المثنى الشيخ عطية

 

من “شظايا الحكايات” التي تضعها عنواناً فرعيّاً لها أيضاً، تصنع الروائية السورية روزا ياسين حسن روايةً ملحميّة متألّقة، حاول نظام بشّار الأسد دفنَ حكاياتها، في الواقع كما في الرواية التي تسجل الواقع، سواء في مقابر إعلامه الجماعية المكشوفة، أو في مجازره ومقابره الجماعية التي فتحها لوأد بشر هذه الحكايات، بما توفّر له من آلاتٍ تزييف إعلاميّ، على مدى السنتين الأوليتين اللتين تغطّيهما الرواية من عمر الثورة السورية.

رواية “الذين مسّهم السّحر” متألّقة بصراحتها وتوثيقها الروائي المحلّق من أرض الواقع التسجيلي والتأريخ إلى فضاء الرواية. وتكشف هذه الصراحة، التي لم يستطع التسجيل قتل فنيتها، خزيَ ما ارتكبته ألاعيب بعض الروايات والدراسات التي ادّعت الحيادية في معالجتها لقضايا وأحداث الثورة السورية، سواء بتعمية اسم الثورة، أو بتغطية مجازر النظام عبر مراكمة الحديث عن أسلَمَتها وعن مجازر داعش في المدنيين السوريين. ولا تترك روزا ياسين حسن في روايتها مجالاً للتساؤل عن واقع ما ارتكب نظام الأسد من مجازر توثّقها بالتاريخ والفظاعات وأعداد الضحايا، ومن غير خوف السيّر على صراط فخاخ الطائفية الشائكة. بل تزيد ذلك أيضاً بعرض وقائع وجرائم النظام في تجييش الطائفة العلوية للدفاع عنه، تحت إشاعة الذعر، ومخازي تحويل معظم شبابها إلى شبيحة ولصوص وقتلة، واعتقال وقتل المعارضين منهم لسياساته، وإجبار أهالي هؤلاء المعارضين إلى نبذهم سواء بالقناعة النابعة من تخويفهم بذبح السُنّة لهم إن لم يقتلوهم قبل ذلك، أو بالخوف المباشر من بطش النظام بهم على أيدي مخابراته وشبّيحته. ولا تهرب روزا ياسين حسن بذلك من عرض حقيقة حدوث أسْلمة الثورة بعد سنتها الأولى، واندفاع الشباب السوري، والسنّة منهم بشكل خاص، إلى حمل السلاح دفاعاً عن أهاليهم وأعراضهم، واستغلال قوى خارجية بالأخص منها دول الخليج لاحتياج هؤلاء الشباب إلى السلاح، بضمهم إلى كتائبها وفصائلها الإسلامية التي شكلتها لمنع تحوّل سوريا إلى الديمقراطية. لكنّها تُرجِع دون مواربةٍ، من خلال حوارات أبطال روايتها وأفعال النظام بالتجييش الطائفي، أسبابَ لجوء الثورة للسلاح إلى أفعال النظام الممنهجة من أجل بقائه. ولا توْقف أبطالها المعارضين الديمقراطيين السلميين في ذلك عن الاستمرار في أعمال الإغاثة، ومساعدة الجرحى من الجيش الحرّ والشباب الثائر دون تمييز في هذه الأسلمة، رغم قيام بعض الفصائل الإسلامية باختطاف الديمقراطيين وطردهم من ساحات التظاهر التي أصبحت أسيرة شعاراتهم.

في شظايا الحكايات التي تجمّعها بمغناطيس فنية الرواية، تنجح روزا ياسين حسن في مشروعها الذي يلخّصه عنوان الرواية بقوّة، ويتجلّى في تصوير تغيير السوريين الذي أحدثته ثورتهم فيهم، كما لو مسّتهم بسحر، سواء من خلال الصورة التي أحدثتها الثورة كظاهرة تاريخية، أو الكتابة التي تسجل ما يحدث بعمق الجروحات التي تخْلُقُها الأحداثُ في الأجساد والأرواح، مع حقيقة عجز الصورة والكلمات والخيال عن توثيق ما يجري:

ــ “للكلمات تأثير يختلف عن الفيديوهات واليوتيوبات… للكلمات وقع يجعل القارئ يشعر بما دار في دواخل شخصية ما قبل أن يقتل، أو ما شعرت به قبل أن يدمَّر بيتُها، أو يموتَ حبيبٌ لها أمام عينيها، الكلمات تستطيع أن تنقلَ ما أَحسَّه طفل وقت نزول قذيفةٍ قريبة، وكيف تَمزَّق قلبُ أم على ابنها، هذا ما تستطيع الكلمات أن تنقلَه دون الصّور. وتذكرت ريما صديقها فراس الصّفدي، ذاك الذي قتل في الخالدية قبل شهور، ورأيَه في أن الصورة تنقل ما لا تستطيع الكلمات نقله”.

ــ “كان فراس يتحول إلى ذكرى مؤلمة، فيما أبو أحمد الصافي يحتلّ مكانه في الذاكرة، وللتوّ فرض نفسه على تفكيرها! كان يعرف كلّ القتلى في مدينة داريَّا، فهو الذي دفن معظمهم! يدور في سيارته الهونداي الصغيرة البيضاء في الشوارع وتحت القصف، يراوغ الشظايا والحرائق والنهايات، يلمّ الجثثَ المرتمية هنا وهناك، يأخذُها إلى باحة المسجد ويكفّنها… “لوجه الله” كما عبَّرَ، ثم يدفن الجثث فيما القصف مستعرٌ، “فإكرام الميت دفنه”. قال لي وهو يقف متعجّلاً عند باب بيته: أنا رأيت الموت مرّات ومرّات. كنّا ننقل الناس الميتة، إلى الآن لم أعرف جثث من هي؟ ندور في السيارات، ونلمّ الجثث من الشوارع والأقبية… مئات ومئات، سيارتي كلها مثقّبة بالرصاص… رأيت الذي لم يره بشر. لن تصدّقي بشاعة ما رأيت! الذي صار يا أختي بهذا البلد ولا الخيال بيتصور أفظع منه، ومهما حاولتم أن توثّقوا وتكتبوا لن تقدروا… الذي حدث أفظع… أفظع من ذلك بكثير”.

وفي هذا التغيير الذي لا يعود الممسوس فيه بسحرٍ إلى حاله، والذي مسّ السوريين، قبل أن يُلقي ببلدهم لقمةً تتفتّت في فم الجحيم، على صعيد موضوع الرواية؛ تعرض الروائية ما لا يتاح لقراءةٍ أن تعرض، ولكن كأمثلة على عرضها:

ـــ سحر المظاهرات السلميّة الطيارة كما الفراشات، والهدارة كما السيول، وهتافاتها التي تقشع الخوف لتُظِهر جوهر الإنسان الحرّ الذي ينشر أجنحته على الآفاق، تحت الرصاص الذي ينهمر.

ـــ تمزّق العائلات والصداقات بسكاكين الخوف وأنياب المعتقدات ولعاب المصالح.

ـــ حوارات المعارضة المتحالفة مع النظام، والواقفة هامشاً للنظام، بتخلف معتقداتها، مع شبابها الذين يغادرونها إلى الثورة.

ـــ بروز فرسان الحوار الذين يثبّتون شرعيته النظام بطرح الحوار الذي لا يجدي مع النظام.

ـــ حوارات المثقفين الذين يتلطّون بالخوف على البلد من التدخل الخارجي، ومن سيطرة الإسلام السياسي على الثورة، مع شباب الثورة الذين يسخرون منهم بطرح السؤال إن كانوا بحاجةٍ إلى بطاقة دعوةٍ للثورة؟

ـــ خوف الأقلّيات الدينية والقومية واصطفافات الكرد بين الاتحاد والانفصال.

ـــ بروز الأعمال الروائية والفنية والأغاني والهتافات التي تؤثر في الوعي وتحفّز على الحريّة، مثل رواية “القوقعة” أغنية “يا حيف” وأغاني وهتافات إبراهيم القاشوش وعبد الباسط الساروت. إضافة إلى بروز الأبطال الشعبيين الذين خلقتهم الثورة، مثل الرجل البخاخ، الذي دوخ النظام ببخ هتافات الثورة على جدران دمشق.

ـــ كشف أفعال النظام في التجييش الطائفي والاستعانة بحزب الله وإيران وروسيا في قمع الثورة.

ـــ حوارات سيطرة الإخوان المسلمين على مجالس ومنظمات وفصائل الثورة.

وغير ذلك الكثير مما أثر في تفتّت سوريا، ودَفَع الرواية إلى ختامها بتبدّد أبطالها بالشهادة والاعتقال، والهجرة تحت ضغوطات الملاحقة، وفقدان الأمل، وفَتَح الرواية على الخوف من واقع منتظر أكثر مأساوية وظلاماً لسوريا.

وفي هذا التغيير الذي مسّ السوريين، على صعيد فن الرواية؛ باختلافٍ عما يحدث من استقلالية للحكاية في ألف ليلة وليلة، تُجمِّع روزا ياسين حسن شظايا حكايات السوريين التي تصور تمزّق بلدهم على جميع أصعدة المكان وأرواح البشر: تفجيراً بالصواريخ والبراميل، وتقطيعاً للأجساد بالسكاكين وسحقاً للأجساد والأرواح بالاعتقال والتعذيب والاغتصاب. إضافة إلى ما يستخرجه السوريون من حياة في هذا التمزيق: شعور لا يمكن وصفه بالحرية والتحليق دون خوف، وحبّ يحاول أن يربط الأديان والطوائف بأوشحة السلام والثقة، وأمل يغذي القلوب بالمقاومة رغم السحق الخارج عن احتمالات البشر.

وفي هذا التجميع الذي يصعب في الحقيقة صوغه والارتقاء به إلى رواية ملحميّة تليق بملحميّة الثورة السورية، تتألّق روزا ياسين حسن أولاً بابتكار المكان الأساسي لحركة وتشعبات الرواية، والذي وفّره لها الواقع السوري دون افتعال، إذ هكذا هي سوريا قبل تمزيقها: ضاحية جرمانا الدمشقية التي تضم مزيج الأديان والطوائف والقوميات التي تشكّل المجتمع السوري، وبخصوصية وجود الكثير من أطياف المعارضة في هذه الضاحية، وزيادة أهميّة هذا المكان بنزوح الكثير من أهالي المدن والبلدات والقرى السورية إليها هرباً من مجازر جيش وشبّيحة نظام الأسد. كما تتألق الروائية، ثانياً، باختيار مجموعة أبطالها الأساسيين من مناضلي المظاهرات السلميّة الذين ينتمون عائلياً إلى مختلف الأديان والطوائف، ويتداخلون بعلاقات الزواج والحب، ويشكّلون بقراباتهم وصداقاتهم وحركة نضالهم في الثورة مع مختلف المجموعات والفصائل والنشطاء على امتداد سوريا، عوامل ربطٍ لا افتعال فيها بين شظايا حكايات الرواية، التي تتجمّع بحركة نشاطهم وحبّهم وسعاداتهم وآلامهم لتشكّل روايةً ملحميّة جريئة ومنحازة دون مواربةٍ للإنسان، ولحقّ السوريين بالثورة من أجل الحرّية والكرامة. وتتألّق، ثالثاً، بتصميم بنية بسيطةٍ ذكية تتناغم مع طبيعة الرواية وتتضمن أربعة وثلاثين فصلاً، تتدفّق فيها الحكايات، بمنظومة سردٍ بسيطة، تقوم فيها الكاتبة بدور الراوي عن الأحداث والشخصية التي تنبعث فيها الحياة في اللحظة الموائمة، لتكمل السّرد عن نفسها وغيرها والأحداث، بلغةٍ بسيطةٍ فصحى يتحوّل فيها الحوار إلى العامية الأقرب إلى الفصحى.

وختاماً في شظايا حكاياتها عن السوريين الذين مسهم السحر، لا تتخلى روزا ياسين حسن عن بساطتها في معالجة السلوك النفسي لشخصيات روايتها، بما يضفي مسّ القارئ بسحر تجلٍّ داخل الشخصيات، في أتون تغيّراتها مع انفلات الكوابت ووحشية الرغبات، وارتكاسات الارتكابات، كما في كبت مشاعر الحب أمام ضغط سيف الواجب، وفيضان الخجل البريء الذي يوشي صوت الشاب والخفر المضيء بنمش وجه الصبية الهارب من فيض الحبّ، في أتون سحر الثورة الذي يصهر المشاعر ليُخرج أجمل ما في الإنسان من مشاعر.

روزا ياسين حسن: “الذين مسّهم السحر

منشورات الجمل، بغداد وبيروت 2016

478  صفحة.