هيئة التحرير

أنا الآن مسجّى في قبري، ولم يتيسر لي أن أخاطبك حيًا، جاء بي والديّ إلى تركيا خوفًا علي وعلى إخوتي من براميل الحقد الأسدية ومن صواريخ الإجرام الروسية.

قالا إن في هذا البلد حاكمًا عادلًا يحب السوريين وقد صدح بصوت عال مع انطلاقة ثورة السوريين مؤيدًا لحقهم في الحرية، وذهب أبعد من ذلك فوضع خطوطًا حمرًا لنظام الأسد وأنذره ألا يتجاوزها.

لم أع خطاباتك المنذرة لنظام الأسد ولكنني شهدت تجاوز نظام الأسد لكل الخطوط التي رسمتها له.

أنا لم أقرأ فوكو ولم أعرف معنى الانتحار ودوافعه، ولم أتلق دروسًا في الدين تحرم إلقاء النفس في التهلكة.

عشت في كنفك سنوات من عمري، وكل ما وعيته إفراط في إهانتي وإقصائي من طرف زملائي وأساتذتي، وكنت أعلل نفسي بأنك في مكانك البعيد لا تصل مسامعك معاناتي اليومية.

وسمعت من الكبار أنك مشغول بقضايا يعسر علي فهمها، ومع ذلك بقيت متشبثًا بخيط أمل رفيع أن ما تسعى إليه من حلول لقضيتنا سيشملني وإن من غير قصد منك.

أنا لا أعرف من السياسة إلا نتائج الدمار التي تملأ سمعي وبصري كل يوم، القتل والهجير والأطفال المدفونون تحت الأنقاض.

لم أدفن تحت أنقاض بناء، ولكنني كنت أقتل كل يوم في مدرستي على يد أطفال عنصريين من أبناء شعبك، وعلى يد أساتذة تلقوا تعليمهم في معاهد بلدك وجامعاتها.

اختلطت على عقلي الأمور وبت فردًا أعزل يواجه جيشًا قاسيًا لا يرحم، وكنت ألوذ في خيالي بما سمعته من أبوي عن عدلك ومناصرتك لي ولأقراني.

مناجاتي لخيالك طالت واستبشاري بقدومك منجدًا كان يتبدد كل يوم إلى أن أصبح هباء منثورا.

سمعت أن أبًا سوريًا ربط ابنه بحبل لكي يعاقبه ونسيه لساعات تحت حرّ الشمس فمال رأسه والتف الحبل على رقبته فمات.

لم تفعل مثل ما فعل بيدك ولكن ما أصابني من اضطراب وما عانته روحي من انهزام دفعني اليوم إلى تنفيذ إعدامك لي بيدي لا بيدك.

وبخني معلمي وتنمر علي زملائي كعادتهم، وكانوا لا يعلمون أنني قد اتخذت قراري باستحضار حبلك ويدك وإزهاق روحي علّ صوتي يصل إلى مشارف عرشك.

أسرعت باتجاه المقبرة، ونفذت حكم الإعدام الفعلي بعد أن مورس علي رمزيًا مئات المرات.

أنا مرتاح الآن؛ لأنني موقن أنني سوف أنجو من العذاب اليومي، وموقن أنني لم أزهق روحي بإرادتي، كنت أحول قتل أبناء شعبك الرمزي لي إلى واقع يوقف عذاباته اليومية.

أنا الطفل السوري الذي صدّق وعودك وخفّ به أهله إلى ديارك مستنجدين بعدلك وعطفك.

أنا الطفل السوري الذي لا يعرف معنى المصالح السياسية، ولا معنى سقف التفاهمات الإقليمية والدولية، ولكنه يعرف أنه معادل موضوعي للطفولة السورية التي جربت الموت بكل أصنافه قتلًا وتعذيبًا وغرقًا.

أنا الطفل السوري الذي لم يُمتع بطفولته والذي ظن أنها ستجد ملاعبها في حماك وبين ظهراني شعبك فعاد عليها ظنها الحسن كابوسًا.

لم ألفّ الحبل حول عنقي هربًا من الحياة؛ فأنا لا أعرف معنى الحياة بعد ولا معنى الموت، ولكنني وجدت في الحبل سلمًا يصعد بي إلى السماء الصافية الخالية من قبح العنصرية، والبعيدة عن مرمى قذائف الحقد، ومراكب الغرق، وإهانات من يضيقون ذرعًا بوجودي.

أنا من نفذ الحكم ولكنني لست من أصدره يا سيدي، ولكنه الذي زرع في نفسي أكبر الأحلام ثم منيت في ظله بأكبر الهزائم.