كان يسخر منا كلما سمع منا مصطلحات الوطن والوطنية، فقد كانت دالات لا تشير إلى متعين لديه، فهي منحوتة في عالم مغاير لعالمه الذي يتقاسمه فضاءان: فضاء الدنيا الزائلة، وفضاء الآخرة الباقية، وما كان في الدنيا دالًا ذا معنى هو المفضي إلى النجاة في الآخرة والفوز بنعيمها فحسب.
كان إسلاميًا يصف نفسه بالمعتدل، ولا يجد في منطقه ذاك خروجًا عن حال الاعتدال؛ ولا في فتواه بكفر النصيرية، واستحقاقهم القتل بسبب كفرهم سببًا لوصمه بالتطرف.
المقابل له كان مستلهمًا روح الأمة من لوحة مستمدة أجزاؤها من تاريخ بعيد، وقد ركبها تركيبًا بدالة الغاية المتمثلة في إعادة كتابة تاريخ تلك الأمة بما يحقق دعواه بعبقريتها، وعظمة روحها المتجددة عبر مراحل التاريخ المتعاقبة.
ولم يكن فيما يصدر عنه من عبارات تشي بوهم امتلاك الحقيقة مدركًا تلفيقه، وفواته، وتطرفه.
أما الثوري الطليعي فقد كان مستعليًا عليهما عبر مزيج فحواه محاكاة غير مقصودة لأممية الأول، وطوباوية دينية في جذرها بسبب تفاؤلها غير العلمي بحتمية التاريخ، ومآله السعيد تشبه وإن كان شبهًا بعيدًا طوباوية الثاني.
الجذر الكامن في مواقف هذه الأنموذجات الثلاثة المنفصلة عن الواقع هو أنها لا تحسن مقاربة الأخير بسبب هيمنة بنية عليه أقحمت فيه بفعل خارجي، وفصلت على مقاس غير مقاسه، فكان التعامل مع هذه البنية، وهي بنية الدولة- الأمة تعاملًا بأدوات مستوردة، إما من تراث لا يتوفر على أدوات صالحة لتناولها، أو من بيئات مغايرة.
ولقد كان مفرزًا طبيعيًا لتلك البنية المقحمة إقحامًا، وبشكل تجزيئي دولة العصبة المتغربة التي تكرس وحدانية الكيان الثقافي، ومطابقته الكيان السياسي بصورة مشوهة تختزل الكيان الثقافي للأمة في الطائفة أو الأيديولوجيا، والكيان السياسي في عصابة شرسة مجرمة تمتطي شعارات كبرى لتحقيق مشاريع ذاتية.
ليس مفهوم الدولة الأمة مفهومًا مقدسًا، ولا السعي لتوحيد الكيانين رائزًا لدرجة الوطنية، فالمفهوم في الأصل مخارج لواقعنا، ويمكن إعادة النظر في صلاحيته، ولا مفهومات الفدرالية أو حتى الانفصال من التابوات غير المسموح التفكير فيها.
وقد كان التعامل معه بأدوات مستخرجة من الواقع أجدى بلا شك من أدوات الإسلامي والقومي واليساري، ولكن هذا الواقع إذ يطالب -بحق- أن يكون محكّ النظر ينبئ عن دعوات بائسة للتعددية المنسجمة معه تلبس لبوس مقاربته بلغة وسلوك لا يمكن أن يفضي إلا إلى انتهاكه، وقسره مرة أخرى على ارتداء ثوب على غير مقاسه.
إذا كنا مع منح الأقليات حقوقها، في الاستقلال الذاتي، فهذا لا يعني التزلف لها، ولا منحها فرصة فرض هوية أحادية على كيان سياسي يشملها مع غيرها، وهي إذ تفعل ذلك فإنما تفعله باستخدام المظلوم أدوات ظالمه، وبتقمص صريح لشخصيته فتعيد دورة الظلم والإقصاء.
الأقلية التي تنطلق من أرضية الحقوق لتبني كيانًا سياسيًا بتاريخ مصنوع لا تختلف في النتيجة -باستشراف لمستقبلها- عن حال العصبة المتغربة التي أفسدت مفهوم الدولة الأمة فاختزلت الدولة في عائلة أو حزب، والأمة في طائفة.
وإذا كانت القوى الخارجية قد شوشت على نخبنا الرؤية بفرض مفهوم الدولة الأمة، فهي بدعمها المشبوه اليوم للمطالبين بالتقسيم الذي لا يخفى مهما حاول طالبوه تمهيده للانفصال والتشظي، فهي تحاول أن تخدعنا اليوم بشعارات الحقوق، والتعاطي مع التعددية لكي تدخلنا مرة أخرى في نفق التباس المفاهيم والمصطلحات، فوضى الاستقطاب والعنف.
لا تفرض الحقوق بقوة السلاح، ولا باستعداء الأجنبي على الأشقاء في الوطن، ولا باستغلال ظروف الفوضى، ولا يمكن أن نحسن الظن بمن يريد تحصيلها بهذه الوسائل وفي هذه الظروف.
رئيس التحرير