ليست جديدةً حالة العتَه و الانفصام التي تنخر جسد النظام الرسمي العربي ليبدو معها ميتاً كشجرةٍ يابسة يتوهم الناظر أنها حية ، أما المُستجِدّ فهو حالة السُّعار التي انتهى إليها في سكرات موته و إذا كان “لكلّ مَقامٍ مَقال” فما تقوله ألسنة عبيد السلطان يكشفُ لنا في أي مقامٍ هو و آخر ذلك ما جرى على لسانِ الممثل السوري “دريد لحام”، فما تأويلُ انحدار خطاب السلطة العربية و ملحقاتها إلى دركِ اللغة الأسفل؟
” نحن عبيد الكلمات” كما قال كارل ماركس في توصيف العلاقة بين اللغة و الوعي ، و حين تستدعي كلمةً من ذاكرتك فأنت تستدعي أكثر من مجرد مفردةٍ لغوية في القاموس ، إنك في حقيقة الأمر تستحضر صورةً من أعماق اللوغوس الذي تمتحُ معرفتُك من مَعينه (قوة العقل و الخطاب كمبدأ رابط يشكل الجسر بين الإنسان و فهم العالم و المطلق). بناءً عليه ، حينَما استحضر المذكور مفردات (عكازته ، صرمايته) ليعبر عما يعنيه ولاؤه للوطن فهو إنما يستدعي محصلة أنساقٍ اجتماعية – ثقافية – سياسية تترجم واقع السلطة و عُوارها البنيوي ذلك أن ما بين سِياقِ الكلامِ و تبلور خطابه في نسقٍ فكريّ – قِيَميّ تنشأ سلطةٌ لغوية تعكس مَنطق المُتكلّم و تبثّ محمولات الخطاب الكامنة فيه ، و إذا كان لا وعي المتحدث “دريد لحام” قد اختار مفردة (عكاز) فقد ترجم واقع عجز السلطة و بالمثل ترجم بمفردة (صرماية) انحطاطها و أيلولتها للسقوط كما أفصح من جهةٍ أخرى عن علاقة عبوديةٍ ناجزةٍ لها.
في خطاب السلطة العربية بشقيه السياسي و الإعلامي تَخَاطرٌ و اتصالٌ يعكس فيهٍ الناطقونَ باسمها مضامين فقرها المُدقِع فتهبط اللغة إلى لَغْوٍ مُسِفٍّ وفي ذات السياق و بنفس اللغة الهابطة يتحدّث أيضاً أتباع السلطة من العامة كما في حالة “حزب الله” الذي لم يحتمل صنمه بضعة أصواتٍ تجرأت على نقده منذ أشهر فأظهر سُعاره دونما خجلٍ و استحضرهم صاغرين أمام ذات الكاميرات ليتوبوا و يثوبوا و يتذللوا بمفردات اللغو السلطاني من طراز “نحنا فدا صباطو للسيد” و هذا تجلٍّ لعلاقةٍ عموديةٍ قسرية بين السيد و العبد نافيةٍ تماماً لعلاقة الاستواء الأفقية بين طرفي العقد الاجتماعي الغائب في الحالة العربية ، هذا العقد الذي حتى إن حضر فحضوره شكلاني كما تشهد الدساتير العربية المُعطَّلة أو تلك المُفصّلة على مقاس النظام / الحزب الحاكم و التي هي بِدعةٌ من حيث احتفاظها بالعلاقة العمودية الاستلابية في نصّ يفترض به تنظيم علاقةٍ أفقية سَوِيّة بين الحاكم و المحكوم.
في هذا المقام ، و على ذكر العقد الاجتماعي تحضر الدساتير العربية مغرقةً في الانفصام و السفسطة . من ذلك نموذج الدستور السوري الذي يحل فيه النظام محل الدولة صراحةً و يُشرّع لتأبيد حكم حزبٍ مخطوفٍ أصلاً فلا هو استمر كمؤسسة و لا الدولة تمأسست تحت شعار “الديمقراطية الشعبية” المعلن و حين تم تعديل هذه المادة في مطلع الثورة أتى دون مفعولٍ ليؤكد أن الدستور حبرٌ على ورق و عقدُ بيعٍ للوطن لا عقداً اجتماعياً ولا سياسياً. في حلةٍ هزليةٍ أخرى يأتي الدستور اللبناني بكوميديا “الديمقراطية التوافقية” ليكرس توافقاً و تعاقداً -من فوق- بين الزعماء المنتدبين على الطوائف لا يشبه العقد الاجتماعي إلا في اسمه ، بينما يتغنى مريدو هذه التجربة بها و يمنحونها مقام الفرادة و القدوة و هي في جوهرها إدارةٌ قروسطية للمجتمع بمحاصصةٍ طائفيةٍ صريحة يجري الآن تعميمها في الجوار مع إضافة البعد الإثني لنسف نسيج المنطقة الاجتماعي و تغيير التركيبة السكانية و ربما الخرائط معها. أما الشكل الأكثر طرافةً و طوباوية ، فذلك الذي تجسد في نموذج الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، و فيه من المفارقة ما يعطي الشهادة الأبرز على انفصام السلطة العربية القائمة عن الواقع و خطابها المغرق في الضحالة و الهذيان حتى حين يحاول الارتقاء إلى نسقٍ عقلاني لا يتساوق مع صيرورة الواقع و متطلبات تثويره فقد وضع القذافي “الكتاب الأخضر” من بنات أفكاره دون استعانة بأي مرجع قانوني أو فقيه دستوري زاعماً أنه الطريق الثالث بين الرأسمالية و الاشتراكية و مستعيضاً عن الديمقراطية التمثيلية / البرلمانية بأطروحة الديمقراطية المباشرة على غرار “الإكليزيا” في أثينا القديمة وإذا بتجربة “اللجان و المؤتمرات الشعبية” التي أقامها لا تَفضُل تجارب الأحزاب العربية الحاكمة في شيء و لا تقتربُ من “النموذج السويسري” الذي يستلهمها إلا اقتراب الغراب من مشية الطاووس في الطرفة الشهيرة.
لقد انتهت السلطة العربية إلى وهنٍ مُزرٍ حتى في تركيب “لوغوس كلامي” متماسك و استخدام ” سايكولوجيا الجماهير” للمحافظة على صورة ذهنية مؤثرة بواسطة التلاعب باللغة لتوجيه الرأي العام و تضليله فانتهى نمطها الدعائي إلى قيعان ضحلة من هذا الطراز الدُريدي – القذافي الذي يحرث في البحر فاشلاً حتى في ما فعله السفسطائيون الإغريق بتحويل اللغة إلى سلعة و إنتاج فن جدال و خطابة و فلسفة في التضليل السياسي ، فالوضاعة لا تنضح إلا بالوضاعة و في خطاب السيسي و بشار الأسد من الهذر و الهذيان و الركاكة ما يزيد الأمر جلاءً سواءً حين يستخدم السيسي لغة الشارع المحكية ببلاهة عفوية أو حين يمتطي بشار اللغة الفصحي بتفلسف مصطنع ليعكس كلاهما ذات المستوى من رداءة السياسة و بؤس خطابها كمعادل لارتباط الوعي باللغة.
لعل أعمق ما يختزل حقيقة البنية السلطانية القائمة و ينضح به خطابها تجسّدت دلالاته في موقفين : في قمة هرم السلطة حين تساءل القذافي : من أنتم ؟ و في قاعدة الهرم حين يسأل شبيّحة بشار الأسد الثائرين أثناء طقوس الاعتقال و التعذيب : من ربكم ؟ ، فالأول يقول لنا أنتم لا شيء و الثاني يقول لنا نحن كل شيء و هي معادلة صفرية بالمطلق و ترجمتها إما نحن و إما أنتم . إنها كتالوج البنية السلطوية و آليات اشتغالها ، إنها الأيديولوجيا و الأنطولوجيا معاً . زبدة القول إن “لوغوس” النظام السياسي العربي الراهن جوهرٌ سلطاني مُنبتُّ الصلة بالجذر الإنساني و لأنه كذلك فلا غَرْوِ أن تنحدر لغة الخطاب إلى لَغوٍ تأويله : “أنا الطاعونُ ليسَ لهُ دواءُ” و ما كان دريد لحام لينطق عن الهوى فما هو إلا لسانُ حال الصنم السلطاني و وحيه الأمين.
و الأمر كذلك، ما عاد غريباً على بنية سلطوية متهالكة تبدو كمومياء آتية من عصر سحيق أن يصل بها الحال إلى أن يوصف بعض أركانها علناً و على لسان أبرز السياسيين في العالم بالحيوان تارةً (وصف ترامب لبشار الأسد) و المعتوه تارةً أخرى (السيناتور ليندساي غراهام واصفاً محمد بن سلمان) ، و لم يسبق لهذا القدر من الانحطاط و الازدراء أن طال سلطةً في العصر الحديث لتنتهي مضرب مثلٍ يتراوح بين مقام البهائم و “خُفّي دريد” اللذين باءت بهما في علاقتها بالمجتمع على غرار “خُفّي حنين” في التراث و الذاكرة العربية.

مُناف الفتيّح