رغم وقاحة طلب ممثّل نظام الأسد الجعفري من كبير المفاوضين في وفد المعارضة أن يحلق لحيته لكي يقبل الجلوس معه، فإن لهذا الطلب دلالات بعيدة الغور قد لا يكون صاحبه نفسه مدركاً لها

التيار الإسلامي الذي يرمز اليه كبير المفاوضين والذي اصطبغ بالصبغة الجهادية لأسباب كثيرة منها أيديولوجيته، ومنها الحرب الهمجية التي شنّها النظام على المجتمع السوري إلى جانب الإسلام الصوفي الخاضع للنظام -في عمومه-كانا الوجهين البارزين للتيارات الإسلامية في سوريا قبل الثورة.

وكان طبيعياً أن يمثل هذا التيار واجهة المعارضة المسلحة المقبولة على نطاق واسع شعبياً.

عجز هذا التيار ذي الصبغة السلفية المحافظة عن تطوير رؤية إصلاحية شبيهة برؤية الإصلاحيين المسلمين في إيران ونظرائهم في تركيا كان نتيجة لاقتلاع النظام براعم التعددية السياسية التي أينعت في الخمسينيات من القرن الماضي، وكان في الوقت نفسه سبباً مساعداً للنظام في تكريس سلطويته بسبب ما أدى إليه عجز هذه التيار عن التطور من إفقار الحياة السياسية وعدم إنضاج بديل قادر على فتح كوى ترخي عقد السيطرة المطلقة للنظام السلطوي.

صحيح أن هنات كثيرة شابت تجربة الإصلاحيين في إيران وأفضت إلى تراجع دورهم في الحياة السياسية وأن تحفظات كبيرة يمكن أن تعتور أداء الإصلاحيين المسلمين في تركيا، ولكنّ هاتين التجربتين استطاعتا أن تحفرا مجرى عميقاً في الحياة السياسية في بلديهما للتعددية السياسية، وحكم القانون، وتقييد سلطة الدولة.

ليس ما يقدّم اليوم ونحن نقف على أعتاب مرحلة مفصلية من تاريخ سوريا من قبل التيار الإسلامي -الذي لا ينكر دوره في التصدّي لنظام الإجرام-من قبول بالتحالف مع القوى العلمانية واليسارية والليبرالية كافياً لاطّراح القلق من جموده الأيديولوجي وما قد يشكّله من عقبة كبرى أمام التحول الديمقراطي.

فالاعتدال السلوكي في التجربتين الإيرانية والتركية –رغم سبقهما-لم يكن برغم الاعتدال الأيديولوجي الذي مثّله الإصلاحيون في البلدين مفضياً إلى الديمقراطية المأمولة بقدر ما أدى إلى تنكّر للشعارات التي جاء بها الإصلاحيون الى السلطة؛ لأن هذا الاعتدال السلوكي كان في جوهره تصالحياً مع الفرقاء بغية الاحتفاظ بنسب أصوات عالية في الانتخابات، ومدفوعاً بالخوف من فقدان الزخم الشعبي، وكانت نتيجته الدفع بأولويّة التحوّل الديمقراطي إلى الخلف مقابل الرغبة بالاحتفاظ بالسلطة.

ومن هنا فإن جسر الهوّة بين العلمانيين والإسلاميين والذي حاوله البعض بدوافع يمكن تبريرها في خضمّ الحرب مع النظام رغم الطلاق البائن في المنطلقات لا يمكن أن يكون سياسة مقبولة في المرحلة القادمة ما لم يتحول الإسلاميون السوريون إلى مرحلة جديدة لا مانع أن يكون سقفها إصلاحية إسلامية تسعى كنظرائها من التيارات الإصلاحية إلى عقد تحالفات لا يطمحون إلى الهيمنة فيها على السلطة بشكل غير تداولي، وأن تكون تحالفات قادرة على تأسيس سلطة مسؤولة تحقق العدالة التوزيعية في الحكم التي تمثل جوهر الديمقراطية، وتستطيع مدّ جسور علاقات مع المجتمع.

الطلب الصفيق الذي تقدّم به الجعفري كان بقصد الإيحاء بالتغاير بينه كممثّل للنظام “العلماني” وبين نظيره المعارض السلفي الذي لم يستطع أن يقدم رؤية إصلاحية تنسجم مع متطلبات التحول الديمقراطي التعددي والذي لم يظهر ظهوراً نافراً إلا كمجاهد يرفع عقيرته بالتكبير.

لا يحتاج الإسلاميون في سوريا إلى العودة بعقارب الساعة إلى الوراء، وتكرار تجارب إصلاحيين في تركيا وإيران ومصر (حزب الوسط) وإنما يكفيهم الاستفادة مما صنعته هذه التجارب من نغيير باتجاه التعددية وتكريس ضرورة الديمقراطية، وتجنّب ما شاب هذه التجارب من عيوب أعاقت التزامها بشعاراتها ووعودها عندما استنزفت جهود ممثلي هذه التجارب التكتيكات السياسية والقرارات الاستراتيجية البراغماتية المفارقة للبرامج النظرية وقلّصت إلى حد كبير وعلى تفاوت بينها من حجم دعمها الشعبي.

ما لم يدرك الاسلاميون أن التعويل على اغراء شعاراتهم للعموم -من أجل رفض اتباع سياسات توافقية حقيقية مع كافة الأطراف التي تقاسمها خندق الحرب ضد النظام والتطرف-أن هذا التعويل عامل كفيل بإجهاض طموحات السوريين  لدولتهم الديمقراطية المنشودة فإنهم سيكونون مسؤولين عن دورة جديدة من التخلّف والفوات الحضاري لبلدنا.

السنة السادسة من المأساة السورية كافية وزيادة لكي نتعلّم أن ما نصبو اليه من دولة مدنية ديمقراطية تعددية يتطلّب ما هو أكثر من التكتيكات السياسية والعواطف الثورية والادّعاء المتكلّف بنبذ الخلافات الأيديولوجية.

يمكن لكبير المفاوضين أن يخرس ممثل النظام لا بحلق لحيته وإنما بتقديم التيار الذي يمثّله برنامجاً سياسياً معتدلاً وبتمثلّه الاعتدال السلوكي تمثّلاً حقيقياً في المرحلة القادمة التي نحلم أن تزهر فيها دماء شهدائنا وعذابات معتقلينا حرية وديمقراطية.

رئيس التحرير