في الإقليم المنعزل الذي أبى إلا أن يتمرّد على عزلته، وينتج ساسة ومفكرين وعلماء كبارًا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي جعلوا نظام الاستبداد يخشى وثباته المتقطعة التي تناحر سرديته المزيفة، وتكشف سوءته، وتصرّ على نزع ما يجمّل به وجهه القبيح.

في ذلك الإقليم المنعزل الذي يستطيع كلّ فرد من أبنائه أن يكتب شجرة نسب طويلة نقية تجسد الأصالة غير المشوبة، والانتماء العربيّ الحقيقيّ.

لم يدّخر نظام الهمجية وسيلة لمحو أسماء الأفذاذ من أبناء هذا الإقليم الذين ساهموا في نضالات سورية ضد الاستعمار، وووضعوا بصمتهم المميزة بعد ذلك في صنع دولة الاستقلال، واختطّوا خطًا فكريًا فريدًا لا يزال يلهم المفكرين في كلّ مكان.

ولم يترك بابًا مشرعًا لازدهاره إلا وأوصده، وسلّط إعلامه التافه المبتذل لتشويه صورة أبنائه، ووصمهم بالتخلف في محاولة للتفريق بينهم وبين ابناء جلدتهم من السوريين.

واستطاع أن يحدث انقسامًا عموديًا بين مدينته وريفه، مستثمرًا مؤسسات حزبه الذي لم يبق منه إلا التماسك العصبيّ، وأجهزته الأمنية الضالعة في السوء والرذيلة.

دمّر ثروته الزراعية والحيوانية، وجفّف ثروته المائية، وسرق ثروته النفطية، وحوّل أبناءه إلى ساعين في مناكب الأرض باحثين عن لقمة العيش.

ولكنه لم يتوقع أن للأصالة المتجذرة قدرة على تحريك المسبِتين، وأن لمورّثات الكرامة العربية قدرة على دفع حامليها للانتفاض على الظلم مهما توارى استعدادها بفعل القمع.

ولهذا فقد اختلط عليه الأمر بعد أن صدّق الكذبة التي كذبها عن استحالة تمردهم عليه، فأمعن فيهم قتلًا وتهجيرًا وتعذيبًا عندما انتفض معظمهم ضده.

في ذلك الإقليم مساحات تكثّف جماله، وغناه، ونبض الحياة فيه، يطلق أهلها على كلّ منها اسم الحويجة.

خضرة يتعهدها نهر الفرات بالرعاية، ويمنحها نفحة من جلال خلوده يجعلها عصيّة على الفناء.

في إحداها التي تسمى حويجة كاطع بالجيم المصرية تمثّلت العقيدة الإحيائية التي تنسب لأشياء المادة روحًا لا تجدي معها أدوات القتل الجسدي نفعًا، فتظلّ تنبض بالحياة مهما حاول أشباه البشر إزهاقها.

يتجمع ثلة من الديريين فيها في درس عميق من دروس القدر ليرسلوا رسالة للعالم أنهم يواجهون من الأرض التي ترمز للخلود آلة الشر، ومن الموقع الذي يمتد عمقه الحضاري إلى آلاف السنين يجابهون الطارئين على هذه الحضارة والحاقدين عليها؛ لأنها تشعرهم بصغارهم وبربريتهم.

يتقن النظام فن القتل ولكنه لا يدرك الفرق بين القتل والموت، ولا يعرف أن القتل تخريب للبنية يتبعه إزهاق الروح، أما الموت فهو لإزهاق للروح يتبعه تخريب للبنية، ولا يمكن لأدوات قتله أن تتجاوز تخريب البنية في أرض تسري فيها روح هي غير روح الإنسان الفرد، روح لا يمكن أن تُزهق لما تملكه من نفحة الخلود، وما يسري فيها من قوة الحياة.

مئة متر من نهر الفرات يمكن أن تحول بينهم وبين آلة القتل لا يستطيعون عبورها بعد أن اعتادوا قطع آلاف الأمتار سباحة في ألفة عميقة بينهم وبين ذاك النهر.

مئة متر من نهر الفرات تقول للعالم كله الذي يراقب ببرود هذه المأساة: انظر أيّ عكس لمسيرة التاريخ صنعه هؤلاء البرابرة، انظر أي حقد يتملكه على هذا النهر وعلى علاقة العشق بينه وبين أبنائه.

في حويجة كاطع تتمظهر أسطورة العود الأبديّ، ومنها سيبزغ فجر الحياة من جديد، وسيقضّ الفراتيون مضجع الظالمين مرة أخرى.

رئيس التحرير