رسالة سياسية!
يمكننا القول في مقدمة هذه الرسالة أن القرار السياسي في الوضع السوري الراهن لم يعد سورياً، وإنما صار بيد القوى الخارجية الدولية والإقليمية. فأصبحت المعارضة بشقيها العسكري والسياسي وكذلك النظام خارج اللعبة، ويمكننا القول أيضاً أن تأثير العوامل الخارجية في الصيرورة السورية ومآلاتها القادمة صارت أكبر بما لا يقاس من تأثير العوامل الداخلية. وبات الأمر يتطلب من الشعب السوري جهوداً استثنائية ونضالات شاقة لتغيير الوضع الراهن.
أولاً-الوضع السوري
1-الجنوب السوري: من المؤكد أن المعارك العسكرية التي خاضتها فصائل المعارضة السورية في السنين الثلاث الأخيرة كانت غير متكافئة ولم تحسم لصالحها في كلٍ من حلب والقلمون والغوطة الشرقية والجنوب في درعا والقنيطرة؛ وإنما كانت لصالح تحالف الطيران الروسي والميليشيات الإيرانية والحرس الثوري الإيراني وما تبقى من قوى النظام. ومن الأسباب الخارجية لهذه النتائج الدراماتيكية: تخلي دول ما سميّ (أصدقاء الشعب السوري)، عن دعم هذه الفصائل، ورفع ضغوطها عن حلفاء النظام (روسيا وإيران). وكان للاستدارة التركية المفاجئة نحو روسيا وإيران بعد توتر واحتقان علاقاتها مع الولايات المتحدة دور بارز على مآلات المعارك الميدانية. ولا يمكن عدم الأخذ بالاعتبار تأثير انشغال المملكة العربية السعودية بالحرب الدائرة في اليمن. وكذلك لا يمكن أيضاً إغفال الدور الذي لعبته التفاهمات والاتفاقات بين روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة والأردن على إنهاء وضع الجنوب وتسليمه للروس والنظام، وفي السياق ذاته لا يمكن تجاهل العوامل الداخلية والذاتية للمعارضة وفصائلها العسكرية التي شكلت لأسباب عديدة مرتعاً خصباً لخدمة مصالح كل الدول المتدخلة في المسألة السورية. وليس من المبالغة اعتبار ما جرى، في الجنوب السوري وبقية المناطق الأخرى، كان تسديد ثمن ارتهان هذه الفصائل للقوى الإقليمية والدولية؛ وثمنا لخلافاتها ونزاعاتها وانقساماتها واقتتالها واختراقها بالضفادع، وكذلك فساد بعض قادتها وتخاذلهم الذين لم يكن لهم من هم سوى مصالحهم الشخصية، وكذلك أيضاً انعدام إرادة القتال لديهم وتقاعسهم عن مناصرة ومساندة الجبهات الأخرى التي كانت بأمس الحاجة للمساعدة.
السويداء: بقيت محافظة السويداء طرفاً بعيداً عن عقدة الصراع الدائرة خلال السنوات السبع الماضية. فقد رفضت أن تكون طرفاً إلى جانب النظام في هذه الحرب، وامتنعت عن إرسال أبناءها ليقاتلوا مع قوات الأسد. فاعتبرها النظام محافظة متمردة عليه. الأمر الذي جعلها اليوم في دائرة استهدافاته وضمن أولوياته لتكون ساحة معركة مع المجموعات الإرهابية المتطرفة والمصنعة مخابراتياً كداعش، لإثارة نزاع مذهبي وطائفي، يصعب معرفة نتائجه الخطيرة مالم يتوحد أهالي السويداء خلف موقفٍ وطني حاسم، يحبطون من خلاله خطط النظام لاستدراج المحافظة واستدراجهم إلى قائمة المتناحرين أو للاصطفاف خلفه.
لقد رفض أهل السويداء التهديدات الروسية ومشاريع النظام، وهم مصرّون على أن لا يكونوا أداة لقتل إخوانهم السوريين، وهو الموقف الوطني الذي عرف به أبناء الجبل ورسخوه عبر تاريخهم، والآن يحمله شيوخ الكرامة والقوى الوطنية هناك. وهم يعرفون الثمن الباهظ لذلك.
وتشير التطورات الأخيرة بوضوح إلى مخطط النظام بإحداث فتنة كبرى في المدينة، كي يستطيع من خلالها عزل المعتصمين من أهالي المخطوفين وشيوخ الكرامة عن مجتمع السويداء والصاق تهمة الإرهاب بهم.
أصدر شيوخ الكرامة بياناً، هاجموا فيه النظام وتخاذله في ملف المختطفات. وحملوه المسؤولية عن هجوم “داعش” على المدينة في تموز الماضي. وقد جاء فيه أيضاً: “ونحمله كامل المسؤولية عن مصير المختطفين “، وأننا “سنبذل كل الجهود لتحريرهم، حتى لو كانت حرباً مفتوحة مع أي جهة كانت.”
2-الشمال السوري: يقرع النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون والروس طبول الحرب على محافظة إدلب. فبعد فشل قمة طهران التي رفضت فيها تركيا الهجوم على إدلب، وحذر أردوغان من كارثة إنسانية إذا وقع هذا الهجوم، وقد يؤدي إلى نسف مسارات الحل السياسي في جنيف واستانا وسوتشي. وجدت روسيا نفسها أنها واقعة بين خيارين صعبين، فهي من جهة مضطرة للإبقاء على تحالفها مع طهران للاستفادة من جهد ميليشياتها المذهبية على الأرض، ومن جهة أخرى مضطرة لمسايرة تركيا خوفاً من انسحابها من خط أستانا وقيامها باستدارة أخرى دراماتيكية باتجاه الولايات المتحدة. ولذلك ارتأت أن تلعب على الوقت بانتظار تغيرات جديدة على الأرض. لكن من لجم موسكو ومنع عدوانها على إدلب هو الموقف الدولي وحملة الضغوط السياسية والعسكرية من الولايات المتحدة وأوربا، الذين حذروا من كارثة إنسانية، وتهديد بالرد المباشر والسريع على اي هجوم كيماوي يشنه النظام السوري. وتحركت القطعات العسكرية البحرية إلى شرق المتوسط، وحتى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فقد اعلنت في تصريح غير مسبوق عن استعدادها لتحريك قواتها العسكرية إلى المنطقة. من عوامل لجم الروس أيضاً، انبثاق حراك شعبي جديد في الداخل السوري، إذ بدأت تخرج مظاهرات شعبية عارمة في مدن وبلدات إدلب وريفي حلب وحماة تندد بالاحتلال الروسي وتدعو للصمود خلف أهداف الثورة. ويرفع المتظاهرون أعلام الثورة السورية والشعارات التي تؤكد على استمرار ثورتهم حتى تحقيق مطالبهم بإسقاط النظام ونيل الحرية والكرامة. ومن الملفت أن هذه التحركات أصبحت محط الأنظار دولياً وإقليمياً حيث استشهد المندوب الفرنسي في مجلس الأمن بهذه المظاهرات ويقول: إن الناس في إدلب ليسوا إرهابيين، إنما هم مناضلون من اجل الحرية. من هنا يجب التأكيد على ضرورة حماية هذا الحراك واستمراره وتقديم كل أشكال الدعم والمساندة له.
وفي الواقع أثمرت التحذيرات والضغوط الدولية الكبيرة، وأدت مع صلابة الموقف التركي وزخم وقوة التظاهرات الشعبية في الشمال، إلى وقف الاندفاع الروسي للعدوان على إدلب واجتياحها. في مثل هذه الظروف عقدت قمة سوتشي بين بوتين وأردوغان، وأسفرت عن اتفاق لتسوية ملف إدلب. تضمن إقامة منطقة عازلة، ونزع السلاح الثقيل منها، ومحاربة المنظمات الإرهابية ضمن برنامج زمني متفق عليه، إن موقف تركيا صعب وحرج، وربما هي أكبر المتضررين بعد السوريين من معركة إدلب، التي تشكل بمجرياتها ونتائجها خطراً على أمنها القومي. وبهذا الاتفاق يمكن القول: إن شبح الكارثة الإنسانية، قد أُبعد عن إدلب لكن احتمالات الانفجار تبقى قائمة.
3-اللجنة الدستورية: هناك محاولات دولية لاختصار القضية السورية إلى مجرد دستور وانتخابات. وما يجري من مشاورات لتشكيل “لجنة دستورية” ما هو في الحقيقة إلا خلط للأوراق بهدف التهرب من تطبيق بيان جنيف1 لعام 2012، ونسف قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. فقضية شعبنا ليست موضوع دستور أو لجنة دستورية أو انتخابات، بل هي في شكل الحكم أي في الانتقال السياسي من نظام مستبد ودموي وفاسد إلى نظام وطني ديمقراطي قائم على الحرية والكرامة والمواطنة والعدالة. فوضع الدستور الجديد وإجراء الانتخابات من مندرجات المرحلة الانتقالية، تتم بعد تشكيل هيئة الحكم الانتقالي وبإشرافها. ومن الواضح أن ما يجري تحت هذا عنوان ” اللجنة الدستورية ” ليس إلا حرفاً للعملية السياسية عن مسارها الصحيح، وتثمير للسياسة الروسية التي تعمل على تأمين مصالحها الإقليمية والاستراتيجية الدولية عبر محاولتها إعادة تأهيل النظام.
4-عودة اللاجئين وإعادة الإعمار: سارع بوتين بعد قمة هلسنكي مع ترامب إلى إعلان مبادرة روسية لمعالجة الجانب الإنساني في الأزمة السورية؛ سواءً فيما يتعلق بعودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم أو إعادة الإعمار. وحرصت على إحاطة مبادرتها بصخب إعلامي كبير، وتريد عودة اللاجئين دون أي اعتبارات سياسية أو ضمانات أمنية وحقوقية، وتحويلها إلى مجرد قضية إنسانية يجب معالجتها. فالهدف الروسي من وراء ذلك هو تجاوز ملف الانتقال السياسي وإنهاؤه، وإعادة الشرعية للأسد ونظامه دولياً، وكضرورة اقتصادية للحصول على الموارد اللازمة لاستمراره، وتغطية تكاليف احتلالها لسورية. لكن مبادرتها لم تلق استجابة من الجانب الأميركي والغربي عموماً، بل قوبلت أيضاً بالصدّ من قبل السوريين مما أجبرها على تجاوزها، واتهام المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة بعرقلتها.
تعتقد روسيا أنها فعلاً قادرة بمفردها على فرض النهاية للقضية السورية، وأن الجميع سوف يخضع لابتزازها ويسارع إلى المساهمة في إعادة إعمار سوريا وعودة المهجرين. لكن الرد الحاسم جاء من الولايات المتحدة الأميركية الذي أبلغه بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي إلى الروس في جنيف حيث قال: إن إعمار سورية هو أولاً مسؤولية من دمّرها، وإن الولايات المتحدة لن تساهم في إعادة الإعمار قبل الخروج الإيراني من سوريا وإنجاز الحل السياسي، وهو لن يكون في موسكو أو واشنطن بل في جنيف ووفق قرار مجلس الأمن 2254. وكذلك فعلت العديد من الدول الأوروبية.
أما نظام الأسد فلا رغبة لديه مطلقاً في عودة المهجرين. فسياسته الثابتة، منذ سيطرته على السلطة 1970، هي القتل والاعتقال والتهجير. فكلام بعض الساسة اللبنانيين عن رفض النظام عودة العائلات السنّية المهجرة في لبنان، ما هو إلا تطبيق للشعار النازي الذي رفعة رأس النظام ” سوريا المتجانسة” وتطبيقاً أيضاً للمراسيم التي يصدرها بمصادرة أملاك المهجرين. وكذلك كلام المجرم جميل حسن رئيس فرع المخابرات الجوية عن” سوريا بـ 10 ملايين صادق مطيع للقيادة أفضل من سوريا بـ 30 مليون مخرب”. ووصف التعامل مع اللاجئين حال عودتهم كما التعامل مع الأغنام؛ حيث سيتم تصفية “التالف” منها، واستخدام الصالح منها، أما المطلوبون منهم سيتم التعامل معهم مباشرة بتهمة “الإرهاب”. هذا رسالة واضحة لكل من يفكر بالعودة إلى الوطن في ظل هذه الظروف.
5-المشهد السياسي السوري يحتدم الصراع في سوريا وعليها وقد انتقل إلى مرحلة جديدة، لا سيما بعد قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين، والتي تم فيها التركيز على حماية أمن إسرائيل، وبحث الوجود الإيراني في سوريا. رغم أن هذا الوجود مفيد للجانب الروسي في مناورته السياسية مع الولايات المتحدة الأميركية التي تحتل الشرق السوري. نعتقد أن الدور الإيراني في سوريا سوف يتضاءل إلى حدٍ كبير، مقابل بروز أقوى للدور الروسي لكن دون تفويض لها بإنجاز حل سياسي. فالوجود الأميركي-الغربي كما هو معلن سيبقى حتى هزيمة “داعش” ومنع عودة التنظيم شمال وشرقي سوريا، وإخراج إيران من سوريا وهو مطلب إسرائيلي التي دخلت على خط الصراع بشكل مباشر سواءً بالتفاهمات التي طبقت في الجنوب السوري أو عبر الهجمات المتكررة على القواعد العسكرية الإيرانية في سوريا، وهذا يتكامل مع التوجه الجديد للولايات المتحدة الأميركية. كما أن المناورات الأميركية والغربية تتجه نحو اضعاف الموقف الروسي والضغط والحوار معها للوصول إلى تفاهمات للحل سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254. وهذا ما عبرت عنه الوثيقة الصادرة عن اجتماع “اللجنة المصغرة”، وهناك مقترحات خطية لخبراء اميركيين بينهم المبعوث الجديد إلى سورية جيمس جيفري، تتضمن إقامة حظر جوي وبري شرق سوريا لتحقيق هذه الأهداف. لكن موسكو لا تزال تسير في مسارات أخرى خارج مسار جنيف. هذه الأوضاع ستبقى مناطق النفود الراهنة مستمرة. أما مصير بشار سيبقى يستخدم كورقة في اللعبة الدولية إلى أن يتم إنضاج حل بتوافق دولي للقضية السورية. لكن من المستحيل استمرار هذا النظام لثقل ملفات اجرامه الموثقة وسلوكه الطائفي الذي لن يكون عامل توحيد للبلد حتى ولو في الحدود الدنيا. وهذا سيؤدي على الأرجح إلى التخلص من بشار بتوافق دولي إقليمي في وقت ما، وهذا ما عبر عنه مؤخراً كلاً من الرئيس الفرنسي وبولتون مستشار الأمن القومي الأميركي، عندما تحدثا عن استحالة بقاء الأسد في السلطة.
ثانياً-الوضع الإقليمي
من الواضح أن كل القضايا والمسائل والصراعات في الشرق الأوسط متشابكة ومتأثرة ببعضها، فما يجري في الداخل الإيراني ينعكس على كل مشاكل المنطقة، وما يجري في العراق أو اليمن يؤثر على إيران وسوريا ولبنان وبالعكس ولهذا من المفيد إلقاء الضوء على الأوضاع الإقليمية.
1-الوضع الإيراني: لقد استثمرت إيران كثيراً في أزمات المنطقة، لكنها دمرت مجتمعها واقتصادها، واخذت تصطدم الآن بحائط مسدود من معظم شعوب ودول المنطقة، وكذلك من الولايات المتحدة والغرب عموماً. وفي السنة الأخيرة بدأ يرتفع بوضوح منسوب مقاومة الشعب الإيراني لهذا النظام، الذي أفقره وفاقم من حرمانه وصرف خيرات البلاد على التسليح والتدخل في شؤون دول المنطقة وتكوين ميليشياته فيها. وتجري السياسات التوسعية الإيرانية تحت يافطة معلنة على لسان كبار مسؤولي النظام والحرس الثوري، وهي السيطرة على المنطقة وإحياء أمجاد الإمبراطورية الفارسية.
لقد وجد نظام الملالي أن أفضل وسيلة لتحقيق أهدافه، إحياء وتأجيج الصراع التاريخي بين السنة والشيعة، وتشكيل الميليشيات والدويلات الموازية داخل دول المنطقة لإضعافها وجعلها تحت سيطرته ووصايته.
إن السياسة التوسعية الإيرانية التي تفاقمت إلى أعلى مستوياتها في السنوات الأخيرة، تلقى الآن مقاومة متصاعدة من كانت تعتبرهم حواضنها الشعبية في العالم العربي، وهذا ما رأيناه في المظاهرات العارمة في جنوب العراق وانتفاضة البصرة الأخيرة. لقد برز في البيت الشيعي العراقي تيار نافذ وقوي يريد أن ينأى بنفسه عن دولة الملالي وسياستها التوسعية، ويطرح شعارات وطنية واضحة ضد نظام المحاصصة الطائفية، والعمل على إحياء وإعادة العلاقات مع الدول الخليجية والعربية عموماً وإعادة التوازن السياسي المفقود من خمسة عشر عاماً.
يعيش النظام الإيراني حالة عزلة على المستوى الإقليمي والعربي عموماً بما فيها دول المغرب العربي. أما علاقات النظام مع الغرب فقد بدأت تضعف وتزداد توتراً مع نهاية ولاية اوباما ومجيء ترامب للسلطة. وكانت ذروة التوتر عند انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية السلاح النووي الإيراني. وإعادة تفعيل العقوبات ضدها. ومن ملامح تدهور الوضع الإيراني الأزمة الاقتصادية والنقدية التي تكاد ان تعصف بنظام الحكم.
2-الوضع التركي: يبدو أن تركيا تتأرجح منذ عدة سنوات بين كونها في تحالف قديم مع الغرب وعضواً بارزاً في حلف الاطلسي ومرشحة لعضوية الاتحاد الأوربي، وبين طموحاتها المشرقية بتوسيع نفوذها السياسي في الشرق الأوسط واستتباعها بعض دول المنطقة. ولكن عقب أخيل تركيا المسالة الكردية التي تشكل عقدة سياستيها الداخلية والخارجية. وقد جاءت الأزمة السورية لتجعلها تعاني من مسألتين ثقيلتين أخريين: قضية اللاجئين الهاربين من الموت، وهاجس إمكانية نشوء كيانات كردية في شمال سوريا والعراق والخوف من أن ينتقل الدومينو الكردي إلى الداخل التركي. فقد أصبح الأمن القومي التركي على المحك. وكانت ذروة الخلافات بين تركيا والولايات المتحدة حين راح الحليف الأميركي يتحالف مع الفصائل الكردية الموالية لأوجلان الذي يخوض حزبه منذ عقود حرباً ضروساً مع الجيش التركي. وكانت هنا بداية الطلاق غير الناجز بين تركيا والولايات المتحدة. وكذلك بداية أردوغان في خلط الأوراق وتغيير الاتجاه والاستدارة نحو روسيا وبدئه في تحسين وتوطيد العلاقات معها وكذلك مع إيران. ووصل الأمر بتركيا أن تنسق مع روسيا عسكرياً وتعقد معها صفقة 400 S للدفاع الجوي.
3-الوضع العراقي: تشهد الساحة العراقية الكثير من الأحداث السياسية والصراعات على السلطة، وفي الواقع تحمل هذه الساحة وزر إفرازات السياسة الأميركية المتراكمة فيها منذ احتلال العراق عام 2003 وقيام النظام الذي فصله بول بريمر القائم على المحاصصة الطائفية؛ وكذلك تحمل وزر تدخل دولة الملالي وميليشياتها التي تحولت إلى كيانات موالية لها بديلة عن الدولة العراقية.
ما يميز العراق الراهن بعد خمسة عشر عاماً: الفوضى الميليشياوية، والتطرف، والإرهاب، والفساد الذي وصل إلى أعلى مستوى على سلم التقييم العالمي. وكذلك ما يميزه انقسامه وتفتته الدائم في داخل السنة وفي داخل الكرد وفي داخل الشيعة. وفي الواقع في مثل هذه الظروف نشأ الضد واندلعت الانتفاضة العراقية ومن الحاضنة الشيعية في الوسط والجنوب لإرجاع العراق إلى وطنيته وعروبته وتخليصه من الطائفية والفساد والنهب والفقر. ولقد جاءت الانتخابات العراقية الأخيرة لتؤكد موقف الشعب العراقي من الطبقة الحاكمة الفاسدة. ويمكن القول أن انتفاضة الشعب العراقي في الجنوب ونتائج الانتخابات هي الإرهاصات الأولى باتجاه خروج العراق من نظام المحاصصة نحو الدولة الوطنية.
3-الوضع اللبناني: فلبنان لا يكاد يخرج من أزمة حتى يدخل في أزمة أخرى. فهو دولة الأزمات المتواصلة بامتياز. وهو يعيش منذ حوالي خمسة أشهر بحكومة تصريف أعمال. ويرى بعض المحللين السياسيين أن من الممكن أن يبقى لبنان بدون حكومة إلى أجل غير مسمى وطبعاً فراغ القصر الجمهوري من رئيس لمدة ثلاث سنوات ليس ببعيد. ويبدو ان هذا الاستعصاء الحكومي تعود أولى اسبابه إلى عدم التوازن السياسي الناجم عن الانتخابات الأخيرة، وثانيها سيطرة حزب الله التابع مباشرة لولي الفقيه وتعليمات قاسم سليماني على القرار السياسي بقوة السلاح؛ وثالثها طمع التيار الوطني الحر الذي لا يريد أن يعترق بنتائج الانتخابات التي قلصت وزنه بين المسيحيين. فهو يريد أن يأخذ حصة التيار وحصة رئيس الجمهورية على نظرية (فول بزيت وزيت بفول). ليعطل اي قرار لا يتفق مع مصالحه. وعلى الرغم من ان تأخير تشكيل الحكومة يؤثر على سمعة عهد الجنرال، نرى التيار مستمراً في سياسته الاستحواذية. أما حزب الله فهمه من تشكيل الحكومة أن تكون غطاءً شرعيا لممارساته في لبنان والمنطقة وكونه قوة اساسية تابعة لإيران في المنطقة. ورغم ان المجتمع الدولي يدعم منذ فترة استمرار الاستقرار الأمني في لبنان؛ فليس مضموناً ان يبقى الوضع اللبناني على هذه الحالة من الاستقرار القلق.
ثالثاً-الوضع الدولي
لم تتغير استراتيجية الولايات المتحدة منذ انطلاق الثورة السورية، سواء في عهد أوباما او عهد ترامب، فهي قائمة على تطويل أمد الصراع وإدارته والتحكم في سيرورته؛ بحيث لا تنتصر المعارضة ولا يهزم النظام وبالعكس. كما سمحت وشجعت الدول الأخرى على التدخل في الصراع السوري بما فيها روسيا وإيران وتركيا.
لقد حققت هذه السياسة أهدافها وتم تدمير سورية دولة ومجتمعا، وإغراق الدول المتدخلة في المستنقع السوري، وتأتي الولايات المتحدة الآن لتتحكم في نهايات الصراع ووضع الدول المتدخلة في الأزمة السورية في حجومها الحقيقية. فالاستثمار الأميركي/الإسرائيلي للدور الإيراني التخريبي في المنطقة وعلى وجه الخصوص في سورية قد أتى أكله وحقق أهدافه، وقد آن الأوان للإنهاء مفاعيل هذا الدور وإخراج إيران من سورية. لأن إسرائيل تعتبره خطراً على أمنها.
أما روسيا فقد بنت استراتيجيتها السورية، على أنهاء الصراع والقضاء على ثورة الشعب السوري، وتدمير البيئات المجتمعية الحاضنة لها وإخضاع هذا الشعب، والعمل من أجل حل سياسي محوره يبقي على الأسد ونظامه؛ فنراها تستميت في الدفاع عنه، ولم تتورع عن استخدام حق الفيتو اثنتي عشر مرة دفاعاً عن جرائم الأسد.
في قمة هلسنكي بين بوتين وترامب ظهرت مؤشرات قوية على تفويض اميركا لروسيا بالتصرف بالملف السوري والاتفاق على حماية امن إسرائيل، وإخراج إيران وميليشياتها من سورية، وتحسين الوضع الإنساني فيها. بعد هذا القمة سعت موسكو للاستحواذ على كامل الملف السوري، إلا أن هذا المسعى قوبل برفض أميركي أوربي، وهذا يدلل على أن هذا التفويض مشروط بالالتزام الروسي بالحل السياسي برعاية دولية.
إن تلكؤ موسكو سواء بسبب عجزها أو رفضها عن تلبية المطلب الأميركي الإسرائيلي بإخراج إيران من سوريا، وكذلك فشلها في تسويق مبادرتها بشأن عودة اللاجئين وإعادة الإعمار، قد فتحا الباب واسعاً لكباشٍ اميركي روسي جديد. ولقد عكست تصريحات المسؤولين الأميركيين أجواء هذا الاحتدام المتجدد. ومن ثم جاء تصريحات جون بولتون المتواترة ليرخي الستار على رصيد قمة هلسنكي، ولا سيما:” بقاء القوات الأميركية في سورية حتى تحقيق اهدافها”. علماً أن موسكو تبذل الجهود الدبلوماسية الحثيثة للحيلولة دون وقوع صدام إسرائيلي إيراني واسع على الأرض السورية، لأن ذلك يمكن أن يطيح بكل مخططاتها و”منجزاتها”.
إن التصريحات الأميركية قد بددت التفاؤل الروسي بقرب التوصل إلى عقد صفقة مجزية مع الولايات المتحدة، ما استدعى رد موسكو، مع استعراض لقوتها العسكرية، بأن الدعوة لإخراج إيران من سوريا يجب أن تصدر من نظام الأسد. كما ربطت هذا الخروج بالانسحاب الأميركي والتركي أيضاً.
يبدو أن روسيا غارقة في أزماتها في سورية، وكل مناوراتها تدل على أنها بحاجة ماسة إلى إبرام اتفاق مع واشنطن لتامين مخرج سياسي لها من الأزمة السورية.
لا يمكننا الحديث عن وجود رؤية سياسية واضحة للولايات المتحدة الأميركية تجاه سورية حتى الآن، لأن مقارباتها للملف السوري يخضع دوماً لإعادة التقييم والتعديل والتعامل معه بكيفيات مختلفة. فهي مازالت تنأى بنفسها عن مزيد من التورط على الأرض، وتمتنع عن خوض المزيد من الحروب، لكنها لا تريد أن تكرر خطأ الانسحاب من العراق من دون نتائج سياسية، وهي في كل هذا ما زالت تمهد لصفقة مع موسكو لكنها لو تنضج بعد.
أما الدول الأوربية فتبدو كأنها الحلقة الأضعف في الوقت الراهن، ولا تملك أوراقاً وازنة في سوريا سوى ورقة إعادة الإعمار وربطها بتحقق الحل السياسي بما يتفق مع المقررات الدولية في مجلس الأمن، وبعض المواقف والتصريحات حول معركة إدلب والقضايا الإنسانية، وخاصة بيان سفراء الدول الثمانية الأخير، هو نوع من المشاركة الدولية من جهة، ودعم للموقف التركي من جهة أخرى.

رابعاً-الاستنتاجات والمهام
1-يتلخص الصراع في السورية الآن بوجود دول متحكمة فيه لكن مصالحها متضاربة. فكل القوى المنخرطة في هذا الصراع والفاعلة فيه تسعى لتثبيت أقدامها وتوسيع دائرة نفوذها، بانتظار تحولات بالإرادة الدولية على طريق الوصول لحل سياسي، ومثاله الأخير الوضع التركي في اتفاق سوتشي الذي حظي بدعم غربي كبير خشية التهديدات التركية بإطلاق موجات جديدة من المهجرين وعودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم. كما أن لتركيا وروسيا موقف مشترك بمنع إيران وميليشياتها من الدخول إلى إدلب والشمال السوري في حال اندلاع الحرب الشاملة فيها. هذه التطورات بمجملها آلت إلى تجميد الأوضاع وابقائها عند حاجز “المنطقة العازلة”. ضمن هذا التثبيت، بقيت الحالة السياسية جامدة، ويتم الآن التداول حول أمكانية تقديم مشروع حل سياسي يمكن العمل عليه وقابل للحياة، ومدخله هو تثبيت الوضع السياسي القائم، وأساسه مسألة عودة اللاجئين وإعادة الإعمار وملف المعتقلين والمغيبين، أما موضوع اللجنة الدستورية وكتابة الدستور والانتخابات ما هي إلا لعب في الوقت الضائع من قبل ديمستورا والروس. فإذا كان هذا الأساس للحل السياسي، فهناك اجماع دولي أن ذلك لن يحصل إلا وفق اتفاق سياسي وتوافق دولي وإقليمي عليه، وفي ظل استقرار آت من حلٍ مستدام، وترتفع الأصوات يومياً بأن كل ذلك غير ممكن مع استمرار الأسد ونظامه بسبب فقدان الثقة بقدرته على قيادة مرحلة جديدة بعد كل ما فعله من جرائم قتل وتدمير وتهجير. هذا التطور هو الذي يخلق الآن مناخاً للعمل السياسي وهي مهمة القوى السياسية والثورية لإخراج المحتلين وإعادة بناء سورية وطناً لجميع أبنائها.
2-لابد من استخلاص الدروس من سيرورة الثورة السورية وصيرورتها. فالثورة تأخذ مشروعيتها من الداخل وتستمد نسغ حياتها منه وليس من أي مكان آخر، وفقط عند تحقق هذا الشرط يمكنها ان تحصل على دعم الخارج دون الارتهان له. إن نقد الثورة من اجل تصحيح مسارها ليس عيباً ولا سبة، وإنما العيب هو الغرق الطويل في مستنقع الرضا عن الذات. إن التلكؤ في نقد الثورة وغض النظر عن أخطائها مكَّنَ من تشكل الثورة المضادة وتعاظمها على يد قوى التطرف، التي فتحت للنظام وحلفائه ثغرة اختراق لا تقدر بثمن. وبدأ تشكل هذه الثغرة بخطابها السياسي الإسلاموي الذي ابتعد كثيراً عن الخطاب الوطني الديموقراطي. فالكثير من الفصائل العسكرية المعارضة، أسرت نفسها في طقوس ورموز وإشارات ضيقة كانت وبالاً عليها وعلى صيرورتها ومساراتها، وأتاحت للنظام وحلفائه ان يزج بالقوى المتطرفة في صفوفها، التي كانت من حيث الشكل ضد النظام ومن حيث مضمون الممارسة حليفاً وظهيراً له، وقد كان هذا جلياً في محطات كثيرة. صحيح أن العسكرة فرضت فرضاً على الثورة، لكن تطورها اللاحق وتحولها إلى فصائل وكتائب متناحرة وإلى أدوات للتدخل الإقليمي والدولي أضرّ كثيراً بها. كما أن الخروج عن شعاراتها وأهدفها أضاع بوصلتها لصالح هويات وكيانات لا علاقة لها بالثورة، وتعمل لتمرير مصالحها وأجندتها الخاصة خدمة للخارج الإقليمي والدولي. فبعد طي صفحة الصراع المسلح والخلاص من ظاهرة الفصائلية وأضرارها والتي أشاعت أجواء من الصراعات والثقافة المتخلفة، وفشلت في تقديم نموذج يساعد المدنيين على إدارة مناطقهم بأنفسهم، كما فشلت على خلق حالة سياسية بديلة، بعد أن تحولت إلى إمارات متصارعة ومحميات تتبع لأجندات خارجية. فالخلاص من هذه الحالة بحد ذاته يصب في مصلحة العمل الثوري والوطني، ويعود بالفائدة على الجسم السياسي، حيث أصبحت الساحة الآن مهيئة لإعادة التفكير بأدوات العمل السياسي، وأفسحت المجال لإعادة الثورة إلى سكتها الصحيحة لكنها مثخنة بالجراح بعد سنين من الحرب والتدمير والتخريب.
3-بعد سبع سنوات ونيف من عمر الثورة، بتنا ندرك جميعاً أنها سلكت طريقاً مليئاً بالصعاب، ولم نكن ندرك حجم وضخامة الممانعة الإقليمية والدولية للتغيير في سوريا والمنطقة، وأن هذا الطريق لم يؤد في النهاية إلى نجاح الثورة واسقاط النظام. إذن نحن بحاجة ماسة للبحث في الأسباب التي أدت إلى هذا الفشل، وإعادة النظر في كثير من المسلمات، وأصبح الناس بحاجة للمزيد من التوضيحات وعلينا أن نتقبل النقد والمساءلة وأن نجدد أفكارنا وقوانا وعلاقاتنا وتحالفاتنا، وأن نعيد النظر بأدواتنا وأساليب عملنا بعد أن خسرنا جولة من جولات هذه المعركة التاريخية. فالمطلوب من قوى الثورة (وضمناً منا) رسم خارطة طريق جديدة تأخذ بالاعتبار تجاوز الأخطاء والعثرات وخصوصاً القاتلة منها، وترتيب الأولويات التي تساعدنا في تكثيف الجهود للخلاص من الواقع القائم وانتشال سوريا من أزمتها عبر خطاب سياسي وطني جامع يوحد السوريين بكل أطيافهم، والانطلاق من جديد نحو هدفنا المركزي وهو اسقاط النظام والخلاص من الاستبداد والظفر بمعركة الحرية والكرامة.
4-حول قضايا الوضع الراهن: هناك أربع ظواهر سلبية ركبت على جسد الثورة وما زالت موجودة ذيولها وتعمل لذا يستوجب العمل بكل قوانا على انهائها والخلاص منها وهي:
أ-الظاهرة الفصائلية وما أفرزته من مخلفات مؤذية للثورة ولحاضنتها الاجتماعية.
ب-الظاهرة الاسلاموية وما أحدثته من تخريب، حيث تشاركت مع النظام في نشر ثقافة الموت والكراهية وانقسامات داخل المجتمع السوري.
ج-ظاهرة التطرف القومي العربي والكردي وحملة الرايات الانفصالية والفئوية.
هـ-ظاهرة المال السياسي والتدخل الخارجي والسطو على القرار الوطني.
بعد مظاهرات الشمال السوري والمواقف الجادة التي برزت خلال هذا الحراك . أصبح الشارع السوري بأمس الحاجة لخطاب وطني جديد وهذا قصور من الجميع ونحن منهم، علينا أن نقدم خطاباً يلامس هموم وهواجس المواطن السوري بكل مكوناته في الداخل والخارج، وندعو الجميع للعمل على بلورة مشروع وطني وتشكيل جسم سياسي أو كتلة وطنية جديدة قادرة على حمل عبء هذا المشروع الوطني وتطبيقه. صحيح أن هذه المهمة صعبة، وأن جهات عدة عملت عليها ولم تصل إلى نتيجة بسبب الكثير من المصاعب أهمها اسر الفكر في أيديولوجيات مقدسة لدى هذه الجهات سواء كانت إسلامية أو يسارية أو قومية. من هنا ندعو الجميع إلى نقد الفكر بالممارسة ونقد الممارسة بالفكر لإنتاج المشروع الوطني بشكل جاد وصادق بعيداً عن الأنانية والمصالح الحزبية الضيقة، والتركيز على اخراج المحتلين وأنهاء نظام الاستبداد والفساد والقتل والعبودية وإقامة النظام الديمقراطي ودولة المواطنة والحق والقانون.
دمشق 19 تشرين الأول 2018
اللجنة المركزية
لحزب الشعب الديمقراطي السوري

[gview file=”http://www.syria-sdpp.org/wp-content/uploads/2018/10/رسالة-سياسية.pdf”]