بقلم: مناف الحمد  

كان الرّهان على مساندة الإدارة الأمريكيَّة للمعارضة السُّورية في صراعها مع النّظام خاسرًا عبر سنوات الصّراع التي تصرّمت، وكان ديدن المعارضة التَّذمر والنوح ومطالبة الأمريكان بتحمل مسؤوليتهم الأخلاقيّة تجاه المأساة السُّورية.

لا شكّ أنَّ التلكؤ الأمريكي مثير للغيظ، وأنَّ ثمَّة انكسارًا في الميزان الأخلاقيّ للمجتمع الدُّولي كلّه وعلى رأسه الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ولكن مقاربة لشخصيّة الرَّئيس الأمريكيّ باراك أوباما الَّذي تناقض ولا يزال في موقفه من المأساة السُّورية ومن النّظام السُّوريّ ورأسه يمكن أن تلقي الضَّوء من زاوية أخرى على أسباب هذا التَّراخي الأمريكيّ في إنهاء الصّراع السُّوريّ.

“كنت أخطو إلى الخلف وإلى الأمام بين عالم السُّود وعالم البيض، لكلّ من العالمين عاداته ولغته والبنى المفهوميَّة الخاصَّة به”.

“إنَّني شاشة بيضاء يستطيع أصحاب الاتّجاهات السّياسيَّة المتنوّعة أن يرسموا عليها ما يشاؤون من رؤى”.

هذا ما عبّر به الرَّئيس الأمريكي باراك أوباما عن تجربته كأمريكي أسود ينوس جيئة وذهابًا بين عالمين نتيجة لإرث عرقه، وهي حركة كان لها دور كبير في سلوكه وفي بلورة سمات قارّة في شخصيته.

لم يخف أوباما أنَّه كغيره من السُّود نفر من أمريكا البيضاء، ولكنَّه يؤكّد أن ما عاناه السُّود من تمييز عنصري قد أورثه استعدادًا لرؤية العالم من منظور آخر.

ليس ما يشاهد من تناقضات في مواقف أوباما السّياسيَّة في الشَّأن السُّوري والَّذي يستقبل من قبل المعارضة السُّورية والسُّوريين عمومًا بالتَّذمر والاتّهام بالانتهازيّة منفصلاً عن جذر كامن في واقع تحدّره من المهاجرين الأفارقة إلى أمريكا، وهم يعانون حسب مصطلح سكّه أحد الباحثين من “وعي مزدوج” تشكّل بسبب عدم قدرتهم على رؤية أنفسهم بعيونهم، وإنَّما بعيون الآخر الأبيض الَّذي يتنازعه تجاههم شعوران متغالبان هما الازدراء والشَّفقة.

وهو ما يجعل الأسود الأمريكي غير قادر على تجاهل تأثير المكوّن الإقصائي في الثَّقافة المدنيّة الأمريكيَّة وهو بصدد تعامله مع الأبيض، ومضطرًا إلى قبول تساكن روحين وعقلين ووجدانين في كيانه بسبب انتمائه المزدوج.

فهو نتيجة لعجزه عن النَّظر إلى ذاته فقط عبر منظاره، وعدم قدرته أو عدم رغبته في استئصال انتمائه الأصلي ومفاعيل تجربة المعاناة المرّة الرَّاسخة في الوجدان الجمعي لأبناء عرقه يمتلك ازدواجية في الوعي وفي الوجدان.

يعترف أوباما بالوعي المزدوج هذا، ويحاول علاوة على ذلك أن ينظّر له ويحيله إلى مكوّن من مكونات المواطنة الديمقراطيَّة؛ لأنَّ نماذج الإشراك الشَّامل للمواطنين في الشَّأن العام والَّتي تسعى الثَّقافة السّياسيَّة الأمريكيَّة لممارستها تظلُّ محتفظة بقدر من الاغتراب نابع من تجربة غير البيض في أمريكا وهو ما يجعل الوعي المزدوج هذا سمة ثابتة ومتأصّلة من سمات المواطنة الديمقراطيّة على حدّ تعبيره.

ولكن إضافة أوباما الأهم أنَّه لا يحدّد قطبية صارمة لهذه الازدواجيّة وإنَّما يفتحها على تعدديّة تتجاوز الثنائيّة وعلى جهات نظر متشعبة.

العديدون من أصدقاء أوباما الَّذين عاصروه في مراحل مختلفة من حياته يؤكّدون أنَّه كان يحرص على الإصغاء لجميع وجهات النَّظر قبل أن يناقشها، وأنَّ هذه السّمة تجد جذرها فيما ذكرناه من ازدواجيَّة طوّرها هو إلى تشعّب محاولاً بذلك أن يصبغها بصبغة إيجابيَّة.

إنَّها ليست إزدواجيّة ديالكتيكيَّة يمكن أن ترتقي إلى شكل من الوحدة عبر الجدل، وإنَّما إزدواجيّة يتجاور فيها القطبان بدون أن يندمجا أو يغلب أحدهما الآخر، ويرشّح عنهما صوتان أو موقفان متزامنان متماكنان بدون مرجعيّة تحدّد هوية العلاقة بينهما، وتتحوّل بالتَّنويع الَّذي أضافه أوباما إلى أصوات وإلى مواقف تفتقر إلى تلك المرجعيَّة النَّاظمة للعلاقة.

وهو ما دفع أحد الباحثين الَّذين حلّلوا خطابات أوباما عن المواطنة الديمقراطيَّة إلى إطلاق نعت “النّحوية” على ديمقراطيته وفحوى هذا المحمول أنّ عبارات خطاباته تأتي متجاورة عبر حروف عطف دون الاكتراث بلحمها في قالب منطقي صارم يوجّه العلاقات بينها.

وهو ما يمكن أن يلقي الضَّوء على موقفه من قضية الحرب والسَّلام، فهو يؤكّد من جهة أنَّ الحرب قد تكون أحيانًا ضروريّة ومبرّرة أخلاقيا، ولكنّ المبادئ الأخلاقيَّة للسَّلام موروث لا يمكن التَّخلّي عنه.

ولهذا فإنَّ مواجهة الأنظمة الَّتي تخرق القوانين يجب أن تكون بتطوير بدائل للعنف تجبر هذه الأنظمة على تغيير سلوكها، لأنَّ هذه هي الوسيلة الوحيدة لترسيخ سلام طويل الأمد.
وهو يصرّ في محاولته لتظهير وعيه المزدوج هذا عبر برنامج عملي على أنَّ الضَّغط على الأنظمة المارقة يتطلّب مجموعة منظمة من الحلفاء الأقوياء على أهبة الاستعداد للانخراط في فعل حاسم إذا لم تجد بدائل العنف نفعًا.

ولكنَّه يحتاج إلى استبعاد العنصر الغيبيّ عند حديثه عن الحرب الَّتي تشنّ لأسباب إنسانيَّة فيعلن أنَّك” إذا كنت تعتقد أنَّك تنفذ إرادة إلهيّة فلن تقيدك قيود ولن تضطر لتجنب استهداف إمرأة حبلى أو طبيب أو عامل في الصَّليب الأحمر أو شخص يمارس معتقدًا مخالفًا لمعتقدك” وهو استبعاد ضروري لأنَّ وجود هذا العنصر الغيبيّ كفيل بصهر قطبي المزدوج بإرادة إلهيَّة.

إنَّ التَّحدي الَّذي يحاول أوباما التَّصدي له هو التَّسوية بين أمرين لا يقبلان التَّسوية -إذا كان المطلوب التَّسوية بين شكليهما الأكثر تطرفًا-، فهو من جهة يقرّ بضرورة الحرب في بعض الظُّروف على أسس أخلاقيّة، ويعدّها في ظروف أخرى تعبيرًا صريحًا عن حماقة الإنسان”
وهو في محاولته الإمساك بطرفي الخيط، طرف الأخلاق وطرف السّياسة يعتبر التَّوتر بينهما توترًا خلاَّقاً، وأنّ إرخاء أحدهما كفيل بالقضاء على ما يثمره هذا التَّوتر الخلّاق من فعل إيجابي.

من هذا التَّحليل لوعيه المزدوج يمكن فهم موقفه الملتبس تجاه المأساة السُّورية، وتراجعه عن معاقبة النّظام الَّذي تجاوز الخطوط الحمراء الَّتي رسمت له، وإصراره على عدم الانفراد بتنفيذ العقوبة والتَّناقض الواضح بين تصريحاته وسلوكه تجاه النّظام السُّوري ورأسه.

وعيه المزدوج، وعدم انصياعه لإشارات إلهيّة، وديمقراطيته النّحوية، ووقوفه على أرض وسط بين تطرفين: تطرّف المثاليّة الدَّاعية إلى السّلام، وتطرّف الواقعيّة المحرّضة على الحرب، وحرصه -إذا قرّر أنَّها عادلة-على تحصيل إجماع من مجموعة كبيرة منظّمة من حلفاء أقوياء أسباب يمكن أن تضاف إلى أسباب أخرى لتفسير تردّده وتناقضاته وعزوفه عن الحسم.