كاتب سوري

في مقالي الأستاذين حازم الأمين «ماذا لو أعلنت سورية استسلامها للأسد؟، الحياة 25/2/2018) وماجد كيالي «النقاش الموجع عن مآلات الثورة، الحياة 4/3/2018) اختلاف في المنطلق واتفاق في المحصلة. الأول هالته تحولات الصراع ونتائجها فدعا إلى الاستسلام للنظام كمدخل لوقف سفك الدماء. والثاني هاله بؤس المعارضة في خياراتها ومواقفها وولاءاتها وأخذ عليها عدم وقفها الثورة عند أول محطة تراجع وانكسار.

مع تفهمنا لدافع حازم، الذي أشار إليه كيالي: «سؤال تحريضي، يصدر عن وجع، وعن حسّ أخلاقي، وربما عن غضب إزاء القوى التي تلاعبت، أو تحكّمت، بمسار تلك الثورة، وأوصلتها إلى ما وصلت إليه»، إلا أن ذلك لا يعني بحال القبول بقراءته واستنتاجاته ولا بجعل دعوته إلى الاستسلام منطقية وعقلانية. اتفاق حزب الاتحاد الديموقراطي والنظام الذي استفز حازم، على رغم قسوته، مبرر. نحن هنا أمام معادلة مركبة أطرافها كثر، وكل طرف فيها له أهداف وحسابات، حلفاء وخصوم، والتداخل والتعارض والتناقض بين أطراف المعادلة، من جهة، وحساباتهم المرحلية والبعيدة، من جهة ثانية، والتغيّر المتواتر في توازن القوى، من جهة ثالثة جعل التقاطع بين الأهداف والحلفاء والخصوم أمراً وارداً بقوة. وهذا ما دفع حزب الاتحاد الديموقراطي للقبول بوجود النظام في عفرين، لأنه من وجهة نظره أقل خطراً في ضوء موازنة العداوة مع تركيا والخصومة مع النظام ومترتباتهما القريبة والبعيدة.

فوجود النظام في عفرين لا يطيح التطلعات السياسية الكردية ولا يلغي فرص تنفيذ هدف الحزب بإقامة فيديرالية في سورية في حين يدمر الاحتلال التركي لعفرين التطلعات وينهي فرص إقامة الفيديرالية. وقبول تركيا بوجود النظام في عفرين منطقي، لأن الخطر من وجوده لا يوازي، من وجهة نظرها، حجم الخطر الذي يطرحه وجود حزب الاتحاد الديموقراطي ومشروعه السياسي. هذا من دون أن ننسى ما تضيفه التحالفات والتقاطعات مع بقية أطراف المعادلة من ثقل يصب في مصلحة هذا الخيار أو ذاك. موسكو تؤيد العملية التركية كي تعمق الخلاف التركي الأميركي وتدق إسفيناً بين حزب الاتحاد الديموقراطي والولايات المتحدة، ولإضعاف الحزب كي يقبل برؤيتها للحل. واشنطن تفهمت العملية التركية كي لا تقطع شعرة معاوية معها وكي تجسّر الهوة معها بتقديم حوافز على أمل إبعادها عن موسكو وطهران، وتسعى، في الوقت نفسه، إلى لجم اندفاعها والحد من طموحاتها هناك كي تخفف رد فعل الحزب المذكور. إيران أيدت العملية التركية كي تضعف حزب الاتحاد الديموقراطي، لتحالفه مع الولايات المتحدة ودوره المرتقب في عرقلة ممرها إلى المتوسط، وتأثير مشروعه السياسي على كردها، ولا تقبل بتوسع النفوذ التركي في سورية لأنه يأتي على حساب حصتها فباركت المقايضة بين الحزب والنظام لإحراج تركيا وحشرها في الزاوية. النظام قبل المقايضة وخفف من مستدعياتها بإرسال قوات شعبية لمساعدة الحزب في قتاله ضد القوات التركية كي يبقى على موجة واحدة مع موسكو وطهران.

أما الربط بين تطورات المواجهة في عفرين والمجزرة الجارية في الغوطة فينطوي على مجازفة تحليلية لأن مقايضة الحزب والنظام في عفرين في حدودها الحالية لم تترك أثراً واضحاً في العملية التركية، من جهة، ولم تنعكس سلباً على الموقف في الغوطة، من جهة ثانية، ولأن أطراف المواجهة في الغوطة وحساباتهم لها سياق مختلف وهدف مختلف، من جهة ثالثة، ما يجعل قول حازم «وتزامن الحدثين يوحي بأن الحل في سورية ينطوي على قبول بالوظيفة الدموية للنظام» غير مقنع بدليل الحراك الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة وفرنسا، وبدرجة أقل المملكة المتحدة وألمانيا، بخصوص الغوطة وضغطهما على روسيا والنظام من أجل تنفيذ القرار 2401 بوقف إطلاق النار واستهداف المدنيين وإدخال المساعدات الإنسانية، وفتحهما ملف استخدام أسلحة كيماوية في مجلس الأمن بالمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية جديدة مدتها عام، ومناقشة الملف في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والتصويت على قرار يدين القصف ويطالب بإيقافه وإجراء تحقيق حول حصار المنطقة والانتهاكات ضد المدنيين، ودعوة فرنسا والمملكة المتحدة إلى عقد جلسة مغلقة حول الغوطة في مجلس الأمن مؤخراً، ناهيك بإدانة تركيا والسعودية للقصف واستهداف المدنيين بغاز الكلور السام. وهذا على الضد من قول حازم: «فإن الأسئلة في ظل هذا المشهد تطاول جدوى الاعتراض على الوظيفة الدموية للنظام»، يُبقي جدوى للاعتراض ويراكم الحجج والاتهامات. فالوظيفة الدموية للنظام، وفق تعبيره، لا تقود إلى نهاية واحدة محددة: الاستسلام، بل يمكن أن تستدعي تحركاً عربياً ودولياً لوقفها.

أما كيالي فينطلق من تقويم أداء المعارضة، السياسية والعسكرية، في تصوراتها وممارساتها، وبخاصة خضوعها للدول الراعية ومواقفها، سماه حازم استتباعاً، تقويمه دقيق ونقده محق، ليصل إلى النتيجة ذاتها لكن بصيغة مغايرة. قال: «الأمر الذي كان يفترض، قبل الوصول إلى هذه المآلات المأسوية، تخفيف وتائر فاعليات الثورة، وضمنه تخفيف الصراع المسلح بدل تصعيده، للحفاظ على طول النفس، وتجنيب البيئات الشعبية مزيداً من الكوارث، وبالتصرف على أساس أن الثورة أثبتت ذاتها، في هذه المرحلة، بخروج الشعب إلى الشارع، إلى مسرح التاريخ، في مواجهة النظام للمرة الأولى، وتعبيره عن ذاته في صيحته «الشعب يريد إسقاط النظام، باعتبار كل ذلك مرحلة أو «بروفة» بانتظار مرحلة مقبلة أنسب». تقدير خيالي يمكن تحديه واختبار مدى منطقيته وواقعيته بأسئلة بسيطة: هل كانت خطوة «تخفيف وتائر فاعليات الثورة، وضمنه تخفيف الصراع المسلح بدل تصعيده، للحفاظ على طول النفس، وتجنيب البيئات الشعبية مزيداً من الكوارث» ممكنة وواقعية في ضوء طبيعة الثورة والثوار والسياق الذي سارت فيه؟.

وهل يمكن التصرف وفق: «باعتبار كل ذلك مرحلة أو «بروفة» بانتظار مرحلة مقبلة أنسب» في قضية مصيرية، وما انعكاس ذلك على حاضنة الثورة وعلى المعارضة ومستقبلها؟. ما هو رد فعل النظام على خطوة من هذا القبيل، لو حصلت، كيف سيستقبلها ويتعامل معها، في ضوء طبيعته وبنيته وسلوكه من لحظة انفجار الثورة السلمية إلى الآن، وهل سيصفح عن التجرؤ عليه وهزّ صورته والتشكيك في صلاحيته أم سيجد فيها فرصة للانتقام والبطش وتجديد عوامل الهيمنة والسيطرة والإذلال؟. في مسلسل «إبراهيم الطاير» عبارة قالها بطل المسلسل عادل إمام تناسب نقاشنا: «حصان السبق يفضَل يجري على رغم خسارته لأن وقوفه يعني عدم صلاحيته للسبق وحيتحول لجر عربة كارو».

لم يكن التوقف ممكناً أو مقبولاً. كانت أشياء أخرى مطلوبة: معارضة أنضج، سياسياً وتنظيمياً، وبرنامج وخطة عمل مبنيان على قراءة دقيقة للمعطيات المحلية والإقليمية والدولية، وإدارة صراع مرنة ومتطورة ومتغيرة في أدائها وتحالفاتها وتكتيكاتها، تحدد وفق حسابات جادة ومدروسة. وهذا ما فشلت قوى الثورة والمعارضة في توفيره فدخلت نفقاً مظلماً ومستنقعاً آسناً.

الثورة السورية أمام مأزق سياسي واجتماعي يستدعي من المعارضة السياسية والعسكرية عملاً جاداً للخروج من حالة الترهل بإعادة نظر شاملة في أدائها وخطط عملها وهياكلها التنظيمية، من أجل توفير عوامل الصمود والاستمرارية، والعمل على حل وسط يستجيب تطلعات المواطنين في الأمن والاستقرار من دون الإخلال بهدفي الثورة في الحرية والكرامة.

* كاتب سوري