كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كان أمراً محتوماً تكليف الجولاني ذئابه أن يتربصوا بحركات وسكنات رائد الفارس (1972-ـ 2018)، وأن ينقضوا عليه في البرهة المواتية بوابل من رصاص الغدر والخسة والسواد الجاهلي؛ وأن يتساوى أوغاد النظام وأوغاد «تحرير الشام» في استهداف كوادر الانتفاضة السورية، وخاصة أولئك الذين يتساوى عندهم طغيان بشار الأسد وطغيان الذين عيّنوا أنفسهم، بأنفسهم، خلفاء الله وشريعته. ذلك لأنّ أمثال الفارس هم النقيض لكلّ ما يمثله الطغيانان معاً، الأسدي والجولاني، وهم الخصم اللدود الفاعل والفعال، الناشط والنشيط، على الأرض وفي قلب الحراك الشعبي، وليس في أحضان الأجهزة الأجنبية وفنادق العواصم العالمية ودكاكين الاتجار بالمعارضة والجهاد…
كذلك كان تفصيلاً حمّال مغزى، بالغ الخصوصية والدلالة، أن يجري استهداف الفارس، ورفيقه الشهيد الثاني حمود جنيد، في كفرنبل؛ هذا المكان تحديداً، المحمّل في ذاته وفي تاريخه الماضي والحاضر، بكتلة فريدة من المغزى والخصوصية والدلالة. فمنذ التظاهرات الأبكر، أواخر آذار (مارس) ومطالع نيسان (أبريل) كانت لافتات هذه البلدة قد شدّت الانتباه إلى نبرتها اللاذعة، ومضمونها السياسي العميق، وطرافة ما تمزجه من متناقضات ومفارقات، وبراعة جمعها بين الفصحى والعامية؛ فضلاً عن مهارة التقاط جانب خاصّ في تسميات أيام الجُمَع، وإبرازه على نحو ذكي وساخر ومرير وتحريضي في آن.
ومن جانبي، أشير مجدداً إلى أنّ برهة انشدادي الأولى نحو هذا الطراز من الانفراد الإبداعي، كما أجزت لنفسي توصيفه بدون تردّد، كانت تلك اللافتة التي تقول: «فتّحْ عينك/ مافي نقطة: سلمية، سلمية»؛ أي، بالطبع، أنها ليست سلفية، ردّاً على ادعاءات النظام، وعلى الآراء التي تنتهي إلى خلاصة مماثلة، رغم زعمها الاستقلال عن صفّ النظام (مثل الذريعة الأشهر، حول خروج التظاهرات من المساجد). لافتات أخرى قالت: «مطلوب في سوريا مشايخ ومفتون يعبدون الله دون فرعون»، و«شركة أسد ومخلوف لمكافحة الجراثيم: دبابات، حوامات، مدافع، مدرعات، فرع خاص للشبيحة»، و«من يملك القدرة على رؤية الحقيقة لا يتجه إلى ظلها»، و«لمن يدّعي الخشية على الوطن.. الفراغ أفضل من بشار وزبانيته»، و«متنا ونموت وتبقى سوريا»، و«كلّنا أمهات حمزة الخطيب» حين تكون التظاهرة نسائية. وهنا ما أعلنته لافتة في التعليق على نهاية نظام معمر القذافي: «نتائج دوري الإجرام: خرج القذافي من الدور نصف النهائي/ وتأهل بشار للدور النهائي»!
في المقابل، لم تنجُ المعارضة السورية من التنبيه، والنقد اللاذع حين يتطلب الأمر، فقالت لافتة: «إلى المعارضة السورية.. اتحدوا وكونوا على مستوى تضحيات الشارع الثائر». ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ اللافتات المكتوبة بالإنكليزية ظلت في عداد الأذكى والأنضج، والأسلم لغوياً أيضاً، على نطاق التظاهرات السورية جمعاء. ولقد علمنا، فيما بعد، أنّ الشهيد الفارس كان في طليعة مؤلفي هذه النصوص/ اللافتات؛ وكان، استطراداً، أحد أبرز مهندسي الحراك الشعبي في المدينة. ثم، حين دارت مطاحن شراء الذمم وتجيير المعارضات، إفراداً وأحزاباً وهيئات، إلى هذا أو ذاك من أجهزة الدول الإقليمية والعالمية، علمنا بعدد المرّات التي شهدت رفض الفارس سلسلة العروض والمغريات، رغم خروجه مراراً من سوريا، وإصراره على العودة إلى كفرنبل… حيث توجّب أن يستشهد.
وكَفْرَنْبِلْ (كما يحلو لأهلها لفظ الاسم)، تقع في محافظة إدلب، غرب معرّة النعمان، ويتميّز أبناؤها بنسبة عالية في عدد حَمَلة الشهادات الجامعية (65 في المئة من السكان) وخرّيجي الدراسات العليا (15 في المئة). كما يفاخر بعضهم بأنّ نسب البلدة يعود إلى إلى نابيلو بن ياكين بن منسا بن ميران بن سام بن نوح، وبالتالي فإنّ تاريخ نشوئها غير بعيد عن تواريخ الحواضر السامية العتيقة التي قامت على سفوح ووديان وهضاب جبل الزاو، أو جبل الزاوية الحالي. كذلك يتحدّث أهلها عن الهجرات التي خرجت من كفرنبل بعد وصول الإسكندر المقدوني إلى المنطقة، فبلغت جبلة على الساحل السوري، وتل كلخ في جبال حمص، والكرد في شمال شرق سوريا، والبدو في سهول حماة، وتدمر في بادية الشام؛ إلى جانب تركيا في آسيا الصغرى، وقرطاجة في تونس!
وإلى جانب حفنة من الشهداء، صنعت كفرنبل أمثولات مجيدة لا تُحصى، في التضحية والشجاعة والصبر والثبات والإصرار على نصرة الانتفاضة. ولم تكن عذابات أهلها مشرّفة لبلدتهم، الجميلة الوديعة الهادئة في العادة، فحسب؛ بل صارت قدوة تُحتذى في أرجاء جبل الزاوية، وعلى امتداد سوريا بأسرها؛ وكابوساً يقضّ مضجع النظام، ويُلحق الفشل الذريع بكلّ ما ارتكبته الأجهزة الأمنية من ممارسات وحشية في مسعى قهر البلدة.
وبالطبع، حين وقعت إدلب تحت سيطرة «جبهة النصرة»، توجّب أن تتحول كفرنبل إلى شوكة ثورية في خاصرة السلطة الجهادية، الغاشمة والسوداء والجاهلية؛ وتوجب أن يتكاتف ثنائي الأسد/ الجولاني، وأن يستشهد على ثرى البلدة الفريدة أحرار ثوريون فريدو الصفات، أمثال الفارس وجنيد.
ولأمثالهم، كما في وسعي أن أفترض، كتب محمود دريش: «حرّية التكوين أنت/ وخالق الطرقات أنت/ وأنت عكس المرحلة/ واذهبْ فقيراً كالصلاة/ وحافياً كالنهر في درب الحصى/ ومؤجلاً كقرنفلة/ فاذهبْ إليك، فأنت أوسع من بلاد الناس/ أوسع من فضاء المقصلة/ مستسلماً لصواب قلبك/ تخلع المدن الكبيرة والسماء المسدلة».