ها هي حيواتنا مؤجلة، أو معلّقة، مرة أخرى. أن نكون جزءاً من مليارات من البشر يعيشون ظرفاً مشابهاً، هذا لا يقدّم العزاء، وقد لا يجعل انتماءنا إلى البشرية متضمناً ذلك المعنى المشتهى، المعنى الذي ينسحب على المستقبل، وعلى الإحساس المشترك بوحدة المصير. في الحجْر، ثمة من يعيشون الاستثناء بأبعاده المدهشة والصادمة كاستثناء، وثمة من عاشوا حيواتهم في الاستثناء وهذا لا يهوّن عليهم إحساسهم بالاستثناء الحالي.
ربما هذه مناسبة إضافية للتأكيد على الاستثناء الذي نكاد نكون قد عشناه طوال حياتنا، أو ذلك الاستثناء الذي جعل حياتنا مؤجلة لسبب أو آخر طوال ما انقضى من أعمارنا. نحن الذين قُدّر لهم أن نكون أبناء بلدان في حالة طوارئ دائمة، الحالة المفروضة كي تبقى حياتنا مؤجلة، وكي تبقى مشاكلنا مستعصية فنقبع خلفها؛ لا نحن قادرون على تجاوزها، أو من غير المسموح لنا بذلك.
أجيال متعاقبة عاشت ذلك الانتظار، انتظار الحياة الطبيعية ليس إلا. وبينما تُناقش اليوم في مجتمعات أخرى سبل إقامة التوازن بين الحجر والديموقراطية نتذكر أننا كنا دائماً فيما يشبه الحجر العام، المعلن أو غير المعلن. أعمار وأجيال تعاقبت في انتظار مجيء “الحياة التي هي في مكان آخر”، الحياة الطبيعية التي نسمع بها، ونعرف أن آخرين يتنعمون بها، وأنها ممنوعة علينا وأقصى ما هو متاح أن نختلف في أسباب المنع وأحقيته، وعندما يُتاح لنا الاختلاف خارج جدراننا وحلقاتنا الضيقة فتلك حرية مسروقة قد لا تبقى بلا ثمن.

هنا وهناك في مشرقنا، توجب انتظار ما لا يأتي، وعلينا الاقتناع بانتظاره وبأنه لن يأتي أيضاً. وراء هذا التناقض، تربض قناعة راسخة بلعنةٍ ما تجعل ما هو طبيعي بعيدَ المنال، وخلال عقود انبرى كثر في السلطة وخارجها لتفسير اللعنة بموقعنا الثمين من عالم يتآمر على إبقائنا في قعر البؤس. مرت نكبات ونكسات وحروب أهلية، ولم تنحسر تلك اللعنة ولا انتظار الحياة التي تحدث خارج محجرنا.
في غضون ذلك كله، تواتر مراراً الاتفاق بين “نخب” و”عوام” على أن الحياة عندنا ممكنة بشرط الابتعاد عن السياسة وعدم استفزاز السلطة المتشبثة بها. هكذا تبدو الحياة متاحة، ما لم يتعمد هواة مشاغبة سياسية تعكيرها، وكأن السلطة يحتلها أناس مهووسون بالكرسي لأجله فحسب، فلا منافع ولا مكاسب تؤخذ من فرص عموم الناس في الحياة. في تلك الأثناء، لم يندر أيضاً التحسر على زمن ذهبي انقضى، لا لشيء سوى لأن الحاضر الذي تلاه كان أكثر توحشاً.
لم تكن معيشتنا خالية من المتع على الإطلاق، لكنها غير آتية من طبيعة الحياة. هي متع مُقتَنصة، متع عزيزة في مناخ من قلة الفرص، ومتع يغلب عليها أن تكون منبتة عن فضاء عام، أو حتى عن السياق المعتاد لعيشنا. هي بهذا المعنى كأنما آتية من خارج الحجْر الذي يُسمى حياةً عامة، في حين يغلب على الفضاء العام تجهّمٌ في الأفكار وفي الممارسات، وتخوّفٌ من أن يتفشى اشتهاء المتع وأن يرى فيها الجميع حقاً طبيعياً.

على وسائل التواصل الاجتماعي، عبّر كثر من أبناء منطقتنا عن استهانتهم بالوباء الجديد، فهو بالنسبة لهم لا يعدو كونه ابتلاء أصغر من سلسلة كوارث غير طبيعية توالت على حيواتهم. آخرون عبّروا عن اشتهائهم ذلك الحجْر الأوروبي، الحجر الذي لا يتخلله عوز إلى لقمة عيش، ولا تُحاصره خشية من انعدام أدنى درجات الوقاية مع التدني الفاحش في الخدمات الصحية. من المرجح أن نسبة كبيرة خارج هؤلاء ستشعر بالمرارة، إذا أتيح لها قراءة تلك النصائح المتكررة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي عن أفضل الطرق لقتل الوقت والوحشة في زمن الحجْر، نصائح من قبيل: اقرأْ، استمع إلى الموسيقا، ارقصْ، حافظ على معنوياتك مرتفعة لتقوّي مناعتك.
الوباء غير عادل، وأن تُصاب به شخصيات عالمية معروفة فهذا ليس دليل العدالة التي يروّج لها البعض. وغير عادل على الهيئة التي يصوّرها آخرون كإقتصاص من أخطاء البشرية، أو انتقاماً لمظلوميات بعينها. وهو غير عادل إذ يهدد حياة من كانت حياتهم مؤجلة طوال أعمارهم، فيجعل ما انقضى منها استهلالاً بائساً لانتظار جديد لا يلوح خلفه سوى البقاء. فوق هذا، هو بالنسبة للبعض منهم على الأقل خطر تافه، خطر لا يُحتمل من أجل قضية ما، ولا يُحتمل الموت فيه من أجل الحياة نفسها؛ هو خطر مجاني عابر ضمن أخطار قد يتضمن بعضها قليلاً من السلوى.

بخلاف التوقعات السوداوية قد ينحسر الرعب العالمي من الوباء مع انحسار قريب له، لتستأنف البشرية حياتها المعتادة، والحياة المعتادة لقسم ممن هم الآن في الحجر العالمي لا تعني سوى العودة إلى الحجر الخاص الأقدم وانتظار تلك الحياة المؤجلة التي لا تأتي. قد لا يخلو هذا من البهجة، بهجة العودة إلى ما ألفناه واعتدنا على قسوته، أو ما اكتسبنا مهارة التحايل عليه.