أن تحب وطنك حبا اعمى باطّراح مصلحتك الشخصية وعدّها من سقط المتاع مقارنة بمصلحة الآخرين من أبناء وطنك وأن تسعى لخلوده بمحو ذاتك، فأنت تعمل على تأجيج صراع في داخلك بين ما تتطلبه طبيعتك كإنسان وبين ما تتطلبه فضيلة الجمهورية التي لا تتحقق إلا بإحداث تحويل جذري في طبيعتك وإخضاع نفسك لعملية تثقيف أخلاقي لا يكتمل أبداً حسب ما أقر روسو أحد أهم ّمناصري هذ التحوّل من إنسان طبيعي إلى مواطن وهذا ما يدعيه الكثيرون ادعاء بيّن التهافت.

وأن تحب وطنك لأن غالبيته تدين بعقيدة دينية تعدّها حقيقة مطلقة، فأنت تحبه حباً زائفاً لأن موضوع الحب في هذه الحالة هو العقيدة لا الوطن، وهذا حال الإسلاميين الذين يرهنون الوطن للعقيدة ويقصون بالضرورة من حبهم من لا يدين بهذه العقيدة إذا لم يناصبوه العداء.

وأن توازن بين مصلحتك ومصلحة الوطن وتكون أنانياً متنوراً غير مسرف في أنانيتك وقادراً على توسيع حدود هذه الأنانية لكي تقبل التوفيق مع المصلحة العامة، فأنت وطني متوازن تستطيع أن تحاكم قيم مجتمعك بمقاييس من خارجه وتسعى إلى ازدهار وطنك لأن في ازدهاره ازدهاراً للقيم الإنسانية وهذه هي الوطنية العقلانية التي يندر وجودها لأنها تحتاج إلى عملية تثقيف عطل نظام الاستبداد الشروع بها.

أنواع ثلاثة من الوطنية يقف قبالتها حب فطري للوطن لأن الوطن يمنحك الأمان وفيه الذكريات مع من تحب، وهي وطنية هشة سرعان ما تتكسر إذا خضع حاملها لاختبار يطالبه بتقديم ثمن باهظ يذهب بمصلحته الشخصية.

لم يكن مفهوم الوطنية المتوازنة متبلوراً لدى عموم السوريين خصوصاً من لم يعاصروا إلا عقود الدكتاتورية وأحكام الطوارئ وحلّ محله الحب الزائف الموجه للعقيدة مجمّلا بالوطنية الذي يخالج شعور الإسلاميين معتدلين ومتطرفين وهو ما أفضى إلى جعل الوطن أداة لنصرة المعتقد.

وفي موضع آخر حلّ الحب الاعمى الذي يشترط لكي يخالط شغاف قلب حامله تغييراً لا يتحقق في طبيعة الإنسان، وهو ما يستعاض عنه بفرض قسري لايد يولوجية يدّعي مروجها أنها مستلهمة من قوى غيبية –العقل الكلي او الروح الخالدة او وجهة التاريخ-فكان حباً مدّعى مستنسخاً من ثقافة كرسها النظام بأدواته أيديولوجية والتي كانت استثماراً رخيصاً للأيديولوجيا لتكريس استبداده.

وطنية فطرية وزائفة وعمياء مدعاة يتقاسمها ممثلو الشعب السوري في مواجهة نظام يفصح بدون استحياء عن موقفه المغرق في أنانيته، وحبه لذاته فقط، واستعداده لارتكاب أي موبقة في سبيلها.

لا سبيل لتجسد الوطنية العقلانية إلا بغرس ثقافة فلسفية لا تطالب بتحويل في الطبيعة البشرية وإنما بتحقيق توازن بين الخاص والعام، ولما كان غرس مثل هذه الثقافة يحتاج إلى زمن طويل فإن الممكن الواقعي ونحن بصدد التفاوض مع مجرم يعرف ما يريد أن نستحضر أرواح من قضوا في زنازينه تحت التعذيب، وأن نردد صدى صوت أيلان الكردي وهو يتوسل أباه ان لا يموت فألقى به اليم على الشاطئ مستدبراً العالم كله لأنه لم يجد فيه مغيثاً واحداً، وأن نستذكر أننا إذ نفاوض من أجل دماء أبنائنا ونسائنا إنما نريد استخلاص حقوقهم ممن غرق بدمائهم.

بعبارة أخرى إن ما حل بنا من ظلم وقهر وإجرام كفيل بأن يمهد لتحويلنا إلى وطنيين حقيقيين، وأن يبلور لدينا حباً عقلانياً للوطن لا أعمى ولا زائفاً.

لا يتطلب التفاوض مع المجرم أكثر من ان نستحضر حداً أدني من الاخلاق، وقدراً معقولاً من الإنسانية إذا لم نكن قد بلورنا مفهوم الوطنية العقلانية، ولم تخفق قلوبنا إلا بحب فطريّ هشّ للوطن.