محمد حسان – صحافي سوري

الآن نقف أمام عودة التنظيم الثانية، والتي بدأت ملامحها ترسم في عمق البادية السورية، حيث يزداد نشاط تنظيم “داعش” بشكل لافت

قبل أكثر من عام من الآن، كان العالم يحتفل بالقضاء على تنظيم الدولة “داعش”، بعد سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” وقوات التحالف الدولي على مخيم الباغوز أقصى شرق محافظة دير الزور. وعلى رغم أن الأمر كان يعتبر إنجازاً عسكرياً هائلاً، إلا أن القوى المناهضة للتنظيم لم تدرك كما ينبغي أن التنظيمات الجهادية لا تحتاج إلى السيطرة على أرض كي تضمن لنفسها البقاء، فقد ازدهر “داعش” وغيره من الحركات السابقة في سوريا والعراق لفترات طويلة، من دون وجود مناطق سيطرة فعلية.

هفوات القوى المحاربة للتنظيم محلياً ودولياً، لم تتوقف على ربط وجود التنظيم بالسيطرة الجغرافية، بل توسعت لتشمل ارتكاب أخطاء فادحة ساهمت في ما بعد بقدرة التنظيم على بناء نفسه ومحاولة العودة الثانية له، ومن بين تلك الأخطاء تغير الاستراتيجية العسكرية في المواجهة، إضافة إلى تجاهل الفاعلين مسألة معالجة الإرث الإيديولوجي لـ”داعش”، والذي انتشر في المجتمع المحلي خلال سنوات سيطرة التنظيم على مناطق واسعة في سوريا. إضافة إلى استمرار العوامل التي تغذي عودة التنظيم، وتشمل هذه العوامل الانقسامات الطائفية والممارسات العنيفة للسلطات الحاكمة وغياب قانون المصالحة أو الحل لإنهاء الصراع السوري.

حجم الأحداث الحاصلة في البادية السورية ومستواها، يشيران إلى أن الأمر لا يعدو كونه مسألة وقت قبل أن يسعى التنظيم إلى السيطرة مجدداً على مناطق وسط سوريا وشرقها

هذه الأسباب مجتمعة تجعلنا الآن نقف أمام عودة التنظيم الثانية، والتي بدأت ملامحها ترسم في عمق البادية السورية، حيث يزداد نشاط تنظيم “داعش” بشكل لافت، وبدأت هجماته تسبب أرقاً يقض مضاجع النظام السوري وحلفائه في مناطق وسط سوريا وشرقها، بينما تقف “قوات سوريا الديموقراطية” مع حلفائها الدوليين، عاجزين عن مواجهة أسلوب الولايات الأمنية التي تتبعها خلايا التنظيم في عملياتها التي تستهدف تلك القوات.

تعداد داعش اليوم

ينتشر تنظيم “داعش” في الوقت الحالي في مناطق واسعة من البادية السورية (مناطق غرب نهر الفرات)، في البوادي الممتدة بين مثلث محافظات الوسط والشرق السوري، حمص والرقة ودير الزور، تضاف إليها بؤر التنظيم في بادية محافظة السويداء الشرقية. وتتركز أوكار المجموعة في ثلاث مناطق في عمق الصحراء هي: الأولى في جبل بشري في الجزء الجنوب الشرقي من الرقة، والثانية في منطقة الدفينة في جنوب غربي دير الزور، والثالثة في المنطقة الصحراوية بين تدمر والسخنة من الغرب، والمنطقة 55 من الجنوب، ومحطة التي تو (T2) من الشرق، ومنطقة فيضة ابن موينع من الشمال.

ويقدر عدد مقاتلي التنظيم في تلك البوادي بقرابة 1800 مقاتل، وهم يتمتعون في هذه الجيوب الصحراوية بالمهارات والقدرة على التأقلم مع الظروف الصحراوية القاسية. وكانت نواتهم معروفة باسم “قطاع البادية”، وكان معظمهم من سكان المناطق الصحراوية على جانبي الحدود السورية- العراقية، ومعظم عناصر التنظيم حالياً هم من بقايا ذلك القاطع، تضاف إليهم مجموعات التنظيم التي انسحبت من الحدود السورية- اللبنانية ومن ضواحي دمشق بعد اتفاقات الإخلاء بين التنظيم وكل من روسيا و”حزب الله” أواخر عام 2017.

وتتميز مناطق البادية التي يتحرك فيها التنظيم، بتضاريس مناسبة للتخفي مثل الجبال والوديان والكهوف الجيرية الطبيعية شديدة العمق، إضافة إلى اتساع حجم المنطقة والعواصف الترابية اليومية التي تحجب الرؤية الجوية وتزيل آثار تحركاته بسرعة، ما يجعل مسألة تقفي آثاره بالغة الصعوبة، ويتنقل التنظيم في الليل بحرية تامة في مجموعات ويسير دوريات ترفع رايته. وفي وضح النهار، يتحرك أعضاء “داعش” عندما يرغبون، متظاهرين بأنهم أفراد من قوات النظام أو من سكان البادية المدنيين.

لجوء التنظيم إلى الصحارى بعد حالة الانهيار الكبيرة التي عاشها ومحاولته العمل على الانبعاث من جديد، حتما عليه الاعتماد على استراتيجية حرب العصابات كخيار وحيد في المرحلة الحالية، على رغم إدراك قادته أن هذه الاستراتيجية لا يمكن الاستمرار فيها لفترة طويلة، بخاصة مع احتمال تخلي مقاتليه عن الاستمرار في المواجهة وتفضيل الاستسلام أو الهرب، أو عجزه عن رفد كوادره البشرية بمنتسبين جدد في ظل عمليات التضييق عليه، وصعوبة الوصول إلى مناطق وجوده الحالية بخاصة للكوادر السابقة التي تحبذ العودة إلى صفوفه، والموجودة في مناطق “قوات سوريا الديموقراطية” أو في الشمال السوري.

ويتبع تنظيم “الدولة” في عملياته الهجومية ضد نقاط قوات النظام، نمطاً قتالياً يناسب قدراته العسكرية، يتمثل في الهجوم المباغت على النقاط المستهدفة، عبر مجموعات عسكرية صغيرة مرنة سريعة التحرك، مستفيداً من الدافع الشخصي لدى مقاتليه بالانتقام، ما يعطي تلك الهجمات نوعاً من التوازن في ميزان القوة بين الطرفين، الضعيف والقوي عسكرياً. النمط القتالي الذي يعتمد عليه التنظيم أخيراً، استمر مع بعض التكتيكات العسكرية القديمة لديه والتي أثبتت فاعليتها، كالهجوم الليلي والهجوم أثناء العواصف الغبارية، ما قوض ثقة قوات النظام، ومكن التنظيم من التحرك بسهولة كبيرة، بخاصة مع عدم قدرة سلاح الجو على تحقيق أي فارق عسكري في مثل هذه الظروف.

التنظيم زاد عملياته العسكرية منذ مطلع عام 2020، والتي تعتبر الأكثر من حيث الكم والأعنف منذ بدء مرحلة انهياره مطلع عام 2017، إذ بلغت خسائر النظام السوري خلال شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل من هذا العام قرابة 150 جندياً بين قتيل وجريح وتدمير عشرات الآليات له، وأضرار اقتصادية كبيرة، نتيجة الهجمات على المنشآت النفطية في ريف حمص الشرقي في حقول آراك والهيل للنفط والغاز. وتركزت هجمات التنظيم على المدن والنقاط العسكرية المحاذية للبادية في مدن السخنة وتدمر والبوكمال والشولا، ويعود تركيز التنظيم على النقاط الموجود على أطراف البادية، لسهولة الوصول إليها عبر الصحراء ولتجنب الدخول إلى عمق مناطق سيطرة قوات النظام، خوفاً من عمليات الالتفاف وقطع طرق الانسحاب والإمداد أمام مقاتليه.

النظام السوري، حاول في فترة خمول التنظيم أواخر عام 2017 وعام 2018، اتباع سياسة احتواء خلايا التنظيم، والتي كان يعرف أن الكثير منها يتمركز في عمق مناطقه الصحراوية وتجنب العمل على القضاء عليها لأسباب عدة، أولها انشغاله في معارك حلب وإدلب وعدم وجود قوات كافية لفتح بوابة مطاردة خلايا “داعش” في البادية، والسبب الثاني أن التنظيم لم يكن ليشكل خطراً على قواته في تلك الفترة، بسبب تشتته وعدم توافر الإمكانات البشرية والعسكرية للقيام بعمليات مناهضة للنظام.

لكن مع زيادة نشاط التنظيم أخيراً، بدأ النظام يسعى إلى القضاء على مجموعات التنظيم التي باتت تهدد طرق إمداده العابرة للصحراء، عبر شن عمليات عسكرية بمساندة ميليشيات إيرانية ولبنانية، حتى الآن، باءت جميع محاولات النظام للقضاء على جيوب التنظيم بالفشل لأسباب متنوعة. أولها عدم التنسيق بين قوات النظام والمليشيات المتحالفة معها في العمليات ضد “داعش”، إذ يعمل كل جانب لتأمين منطقة نفوذه الخاصة. والسبب الثاني عدم مشاركة القوات الروسية في العمليات العسكرية وعدم وجود غطاء جوي للقوات المهاجمة لأسباب غير معروفة. أما السبب الثالث فهو أن أوكار التنظيم تقع في مناطق صحراوية شاسعة والنظام غير قادر على توفير ما يكفي من القوات العسكرية لتغطيتها. والسبب الرابع قدرة التنظيم على المناورة وتجنب الهجمات عبر التحركات المتواصلة في الصحراء.

كورونا وداعش 

الآن ومع تفشي فايروس “كورونا” المستجد، يقف تنظيم “داعش” أمام فرصة مهمة في عملية انبعاثه، مستفيداً من مجموعة معطيات مهمة تصب في صالح فعاليته العملياتية. أول تلك المعطيات تقييد قدرة النظام وحلفائه على نشر قواتهم لمواجهة التنظيم في مناطق وجوده، بسبب تفشي الفايروس في صفوف تلك القوات، بخاصة الميليشيات الإيرانية التي تعتبر ناقلاً للفايروس عبر تحركاتها المستمرة بين إيران والعراق وسوريا، حيث سجلت عشرات حالات الوفاة والإصابة في صفوفها نتيجة الفايروس، ما يمنح التنظيم أريحية عسكرية وفرصة المبادرة في الهجمات والتي انتقلت إلى مرحلة جديدة تهدف إلى السيطرة العسكرية على المدن، كالهجوم الذي تمكن التنظيم خلاله من السيطرة على أجزاء من مدينة السخنة منذ أيام، قبل أن يعاود الانسحاب باتجاه مناطق تمركزه في عمق البادية.

اما المعطى الثاني الذي سوف يستفيد منه التنظيم، هو قيام “قوات سوريا الديموقراطية” بعمليات إطلاق المعتقلين في سجونها، خوفاً من تفشي الفايروس بينهم، وهناك قسم كبير من المطلق سراحهم هم عناصر سابقون في التنظيم، ما يجعل الأخير يقف أمام فرصة لتعزيز العنصر البشري لديه عبر إعادة استقطاب هؤلاء العناصر، من ذوي الخبرة والكفاءة على المستوى العسكري والتنظيمي، بخاصة الجيل الشاب من هؤلاء العناصر الذي يملك الاندفاع العقدي والمعنوي لمعاودة التجربة مع التنظيم. وتبقى مسألة نقل هؤلاء العناصر إلى مناطق نفوذ التنظيم أمراً يسيراً، في ظل وجود طرق تهريب عبر مناطق النظام، تشرف عليها ميليشيات محلية همها الوحيد جني الأموال ويملك التنظيم القدرة على توفيرها، على رغم ما حل به.

إن حجم الأحداث الحاصلة في البادية السورية ومستواها، يشيران إلى أن الأمر لا يعدو كونه مسألة وقت قبل أن يسعى التنظيم إلى السيطرة مجدداً على مناطق وسط سوريا وشرقها، وترك الأمر للنظام السوري الذي لا يملك القدرة على احتواء التنظيم ناهيكم بهزيمته. يعد ذلك أمراً خطيراً جداً، بخاصة أن الظروف التي ساهمت في تمدده داخل سوريا عامي 2013 و2014، لا تزال قائمة بل زادت سوءاً.