لاحظ كثر من المراقبين وللمرة الأولى السماح لمصر بدخول مشهد الصراع في سورية وعليها. تمثل ذلك في ما تناقلته الأنباء عن دور للقاهرة في المفاوضات بين المعارضة المسلحة والنظام، في ما يتعلق بما بات يعرف بمناطق التهدئة. حصل ذلك كما يبدو بموافقة روسية وسعودية. روسيا في حاجة لدور عربي تحت مظلتها في الأزمة السورية في موازاة الدورين الإيراني والتركي، خصوصاً أن هذه الأزمة دخلت مرحلة يتمنى كثيرون أن تفضي إلى الترتيبات النهائية لحل سياسي يتوافق عليه اللاعبون الرئيسيون في المشهد السوري. من ناحية ثانية، يبدو أن السعودية بعد استكمال إدارة ترامب لما بدأته الإدارة السابقة بتسليم الملف السوري للروس، وبعد تأكدها من أن قطر تمارس دوراً تخريبياً في المنطقة، ترى ضرورة حضور عربي رسمي في الأزمة السورية وقد دخلت هذا المنعطف الحساس. علاقة الرياض بكل من النظام السوري، وراعيته إيران لا تسمح لها بأن تكون هي الطرف العربي المطلوب. في هذا السياق، يبدو أن الرؤية السعودية والروسية التقت على أهمية أن تتولى مصر هذا الدور.

يعزز ذلك أن موقف مصر في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي كان دائماً إلى جانب النظام السوري. ومع أن القاهرة انطلاقاً من ذلك تعطي أكثر من مؤشر على أنها مع خيار بقاء الرئيس بشار الأسد، إلا أن موقفها يكتنفه شيء من الغموض حيال مستقبل الأسد في الحل النهائي المنشود للأزمة السورية. الأرجح أن مصر لا تمانع بقاء الأسد في الحل النهائي. هل هو بقاء موقت أم نهائي؟ ليس واضحاً. ينطلق الموقف المصري من ثلاثة هواجس. الأول معارضة وصول الإخوان المسلمين، والمعارضة الإسلامية عموماً إلى الحكم في سورية. وذلك لكسر أي طوق إخواني قد يحيط بمصر في حال وصول أي من هؤلاء إلى الحكم هناك. ثانياً تفضل بقاء السلطة في يد الجيش السوري حتى لا تبقى مصر وحدها من يحكمها الجيش. ثالثاً ألا يفضي الحل النهائي في سورية إلى تعزيز نفوذ دول إقليمية على حساب مصر. هنا يتقاطع الموقف المصري في غموضه وتفاصيله مع الموقف الروسي، ويختلف في حدوده وأهدافه النهائية مع الموقف التركي، ويكاد يتناقض مع الموقف الإيراني. كانت تركيا ترى ضرورة رحيل الأسد. ثم بعد تقاربها مع روسيا، واتفاقها مع إيران حيال الموضوع الكردي في كل من العراق وسورية، تغير هذا الموقف القاطع، وأصبحت أنقرة تفضل الغموض، وتلتزم الصمت في شأن مستقبل الأسد. أكثر المواقف وضوحاً هو الموقف الإيراني. إذ ترى طهران أنه لا حل في سورية من دون بقاء الأسد. ومنطلقها في ذلك أن رحيل الأسد سيفتح الباب أمام عودة الأغلبية السنية إلى الحكم في سورية. وهو ما تعتبر أن حصوله يعني انهيار مشروعها في الشام.

الغرائب في هذا المشهد المركب كثيرة. يبرز منها ثلاثة أمور. الأول أن قطر تأمل بحجمها المتواضع أن تكون طرفاً في تحالف مع تركيا وإيران في مواجهة الرياض والقاهرة والإمارات والأردن. الثاني أن بشار الأسد يتحدث، كما فعل في خطابه الأسبوع الماضي، وكأنه ينفرد بحكم سورية كما كان عليه الأمر قبل الثورة. هذا مع معرفته أكثر من غيره أن أمره ووضعه عكس ذلك تماماً. كأنه يكابر ولم يتعلم من التجربة، أو يتظاهر في محاولة لتشتيت الانتباه عن الواقع الذي يتسربل به. الأمر الثالث لافت أيضاً، لكن في اتجاه آخر. وهو أنه لم يهاجم في هذا الخطاب إلا الغرب والإخوان المسلمين. حاجته لموافقة هذا الغرب، وتحديداً أميركا، الآن أكثر مما كانت عليه من قبل. والأغرب هو هجومه على الإخوان مع أنهم ليسوا أغلب ولا أهم القوى المسلحة التي تحارب نظامه. في هذا السياق، وهذا لافت حقاً، لم يهاجم أية دولة عربية، بشكل مباشر على الأقل. تأتي أهمية هذه الملاحظة أنها تتزامن مع دخول الدور المصري إلى سورية. هل في هذا مؤشر إلى أن الأسد تعلم من الثورة عليه وعلى نظامه الكلفة الباهظة لارتمائه في أحضان الإيرانيين، وانسلاخه عن محيطه العربي، وأنه بدأ يدرك نجاعة لعبة التوازنات التي كان يستند إليها والده الذي ورثه الحكم؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن إشارة الأسد قد تعني أنه يريد حضوراً عربياً يخفف به وطأة الحضور الإيراني، ويسمح له بهامش أكثر مما يتوافر له الآن. لكن يصطدم هذا التوقع مع تجاهل الأسد التام في خطابه للشعب السوري، وتحديداً للعدد الهائل من الذين قضوا على يد قواته وحلفائه من الميليشيات الإيرانية، والقوات الروسية، وملايين المهجرين بين الداخل والخارج، فضلاً عن المصابين والمشردين. تجاهل كل هؤلاء ليقول بلغة فاقعة ومباشرة بأن الشعب السوري أصبح الآن أكثر تجانساً مما كان عليه قبل الثورة. وهذا تعبير عنصري يأتي على لسان رئيس الدولة من دون خجل. وهو تعبير يعني أن عمليات القتل والتهجير والتدمير كانت تتم في شكل متعمد وممنهج منذ بداية الثورة لتحقيق هدف التجانس المذهبي الذي توقف عنده الأسد بافتخار باذخ.

السؤال الذي على القاهرة مواجهته الآن: ما الذي تأمل تحقيقه؟ ربما أنها، ومعها الرياض وعواصم عربية أخرى، ترى أن الحضور العربي في سورية في هذه المرحلة بات ضرورة ملحة. هو كذلك بالفعل. لكن كيف؟ ولأي هدف؟ هل بقاء الأسد في مصلحة سورية، أو في مصلحة العرب؟ تغيرت المعادلة في سورية. بقاء الأسد الآن يعتمد على قوات أجنبية كبيرة، ولا يستطيع البقاء من دونها. من سيتحمل كلفة وتبعات ذلك؟ فات زمن إقناع الأسد بالتخلي عن اعتماده على إيران أو اعتماد إيران عليه. ثم هل يمكن إقناع السوريين بقبول بقائه بعد كل ما حصل؟ نعم دخول مصر بموافقة سعودية وعربية سيوازن الدور الإيراني، ويعزز الدور الروسي، ويحد من الدور التركي. لكن مرة أخرى كيف؟ ولأي هدف؟ لا تستطيع القاهرة إعلان موقف من الوجود الإيراني المكثف في سورية. موافقتها عليه ضد مصالحها، وتتصادم مع الرياض. معارضتها له ستعكر علاقتها مع الأسد ونظامه. يحتاج الأمر إلى حل يبدأ إما بخروج الأسد، أو ببقائه كسبيل لخروجه. من دون ذلك ستبقى سورية مهددة بالتقسيم، أو بدخولها النفق الأفغاني.

 

 

* أكاديمي وكاتب سعودي