هل ما يجري في سورية استمرار للماضي؟ أتراه التاريخ يدور حول نفسه مدة سبعين عاماً؟ ألم يزل الصراع على سورية لا ضمنها؟ إذاً أين الشعب، بل أين الحكام؟ وأين القضايا الوطنية والاجتماعية في هذا العراك المرير؟ ثمَّ أين وما هي هوية سورية الوطنية؟ كثيرة هي الأسئلة التي تفرضها، صباح مساء، وقائع الحدث السوري على كل متابع أو مهتم..
في منتصف أربعينيات القرن الماضي، أخذت ما سمِّيت الضواري المنتصرة في الحرب العالمية الثانية تبحث لها عن مواقع جديدة للسيطرة والنفوذ خارج دولها، وفي الوقت نفسه، اضطر بعضها لأن يخلي مواقعه للمنتصر الأقوى، وكان من بين تلك الضواري قطبان رئيسان: أميركا والاتحاد السوفييتي، أحدهما أنهكته الحرب، بيد أنه خرج منتصراً، وله ركائز حاضرة في معظم الدول، تبشر بنهج جديد في العلاقات الدولية.. أما الثاني فكان مرتاحاً، إذ لم يدخل الحرب إلا في نهايتها، إضافة إلى أنه أكثر نمواً وتطوراً، وخصوصاً في الميدان الاقتصادي وتقنياته.. أما أهم حدث في منطقة الشرق الأوسط، فكان قيام دولة إسرائيل، بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 المؤيد من القطبين الصاعدين، وقد رفضه العرب وخسروا حرب 1948، ثمَّ أتت حرب السويس عام 1956 لتخلي عملياً إنكلترا وفرنسا من منطقة الشرق الأوسط للقطبين الصاعدين اللذين أظهرا موقفين مؤيدين لمصر، على الرغم من أنهما يتنافسان ضمناً على المنطقة والعالم.
في ذلك الوقت، كانت سورية التي تمثل قلب الشرق الأوسط، إن لم أقل قلب العالم القديم كله، موضع صراع نفوذ حولها، إذ قامت ثلاثة انقلابات عسكرية متتالية بين عامي 1949 و1951 في إطار ذلك التنافس ومشاريعه. وقد فصَّل باتريك سيل في كتابه “الصراع على سورية” تلك المرحلة بدقة وموضوعية، إذ رأى أن سورية ضحية صراع نفوذ في المنطقة،
“يدفع الشعب السوري اليوم مزيداً من الدم والخراب والأحزان، والأفق مفتوح على المجهول” يتمثل إقليمياً بثلاث دول، مصر والسعودية والعراق، (وبالطبع من هم خلف هذه الدول في ما وراء البحار..)، وإذا كان قرار مصر قد استقلّ، على نحو ما، في ما بعد، فإن المملكة السعودية لم تكن كذلك! وربما تعرَّض العراق إلى نوعٍ من الصراع عليه. وقد تميزت سورية، في ذلك الوقت، بأنها “مصدر لموجات فكرية وأيديولوجية” تلهم الفكر السياسي الذي يؤثر في عموم المنطقة. ناهيكم عن أنها كانت قد استفادت من الاستقرار النسبي في تلك المرحلة، ومضت إلى العمل على استكمال بناء دولتها المدنية الوليدة، وتأكيد هويتها الوطنية على أسسٍ ديمقراطية، وفي إطار تنمية بذور نهضتها، ومواردها الاقتصادية، ومرافقها.. وممن قادوا تلك المرحلة خالد العظم، أحد ممثلي البرجوازية الصاعدة، وهو الاقتصادي ذو الأفق الواسع الملقب بـ”البرجوازي الأحمر”. إذ مال في مواجهة الضغوط الغربية باتجاه الاتحاد السوفييتي، فعمل على كسر طوق السلاح الغربي في العامين 1955/ 1956، وسعى إلى بناء مشاريع اقتصادية تسرِّع في مسيرة النهوض الاقتصادي. ومن الطبيعي أن ينشط الحزب الشيوعي السوري في ذلك المناخ. ومع موجات المدّ القومي وانتصار مصر في حرب السويس، وبروز شخصية جمال عبد الناصر الوطنية والقومية، أُخذَت سورية إلى مصر تحت يافطة الوحدة الاندماجية التي أصرَّ عليها عسكر “البعث”. وهكذا، ومن دون الدخول في أية تفاصيل، حقق ذلك الصراع أمرين رئيسين، أحدهما خارجي وثانيهما داخلي. الأول هو إبعاد خطر كسب سورية إلى جانب أحدٍ ما، والأهم جعلها في مأمنٍ من الوقوع في أحضان الشيوعية.. وأمَّا الثاني الداخلي فقطع الطريق على نهضتها الاقتصادية والاجتماعية، وما كانت تبشّر به.. (ولا ضير، هنا، من تذكّر مقولة مهاتير محمد، المتضمنة رغبته بجعل بلاده تحاكي سورية اقتصادياً..! وكذلك بعبارتين أخريين تداولهما الاقتصاديون آنذاك، تقول الأولى إن سورية في نهوضها الصناعي تُشبَّه باليابان (يابان الشرق الأوسط). وفي المجال الزراعي، سميت كاليفورنيا الصغرى، بحسب الباحث جمال باروت). والحقيقة أن دمج سورية بمصر قد أوقف، على الرغم من أهمية خطوة الوحدة، مسار تلك النهضة الاقتصادية المزدهرة، إذ هجِّر رأس المال وأهله، بقرارات التأميم التي لقيت حينها قبولاً شعبياً، على الرغم من بيان فشلها في ما بعد..
صحيحٌ أن سورية انفصلت عن مصر بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، ولم يستطع حكم الانفصال أن يصمد أمام موجة الانقلابات البعثية المتلاحقة وتصفياتها، فأتى “البعث” بعد ثلاث سنوات من صراعاته الداخلية، بانقلابه العسكري الثاني بزعامة اللواء صلاح جديد الذي أعاد تقارب سورية مع الاتحاد السوفييتي، بعقده صفقة مشاريع اقتصادية كبرى، كانت تجد عثراتٍ غربية أمام تنفيذها.. عندئذ، عادت مع هذا التقارب الخشية الدولية والإقليمية من رجحان الكفة السورية في ما لا ترغب به، فجاءت حرب 1967 التي ساهم بإشعال نيرانها ضجيج الشعارات، وطرحت عندئذٍ مهام جديدة أمام سلطة “البعث” الحاكمة. ونشأ صراع حول ما سميت آنذاك إزالة آثار العدوان، وقرار مجلس الأمن 242، وجيء بحافظ الأسد الذي انفتح على دول الجوار، وأولها السعودية ومصر، وكذلك على غرفة تجار دمشق في الداخل،
“انتشر الفساد في بطانة النظام، وطاول كل المؤسسات
” وأرضى، في الوقت نفسه، السوفييت والشيوعيين في الداخل، لكنه، باستبداده وتمركزه حول السلطة التي أرادها أبديةً له، ولأسرته من بعده، قد خنق الشعب السوري، يمينه ويساره، بأسوار من الأمن والعسكر والدم.. وانتشر الفساد غير المسبوق في بطانته أولاً، ولم يطاول المؤسسات التنموية اقتصادياً فحسب، بل طاول مراكز الدولة التي لها قدسية خاصة، كالمؤسسة الدينية والتعليمية والقضائية، إذ جعلها كلها مجالاً للعبث والفوضى، يتصرف بشؤونها صبية من الجهلة والمخبرين الأمنيين، ناهيكم بمصادرة المال العام، وجعله في أيدي بعض تلك البطانة، الأمر الذي قاد البلاد إلى نوعٍ من الموت والذل. إذ هي، وبحسب التقارير الدولية، الأولى في الفساد، والأخيرة في التنمية، ومستوى الحياة المعيشية، وشعبها يتلوّى بينهما، ما جعله ينتفض في أوَّل شرارة أطلقها شباب مصر..
أذكر أنني، وكنت في صحيفة النور، العائدة ملكيتها للحزب الشيوعي السوري، قد سألت الشاعر الدمشقي العريق، شوقي بغدادي، رأيه في تباشير الربيع العربي الذي بدأ في تونس ثم في مصر، فردَّ بالإيجاب، وجاءتني مقالته، وهو الذي عاش خمسينيات القرن الماضي، وكوّنَ مع من كوَّن أول رابطة للكتاب السوريين التي تحوَّلت في ما بعد إلى اتحاد الكتاب العرب، تكثف حال الشعب السوري آنذاك، وقد بدأها بما يلي:
“أنا فرح وحزين.. فرح بثورة الشعب المصري على أوضاعه وحكامه، وحزين لأنني كنت أتمنى أن يحدث ما حدث هنا في بلدي دمشق”، لكنَّ المقالة بكل أسف لم تر النور (على صفحات “النور”!)، وقد حاولت مع الشاعر أن يعيد صياغة عبارته بما يلائم سياسة مالك الجريدة، لكنه أكد حرفيتها، إذ هي تعكس لحظة مفصلية، لحظة تكثّفت فيها الحقيقة، حقيقة الواقع، وحقيقة رؤية الشاعر.
وهكذا، وبالأسلوب الذي افتعله النظام الذي لا يزال يخيِّم عليه شبح حافظ الأسد، عادت سورية إلى سيرتها الأولى، مع فارق هائل، إذ هي، في خمسينيات القرن الماضي، دولة ناهضة تبشِّر بخير عميم، أما الآن فهي ركام وأحزان وأشلاء، تتناهبها الضواري ذاتها، وتصطرع فوق أرضها مباشرة، لا كما كانت أيام الخمسينيات، عن بعد، ويدفع الشعب السوري اليوم مزيداً من الدم والخراب والأحزان، فيما لا يزال الأفق مفتوحاً على المجهول.