السجن، ولعلّ الذهاب إلى التوصيف الأخلاقي يكون الأسهل فيما لو أرادت إحدانا التميّز بأنها تنتمي لوسط اجتماعي مختلف.

قد تكون تجربة السجن من التجارب الصادمة التي تُحدث فرقاً لا يمكن تجاوزه في حياة المعتقلة، كونها تخضع لتجربة غير طبيعية وغير متوقعة، وأنا لا أتحدثُ هنا عن تجربة التعذيب فقط. إلا أن توصيف كثير من النساء اللواتي خُضنَ تجربة الاعتقال لما يجري في سجون النظام، أثار جدلاً وخلافاً وصل في بعض الأحيان إلى حدّ التخوين والمزاودة والتهديد.

تُرى هل تشبه الحياة داخل السجون الروايات التي كُتبت عنها؟

ربما يكون كثيرون ممن سردوا قصصاً عن تجاربهم الشخصية داخل المعتقل قد قاربوا إلى حد كبير حقيقة ما يجري من تعذيب وظلم وحرمان من الحقوق، غير أنه لم تكن هناك تجاربُ نسائية قاربت واقع سجون النساء بعيداً عن التقييمات الأخلاقية، أو عن سرد تجارب شخصية تهدف إلى إثبات أن صاحبتها مختلفةٌ ولا تنتمي إلى هناك، هذا إذا استثنينا محاولات قديمة للحديث عن تجارب معتقلات سياسيات، منها رواية نيغاتيف، التي كانت أول كتابٍ من نوعه، قدّمت فيه روزا ياسين شهادات معتقلات سياسيات خُضنَ تجربة الاعتقال قبل الثورة بعقود.

سجن عدرا «للنساء السياسيات» كما يُطلق عليه، هو كالأفرع الأمنية وسجون الرجال، يحتوي على نساء غالبيتهن لا تربطهن صلة بالثورة أو العمل السياسي، ولا حتى بقضايا اجتماعية وحقوقية. نساءٌ لم يعتدن على أن يكون لهنّ اهتمامٌ بمشاكل الرأي العام، ولا يدركن حقوقهن أو يسعينَ لانتزاعها.

نساءٌ لا يُجِدنَ القراءة أو الكتابة، أمهاتٌ وبناتٌ وزوجاتٌ رهيناتٌ لخيارات الرجال في العائلة، مثل زوجة رجلٍ اختار أن يكون ناشطاً ثورياً، أو أمٍّ قدّمت طعاماً لابنها الذي أختار أن يكون مقاتلاً، أو حتى بائعة هوى واحدٌ من زبائنها معارضٌ للنظام.

في سجون النساء كثيراتٌ لم يتوقعن أن يخضن هذه التجربة، أو أن يدفعن ثمن خيارات الآخرين أو خيانتهم. هنَّ التجسيد الأكثر قرباً لواقعٍ لا نختلط به في حياتنا الاجتماعية، وكنّا معزولين عنه تماماً. وهنَّ  صورةٌ لواقع المهمشيّن والفقراء والمظلومين والمسلوبين حقهم في العيش الكريم، الذين غالباً ما يكونون ضحايا لا يتحدث المجتمع عنهم إلا ضمن تقييمات أخلاقية في قوالب جاهزة، ودائماً ما نتعالى عليهم وننبذهم ونبتعد عنهم مدى الحياة. لهم حياتهم التي لا تعنينا، ولنا حياتنا التي ندّعي أنها الأصح.

«آية» امرأةٌ سوريّة تعمل في الدعارة التي ورطتها بها والدتها، إذ كانت تبيعها منذ طفولتها لرجال من الخليج بزواج «مسيار» أو زواج «متعة»، وبعد تزويجها لما لا يقل عن سبعة رجال، وجمع نقودٍ من هذه الزيجات، هربت «آية» لتجدَ نفسها في الشارع، ولم تجد وسيلةً لتُعيلَ نفسها سوى أن تمارس الجنس مقابل النقود.

لم تكن ناشطةً، وليس لديها رأي حول ما يجري في سوريا، وهي لم تكن معنية لا من قريب ولا من بعيد بما يجري، إلى درجة أن صديقتها التي تعمل معها في المجال نفسه، والتي كانت قريبة من الجيش الحر في القابون، استطاعت أن تقنعها بأن هناك زبوناً في انتظارهما في الحي، وأوقعتها في كمينٍ كونها من طائفة «غير سنية»، وسلّمتها للجيش الحر الذي أجبرها على إجراء كمين لرجالٍ من طائفتها، وكانت حاملاً وقتها.

اعتقلها الجيش الحر لمدة خمسة أشهر وأطلق سراحها عندما اقترب موعد ولادتها، ليعتقلها جيش النظام على حاجز القابون ويُظهرها على التلفزيون الحكومي على أنها تمارس جهاد النكاح مع الإرهابيين، ويرميها بعد ذلك في سجن عدرا حيث لا تزال إلى اليوم مع طفلها الذي أنجبته داخل السجن، دون أن يعترف أحدٌ بوجودها أو يعتني بها وبمولودها.

«وفاء» راقصةٌ في بارات دمشق، اعتُقِلت لأن أحد زبائنها انشقَّ عن النظام وبقي على تواصل معها، وهي سيدةٌ عراقية هربت من الحرب في بلدها، ولم تجد طريقاً آخر لإعالة نفسها وعائلتها.

في ذلك الجحيم أيضاً طفلةٌ اعتُقِلت بعمر السابعة عشرة، وبلغت العشرين وما تزال معتقلةً، وكان طبيعياً أن هواجسها وإحساسها، وحتى ميولها الجنسية، تشكلت في بيئة مليئة فقط بالنساء، وسجنُ النساء كما سجنُ الرجال، تُلبى فيه الرغبات الجنسية بطرق عديدة، ومن بينها الميل إلى شركاء من الجنس نفسه.

هذه القصص ومئاتٌ غيرها، خضعت لتقييماتنا ومزاوداتنا، فاستثنينا أصحابها من المطالبة بالحرية والعدالة، وحتى من المطالبة بالحق في المحاكمات العادلة، لتغيب مئات القصص التي لا نجرؤ نحن الناجيات على البوح بها حفاظاً على «برستيجنا الاجتماعي والثوري».

ربما كان من الأفضل بالنسبة لهؤلاء النساء لو أنهنَّ اعتُقِلن بسبب الدعارة مثلاً، أو المخدرات، ربما كانت أمورهن داخل السجن «ميّسرة» أكثر مما هي عليه الآن، ومن المؤكد أنهن كن خضعن للمحاكمة، وعرفن تُهمَهن وخرجن خلال أشهر قليلة. من سوء حظ النسوة اللواتي لا يعرفن معنى مصطلحات ثورة أو «سياسية» أو «ناشطة» أو رأي عام، أنهنَّ اعتُقِلنَ لأسبابٍ غير مرتبطة بقراراتهن، ويدفعن ثمناً لا يعرفن متى سينتهي, يتحملن فوقه عبء لقب معتقلات سياسيات أو معتقلات رأي أكثر من الناشطات اللواتي من المفترض أن يكنّ جاهزاتٍ لهذه التضحية، واللواتي غالباً ما يكون لديهن الفرصة في أن يكن ناجيات من جحيم الاعتقال، ومع ذلك لا توفّر بعضهن فرصةً للحديث بالسوء عمّن تركن خلفهن من نساءٍ مظلوماتٍ لا ذنب لهن إلا أن المجتمع لم يكن عادلاً معهن، لا اجتماعياً ولا قانونياً ولا أخلاقياً، بدل أن يكنَّ سنداً ويطالبن بحرية من لا حول ولا قوة لهن، أو على الأقل يعترفن بأن من حق هؤلاء النسوة أن يحظينَ بقضاءٍ عادل على الأقل.

سجون النساء، كما سجون الرجال في سوريا، تحتوي على نساءٍ من كل فئات المجتمع السوري المليء بكل أشكال القهر، وتحتوي على الفقيرات والثريات والمثقفّات والأميّات والمظلومات والظالمات والمكسورات والمعدمات والمهمّشات.

لم أكن أتوقعُ أن أصادف في حياتي راقصةً وبائعة هوى ومدمنة مخدرات، وأعيش معهن شهوراً من عمري وأنتمي معهن إلى قضية عدالة واحدة. كل امرأة منهنّ قصة فرد وعائلة ومجتمع سوري مغتصب، وليس أقلّ من أن نكون نحن الناجيات من جحيم السجون منصفاتٍ في روايتها دون تقييمات أخلاقية، ودون أن ننكر على أولئك النسوة حقّهن في أن تكون الحياة عادلة معهن ولو لمرة، حتى ولو على سبيل «المكرُمة».

 

ميسا صالح – الجمهورية