في عام 2010، وفي سهرة جماعية أعقبت نشاطاً ثقافياً وفنياً كان يقام في قريتي في جبال الساحل السوري، جرى نقاش مشترك عن الوضع السياسي في سوريا ذلك الوقت، كان النقاش بالعموم ناقداً للمناخ السياسي العام ولسياسة اقتصاد السوق الاجتماعي التي كانت تطبق تلك الفترة في سوريا، وللأوضاع الاقتصادية عموماً، خصوصا مع تدمير الصناعة السورية لصالح الصناعة التركية التي كان يتم استيراد منتجاتها إلى السوق السورية، في اتفاقات مشتركة بين البلدين كانت مجحفة جداً بحق السوريين والاقتصاد السوري.
كان النقاش دائراً على الطاولة التي كنت أجلس عليها، كان معي أصدقاء عرب وأصدقاء دمشقيون وأصدقاء وأقرباء من قريتي نفسها كانوا صامتين طيلة النقاش، في اليوم الثاني زارني أحد هؤلاء الأقارب وفتح معي موضوع سهرة الليلة السابقة، معترضاً على النقاش الذي جرى، فسألته هل اعتراضك بسبب وجود أصدقاء عرب معنا؟ قال: لا بل لأن الحديث كان ضد الدولة، سألته هل ما قلناه كان فيه تجني؟ أليس ما قلناه يحدث في سوريا؟! أجابني بنعم، ولكن لا يحق لغريب أن يتحدث بالأمر، قلت له أصدقاؤنا العرب كانوا يستمعون فقط ولم يشاركوا، قال: أنا لا أتحدث عنهم بل عن صديقنا الدمشقي!، ذُهلت من رده وقلت هو سوري مثلي ومثلك وأنا تحدثت معه وانتقدت الوضع أكثر منه، قال: “أنتِ تحدثتِ بمنطق وطني، هو تحدث من منطق طائفي”!
كان ذلك الرد من قريبي صدمة كبيرة لي، انتبهت يومها أن الكثير من “العلويين” يماهون بين الوطن وطائفتهم، فأي انتقاد من مثقف علوي هو انتقاد من حرص وطني، أما من ليس علوياً فحتماً انتقاده يأتي من منطق طائفي، فقط لأن رأس النظام علوي.
الوطن لهؤلاء لم يكن يوماً سوى النظام الذي ينتمي لطائفتهم ذاتها، وبالتالي الطائفة هي الوطن والوطن هو الطائفة! لم يأت هذا الخلط من فراغ، بل هو نتيجة مظلومية تراكمت عبر الزمن، نشأت منذ الاحتلال العثماني لبلادنا، وتحديداً بعد فتوى “ابن تيمية” التي جعلت الكثير من العلويين سكان المدن، يهربون إلى الجبال ويختبئون بها، لتأتي بعدها مظلومية أخرى هي مظلومية ابن الريف مع الحضر أو المدينة الكبيرة، والتي اعتبرها الوعي الجمعي العلوي موجهة ضدهم فقط، بينما هي في الحقيقة كانت نوعاً من التعالي المديني تجاه أبناء الريف لأي طائفة انتموا. وعبر سنوات الاستبداد، استطاع نظام الأسد اللعب على تلك المظلومية التي توهجت مجدداً في ثمانينيات القرن الماضي، مع المجازر المرتكبة بين النظام و”الإخوان المسلمين”، وبعد مجزرة حماة وتدمر تحديداً، حيث غذا النظام فرضية (الحقد السني) لدى شريحة كبيرة من العلويين في سوريا، معززاً الحذر الباطني تجاه الآخر (الغريب)، ومازجاً بين الطائفة والوطن في حالة فريدة لا أظن أن لها حالة شبيهة في العالم.
بعد انطلاقة الثورة السورية عام 2011 وامتدادها إلى معظم المدن والبلدات السورية، وبعد الاصطفاف الطائفي السريع، ظهرت نزعة لدى شريحة كبيرة من المنتمين للثورة هي توجيه الشكر لأبناء الطائفة العلوية الذين وقفوا مع الثورة، في حالة تماهِ، مباغتة أيضاً، بين الطائفة السنية والثورة، معيدين انتاج فكرة التماهي العلوي مع الوطن، فالثورة أصبحت فجأة لدى هؤلاء ثورة الأكثرية ضد الأقلية الحاكمة (المجرمة)، وبالتالي فوقوف بعض أبناء هذه الأقلية مع الثورة يستوجب الشكر، وكأن هؤلاء قادمون من عالم آخر ليناصروا ثورة شعب لا يمتون له بصلة، وكأنهم ليسوا أبناء تلك البلاد المنكوبة، يعانون الظروف والقهر واليأس والفقر والذل الذي يعانيه الجميع. ذلك أظهر أن الانقسام في المجتمع السوري كان مريعاً أكثر بكثير مما يبدو، وأنه -أي المجتمع السوري- في طريقه لمزيد من الانقسامات التي ستفتك به، وهو ما حصل فعلاً، مع ازدياد عنف النظام واشتراك مدنيين من مؤيديه في جرائم إبادة بحق أبناء قرى وبلدات ينتمون إلى الأكثرية السنية، في خطوات مدروسة تمهد لحرب أهلية كانت هي الطريقة الوحيدة للقضاء على امتدادات الثورة!
ومع افتراقات الثورة وعسكرتها وأسلمتها ازداد الانقسام المجتمعي السوري وتمدد أفقياً وعمودياً، لم يعد الانقسام طائفياً أو مذهبياً فقط، بعد أن اتضح أن عدداً لا بأس به من أبناء المدن الكبيرة (دمشق، وحلب) على سبيل المثال، وهم من الأكثرية السنية، لم يقفوا مع الثورة لا علناً ولا سراً، وأن منهم من يرتبط بالنظام بشكل كلي، ويروج لنظرية المؤامرة والإرهابيين، وهو أمر لطالما حاول جمهور الثورة إنكاره. إذن بعد هذا أصبح الانقسام مناطقياً وطبقياً، فمعظم من تسلح بشكل ممنهج وممول، واتجه نحو الأسلمة هم أهل الريف السوري (السني) الذي طالما عانى من التهميش والإقصاء على كل المستويات، والذي ينتمي أصلاً إلى شريحة هي الأكثر محافظة وتمسكاً بالهوية الدينية، الحامي الوحيد لهم، إثر انعدام أي أثر للهوية الوطنية أو للمواطنة العادلة، ومع تلك الافتراقات الخطيرة في الثورة، بدأت تظهر أصوات ثورية تشير إلى خطورة ما يحدث وتأثيره السلبي على الثورة وعلى مستقبل سوريا، هذه الأصوات المنتقدة كانت تقابل بالتخوين، حتى من مثقفين يفترض أنهم علمانيون، (لا يمكن نسيان الحملات الفيسبوكية المنظمة التي كانت تقام للتشهير بكل صوت منتقد)، وإذا ما كان المنتقد أو المعترض ينتمي لأقلية ما، حتى لو كان موقفه الثوري بالغ الجذرية، فإن منسوب اتهامه بالخيانة والعمالة سيكون أعلى وأكثر عنفاً، فهو ينتقد من منطق خوفه “الأقلوي” لا من منطق وطني، (هل يختلف هذا المنطق عن منطق قريبي المذكور في أول المقال؟!)، وهو ما جعل كثر ينأون بأنفسهم عن الخوض بأي نقاش عن الثورة على الفيسبوك، أو يبتعدون تماماً عن كل ما له علاقة بسوريا وثورتها، بعد أن شعروا أنهم منبوذون من الجميع، موالاة ومعارضة، وهو ما كان مطلوباً على ما يبدو، لإظهار أن الثورة لم تكن شعبية، بل ثورة سنية ضد الأقلية العلوية الحاكمة، في إحدى طرق القضاء على الثورة وهزيمتها، وهو ما يجب أن يحاسب عليه ذات يوم كل من روج لهذه النظرية ممن كانوا يوماً في صف الثورة أو معارضين للنظام. وبكل حال يمكن التسامح مع بعض ممن هاجموا منتقدي افتراقات الثورة من منطق تفهم المظلومية التي طرأت على الأكثرية عند انكفاء معظم الأقليات السورية عن مناصرة الثورة، سواء بالصمت عن المجازر أو بتأييدها واشتراك مدنيين بها!
غير أن الأمر تطور لاحقاً لتصبح هذه المظلومية وجودية أكثر منها طارئة، بحيث أصبح انتقاد جرائم داعش أو التنظيمات المتطرفة أو الإسلام السياسي هو هجوم على الإسلام، ويصنف صاحبه إن كان من الأكثرية بأنه منافق ويحابي الأقليات الكارهة للإسلام السني، وإن كان من إحدى الأقليات فهو شريك بالمؤامرة التي تستهدف المسلمين، وتحولت هذه المظلومية من مظلومية شعبوية إلى نخبوية، إذ تشكلت لدى البعض من “النخبة” حالة من حالات البارانويا تجاه كل انتقاد لظاهرة إسلاموية، حتى لو لم يكن لها علاقة بالثورة السورية، وكأن الهوية الإسلامية أصبحت هي الهوية الوحيدة لهؤلاء، وكأنها أيضاً مهددة بالانقراض نتيجة انتقاد السلوكيات المتطرفة فيها، مع العلم أن من يهدد هذه الهوية بالزوال مع الوقت هو شدة التطرف الجهادي وتضخم الكراهية تجاه الآخرين المختلفين، والذي بدأ يكون دافعاً للكثير من المسلمين للتنصل من هذه الهوية، خصوصاً مع علو شأن اليمين المتطرف الشعبوي في الغرب، والذي يهدد وجود المسلمين المهاجرين أو الذين يفكرون بالهجرة واللجوء، هرباً من بلاد الموت والفقر والقهر في العالمين العربي والإسلامي.
هل من حل لهذه المظلوميات المتزايدة والمتناحرة لدى السوريين؟! يقيناً أنه لا يمكن التفكير بالموضوع أصلاً إذا بقي نظام الاستبداد الأسدي في سوريا، فهو من أوصل سوريا إلى ما وصلت إليه من انقسام مجتمعي وتجريف المجتمع من مدنيته ومدينيته، لصالح العصبوية العائلية والعشائرية والمذهبية والطائفية، فالمواطنة هي الهوية الوحيدة التي يمكنها أن تصنع مجتمعات معافاة وسليمة مثلما تصنع دولاً ناجحة، وهو ما يتطلب أنظمة حكم ديموقراطية وتداولاً سلمياً للسلطة، وحكومات لا مركزية عادلة، هذه الأساسيات كانت المطلب الأول للثورة السورية وللربيع العربي، قبل يصل إلى هذه الحالة.

*كاتبة وشاعرة سورية .