ينطلق متابعو الشأن السوري من تفاهم ترامب- بوتين على وقف إطلاق النار في جنوب سورية، في لقائهما على هامش قمة العشرين، لبناء تفاؤل بقرب تحسّن في مقاربة الملف السوري، باعتبارها المرة الأولى التي يتفق فيها اللاعبان الكبيران على وقف للنار. أيضاً، لا يُستبعد لدخول إسرائيل طرفاً في التفاهم أن يزيد من صدقيته والآمال المعقودة عليه، مع أن إدارة ترامب سرعان ما أبدت تحفظات على الحماسة الروسية لإنشاء مركز مراقبة مشترك لتنفيذ الاتفاق المذكور، وهو ما يذكّر بانهيار التفاهم الذي عُرف بتفاهم لافروف- كيري حول مدينة حلب، وأدى انهياره آنذاك إثر تحفظ الاستخبارات الأميركية ووزارة الدفاع، إلى هجوم روسي نتجت منه استعادة النظام سيطرته على كل المدينة.
لكن هذا التفاؤل لا تسنده حماسة من إدارة ترامب للخوض في مجمل الملف السوري، بل نُقل عن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون ما مفاده ترك مصير بشار الأسد لموسكو كي تتحمل تبعاته، ولا يخفى طبعاً أن هذه النقطة محورية في القضية السورية. وإذا كانت الصفقة المتعلقة بتنحي بشار مطلوبة روسياً، فالثمن لم تكن مستعدة إدارة أوباما لدفعه، ولا تبدو إدارة ترامب في هذا الوارد حالياً، أو حتى في المستقبل المنظور مع تداعيات فضائح التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية.
لقد سبق أن انتعشت الآمال أكثر من مرة مع مفاوضات كيري- لافروف، ثم انهارت إلى الحضيض، وسبق أن انتعشت مع ضربات محدودة وجهتها إدارة ترامب لقوات بشار الأسد قبل انهيارها مع تصريحات أميركية تنص على إبقاء الأسد إلى أجل طويل.
إننا في هذه الحماسة المتكررة ننسى ما تتكفل بكبحه، فالخطوط العامة لسياسة ترامب غير مبنية على التدخل الخارجي، باستثناء المقتضيات الحيوية للأمن القومي، وهذه الأخيرة قد تكون فاعلة في ملف كوريا الشمالية مثلاً أكثر بكثير من سورية أو أوكرانيا. أما في الملف الإيراني فالإدارة مشتركة عملياً مع حكم الملالي في التصدي لـ «داعش»، مع استسلام تام للهيمنة الإيرانية على العراق، ولم تكن هناك شروط صارمة من قبلها لقاء مساندتها الحشد الشعبي وسواه من الأجهزة التي تغلب عليها التبعية لطهران. بداية الاشتباك في سورية لا تعدو كونها استنساخاً إسرائيلياً للاتفاق الذي تلا حرب تموز (يوليو)، أي إبعاد الميليشيات الشيعية عن الحدود الإسرائيلية للمسافة نفسها (40 كيلومتراً).
يجدر الانتباه هنا إلى الحذر الأميركي إزاء التورط «المشتهى» من قبل العديد من الأطراف، فالسياسة الأميركية تمسك عصا تدخلها من المنتصف، وقاومت خلال سنوات محاولات «صديقة» من أجل وجود أكثر فاعلية. بل يمكن القول إنها قاومت محاولات روسية عديدة لجرها إلى انخراط أكبر، أو جرها إلى مواجهة محدودة وبالوكالة تقتضي تسوية كبرى بعدها.
ومما لا ينبغي نسيانه أن هذه الإدارة في موقع عجز لم تشهده إدارة سابقة إزاء العلاقة مع روسيا، فهي بسبب فضائح التدخل الروسي في الانتخابات غير قادرة على تنفيذ رغبتها في تطوير العلاقة مع موسكو، ولا ترغب بالتأكيد في الانقلاب على تلك الرغبة والدخول في مواجهة كبرى معها. فوق ذلك، يبدو بوتين في موقع يتيح له قدراً معقولاً من الابتزاز، إذ يمسك العقدة التي تلم خيوط تدخله في الانتخابات الأميركية، ولا يُستبعد قيامه بتسريب معلومات قد تطيح ترامب، أو تغرقه بمزيد من الفضائح والشلل السياسي، إذا أحس الأول بإفلاس رهانه على الثاني.
يصادف في هذه الأثناء أن يطالب لافروف وفد المعارضة في جنيف بالتخلي عن مطلب الانتقال السياسي، وحتى بمشاركتها حكم الأسد وفق الدستور الحالي. هذا ليس استعراضاً لفظياً من الوزير الروسي، هي لهجة المنتصر ضمن هذه الحدود الضيقة، وضمن ثقته من أن إدارة ترامب لن تُقدم على أي تصرف خارج سياستها المعتادة، فالخلاف الآن على حدود مناطق النفوذ وترتيباتها يستثني أصلاً وجود حل شامل للقضية السورية، ويستثني مصير الأسد الواقع ضمن منطقة النفوذ المشتركة الروسية- الإيرانية.
الرهان الروسي، كما كان خلال سنوات، يتلخص في إضاعة الوقت أمام الفصائل التي تقاتل الأسد وداعميها الإقليميين، ثم تركيز الهجوم على بقعة معينة وتحقيق تقدم فيها. مع تمييع مفاوضات جنيف وإغراقها بالتفاصيل، ثم محاصرتها بمفاوضات جانبية بغية التخلص من المظلة الدولية وقرارات مجلس الأمن. سياسة القضم التدريجي هذه كانت ولا تزال نافعة أمام سياسة أميركية ترفض التورط، وهناك رهان روسي صائب حتى الآن على عدم وجود تغيير في السياسة الأميركية في الأمد المنظور، فأي تغيير لن يحصل إلا إذا أطيح ترامب من الرئاسة، وهو احتمال يستغرق وقتاً تحتاجه الآلة العسكرية الروسية والإيرانية لاستكمال سيطرتها على مناطق وممرات عسكرية ضرورية لهما.
من المؤسف أن يعاكس الواقع التفاؤل والتكهنات المرافقة له، لأن أعلى حالات التفاؤل بإنهاء القتال تبدو مبنية على فرضية رضوخ المعارضة أخيراً لما رفضته خلال السنوات الماضية، تحت طائلة الوقوع مجدداً تحت ضغط روسي مدعوم بلامبالاة دولية وإقليمية. في الأمد القريب ليس إلا قد يظهر تهافت الرهان على إدارة ترامب، فأزمة الأخير دخلت طوراً جديداً مع تقديم طلب من نائبين ديموقراطيين للمباشرة في إجراءات عزله، ومهما كان ذلك صعباً نظرياً بوجود غالبية جمهورية تهيمن على مجلسي النواب والشيوخ إلا أن الانتقال إلى هذه المرحلة من الضغط لا يأتي اعتباطاً.
ما هو مؤسف فضلاً عن ذلك أن طبيعة الوجود الأميركي في سورية ضمنت من قبل وتضمن الآن عدم وجود أي تحرك إقليمي مضاد لبشار الأسد يكون مستقلاً عن السياسة الأميركية، وينبئ الفتور الإقليمي العام إزاء القضية السورية بالتسليم بهذا القدر. أغلب الظن أن بشار الأسد مقبل على فترة هي الأفضل له منذ بداية الثورة، إذ لا تهديد من أي نوع لحكمه، ولا أفق لصفقات كبرى تنص على تنحيته. سيكون من الحصافة الانتباه إلى ذلك بدلاً من تعميم تفاؤل يليه إحباط أشدّ. هذا لا يعني أن يكسب الأسد رئاسة مؤبدة بعد أبيه، لكن لا يزال لديه متسع من الوقت لقهر السوريين، وتلك قد تكون المتعة الأعز الممنوحة له بسخاء.

“الحياة”