لم يهنأ النظام في سورية بإعلان انتصاره على الشعب، وهو الذي كرّر أنها أزمة، وانتهت “خلصت” منذ العام 2011. أرسل الروس أخيرا مندوباً سامياً، ليحدّدوا له المسموح والممنوع في السياسات العامة الدولة السورية. لم يُسلِّم هو الراية كاملة للروس بعد، فيرسل ممانعته البائسة عبر لقاءاته مع الإيرانيين. يردّ الروس، وبمختلف الطرق، ويفهمونه أنهم هم فقط من أنقذوه من سقوط وشيك 2015، وهم من يحميه ومنذ 2011، وأن الخيار الوحيد المسموح له حالياً هو فك كل علاقة مع الإيرانيين. إفهامه ذلك يتم عبر تشكيل فصائل جديدة تابعة للروس، وإطلاق يد إسرائيل بقصف أية مواقعٍ إيرانيّة ترغب بشطبها، وحتى قانون قيصر، لم ترفضه روسيا بشكلٍ حقيقيٍّ، بل وأطلقت مواقف “محبّذة له”، حينما طُبِّقَ، وأن هناك مفاوضات جديدة وجديّة مع الأميركان. رافق ذلك، لقاءات تمّت من الرئيس الأسبق لائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، معاذ الخطيب، ومجموعة مثقفين، يُعرِّفون أنفسهم بالوطنية وبالهوية العلوية، وهناك لقاءات كثيرة سريّة، تجريها روسيا. إذاً لم يعد لدى النظام سبب حقيقيّ لإعلان الانتصار، فالمنتصر يكون مستقلاً، وطنيّاً بامتياز، بينما النظام، كلما يستعيد منطقة، يصبح أكثر ضعفاً إزاء الروس، بل والإيرانيين أيضا، وكذلك إزاء قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والفصائل التابعة للأتراك، بل وحتى أحمد العودة أصبح قائداً عسكرياً في درعا، وتابعاً للروس. 

في الساحة السورية، ظهر أخيرا فاعلٌ جديد، وهو “انشقاق” رامي مخلوف، وهو الموصوف بأنه رجل أعمال، وملاحقته قانونياً عبر أجهزة السلطة، وحماية الروس له، كما يرشح من أخبارٍ، وهذا يشير إلى تفككٍ عميق في بنية السلطة. ونضيف، أن البدء بتطبيق قانون قيصر، ووجود تململ روسي واسع إزاء تصلّب السلطة وعدم ملاحقتها شبكات الفساد، رافقته مواقف معارضة متعدّدة، ومتباينة جديدة، والمشكلة في تباينها الكبير، ولكن ومع ذلك، توضح أن لديها تلمّساً كبيراً إلى تغييرٍ قادم في الموضوع السوري، وسيشرك النظام والمعارضة، وسيشطب أقساما منها. 

ظهرت عدة مبادرات وبيانات وإعلانات. أهمها إعلان الوطنية السورية، وهناك عدة بيانات، من شخصياتٍ مثقفة ومعارضة، تتبنّى رفض كل أشكال الاستئثار في شرق سورية، وأن تلك المنطقة يجب أن تمثلها هيئات سياسية من كل قومياتها، وبعيداً عن روح الاحتراب الذي له ألف سببٍ وسبب. إضافة إلى ذلك، وربما الأصل به، بروز تفاهمات، لم تنته بعد، بين الاتحاد الديمقراطي (الكردي) والتيار الكردي السوري الأقرب إلى مسعود البرزاني، والتنسيق مع قوى كردية أخرى، وبعيداً عن القوى العربية، وهذا ما أثار تخوفاً وحذراً، فكانت البيانات المتعدّدة، وكلّها تؤكد ضرورة إيقاف اشكال الصراع هناك، وتمثيل المنطقة الشرقية. تتوخّى البيانات والمبادرات تمثيل شرق سورية، ورفض أي استئثار بها من النظام أو “قسد” أو تحالف القوى الكردية، أو القوى العربية. هذا يعني أن هناك محاولات لصياغة رؤى سورية جديدة، كردية أو عربية أو سريانية، وسواها، وتستهدف رفع كل غبن تاريخي على إحدى القوميات أو حتى القبائل أو مدن شرق سورية. 

المبادرات الجديدة ونقاش في الوطنية

المبادرات السورية هذه، لن تنتقدها هذه المطالعة بشكل مفصل هنا، وستركز على أفكار عامة نحوها. تفتقد المبادرة الكردية إلى البعد الوطني، حيث تقتصر على أكثرية القوى الكردية، وهذا يُضعف من قيمتها ويثير تخوفاتٍ كبيرة منها، سيما أنها تتم تحت الرعاية الأميركية أولاً، والفرنسية ثانياً. الرعاية تلك، وسرّية المفاوضات، تؤكدان ما ذكرت، وبالتالي تعمّق الانقسام العربي الكردي، أو بين قوميات شرق سورية، وهذا لا يقدّم أية رسائل اطمئنان للآخر، والأسوأ أن جهة كردية من المتحاورين الكرد ممثلة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وبالتالي كان عليها رفض كل سريّةٍ للمفاوضات، وثانياً اشتراط التفاوض بحضور مراقبين من الائتلاف الوطني، وليسوا كرداً. 

ردّت أطراف عربية ببيانات، تؤكّد على التخوف من الحوارات الكردية، وتعلن صفتها العربية، فقد سمّت نفسها “التحالف العربي الديموقراطي”، وبهدف تمثيل أبناء المنطقة الشرقية. وإذا نرفض كردية المفاوضات، فبالتأكيد نرفض هنا محلية أو إقليمية روح التحالف، حيث يمثل المنطقة الشرقية! وكذلك يتقصد مخاطبة “المجتمع الدولي” وكأنّه جهة سياسية مستقلة بذاتها، ويمثل منطقة مستقلة عن سورية، أو في سورية. هناك بيانات أخرى، تتحرّك في الإطار ذاته. لا يفيد هنا شيئاً القول إن المفاوضات الكردية من أجل موقف كردي موحد، أو أن يقول التحالف إنه يبتغي تمثيل مصالح الجزيرة العربية المغبونة تاريخياً، والتي تتعرّض لمخاطر شديدة من الأميركان والأتراك وروسيا والإيرانيين. المشكلة هنا أن “المهاترات” الكردية العربية تصمت عن تبعيتها للخارج، وتكفر السوري المغاير، الكردي أو العربي. وبالتالي، لا تلمس المبادرات أعلاه المؤشرات الدولية نحو التغيير، وتتحرّك كأدواتٍ سياسية وكأورق قوة لصالح هذه الدولة أو تلك، بينما كان يجب أن تتلمس إشكاليات الهوية الوطنية، والتي تتفاقم منذ أن تسلمت المعارضة والقوى السياسية، العربية والكردية، صدارة تمثيل الصراع في سورية في 2011، وكذلك أشكل النظام الوضع بأكمله، والذي يطيل أمده عبر ذلك.

شكل “إعلان الوطنية السورية” محاولة جادّة لتلمس مشكلات الهوية السورية المنقسمة، وإذ أغمض العين عن تحليل تلك المشكلات أو إشكالية التاريخ المُشكّل استعمارياً لسورية وكل البلاد العربية، فقد ركز انتباهه نحو المستقبل. الإعلان بذلك، يقدّم نفسه إعلانا سياسيّا بامتياز، ويبتغي الترفع عن تلك المشكلات، وتجميع السوريين، المنقسمين بشدّة، وتشكيل قوة سياسية وطنية. هدفه ذاك دفع أصحابه إلى صياغة إعلانهم بلغة تقريرية، كما يشير علي العبدالله في مقاله في “العربي الجديد” والمعنون “إعلان الوطنية السورية .. قراءة نقدية”، وفيه انتقادات مهمة. وكذلك حاول راتب شعبو التطرق إلى الموضوع عينه في مقال في “العربي الجديد” أيضا، بعنوان “إعلان الوطنية السورية بين الوطنية والقومية”، وهناك نقاشات عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، تتناول الإعلان الذي لم يقدم جديداً يذكر، والأسوأ أنه أهمل قضايا إشكالية في سورية، حيث لم يتصدّ لقضية العلاقة بين العرب وسورية؟ وانتماء الأكثرية السورية للعرب، وكذلك، لم يولِ انتباهاً هاماً لمسألة إسرائيل، ولم يسمّها بالاسم، كيانا عنصريا يحتل الجولان ومناطق عربية عديدة، ويرفض إنصاف الفلسطينيين، وهناك احتلال تركيا أراضي سورية. وضمن ذلك، لم يتصدّ الإعلان، وهو المنشغل بكيفية تشكيل الدولة السورية مستقبلاً، لقضية الاحتلالات، حيث تُجمع أغلبية التحليلات على أن روسيا ستُعطى سورية في أيّة تسويةٍ مع أميركا والدول المتدخلة في سورية. 

يحاول الإعلان جاهداً ربط الوطنية بالمواطنة، وكأنّ الأولى هي الثانية والثانية هي الأولى. ولهذا يساوي الوطنية بـ”المساواة الحقوقية، والحرية الفردية، والمشاركة في الشأن العام وحياة الدولة.” وروح الإعلان تتحرّك ضمن هذا الحيز. يمكن أن نتفهم ذلك، نظراً إلى التتفيه المبالغ فيه من النظام للمسألة الوطنية، واعتبارها ضد الخارج، ورفض الحقوق السياسية للسوريين. وقع الإعلان في الإشكال ذاته، فتجاهل الخارج، وركّز جلَّ أهدافه ومنطق رؤاه على الداخل. المشكلة هنا أن الخارج لا يمكن تجاهله، والداخل لا يقوم بذاته، وإذا كانت الإعلان يركّز على البعد الوطني للسوريين، وهو محق بذلك، وأن كل مشروع للتغير الوطني الديمقراطي يجب أن يكون بيد السوريين، فإن عدم مناقشة انتماء أغلبية السوريين للعرب، وأن إسرائيل هي من يحتل أراضينا وفلسطين، يعتبر خطأ، وهذا يفترض تصويبه، سيما وأن الإعلان يقدم ذاته، “صيغة متجدِّدة، ومنفتحة على التطور”.

إذاً، هناك ضرورة للنقاش الجاد والدقيق فيما يخص الهوية الوطنية، حاول الكاتب موفق نيربية تلمسه في مقاله “حول ضرورة الوطنية السورية وصعوباتها”، في صحيفة القدس العربي، فركز على قضيتين صراعيتين: العرب والكرد، والإشكال السني والعلوي. إذاً، ورغم أهمية اللحظة الراهنة، وضرورة ملاقاتها، فإن الضرورة ذاتها تستدعي عدم الاكتفاء بإعلان المبادئ، وبالتالي مناقشة مشكلات الواقع، وكيفية النهوض بسورية، المنقسمة وطنياً، والمحتلة خارجياً، والمثقلة بصراعاتٍ تكاد تتجاوز العقد، وفيها مشكلات في غاية التأزم، وتتجاوز المشكلتين أعلاه، لتشمل المجتمع بكل مستوياته. الإعلان بصيغته التقريرية وفقاً للعبدالله، والبيانات أعلاه، تبيّن أنها لم تستجب جيّداً للحالة الراهنة، وتحرّكت ضمن إطار مفاقمة المشكلات، بدلاً من العمل من أجل تجازوها.

القراءات الثلاث للإعلان، أو للمسألة الوطنية، تلمست بعض أوجه مشكلات سورية الوطنية، ولكن هناك قضايا إضافية: أولاً، يجب الربط المحكم بين وجهي الوطنية، فهي تتحدّد بالمواطنة داخلياً، وبكل حقوق الأفراد والمساواة والمشاركة السياسية وللجميع، وللقوميات المختلفة. وخارجياً، هناك الوجه الوطني، وهذا يستدعي رفضاً كليّاً للاحتلالات القديمة والجديدة، وكذلك رفض استمرار الدولة الصهيونية. وينطلق هذا الرفض من أنها قضية عادلة أولاً، وثانياً قضيّةً عربيّة بامتياز، ولا يمكن تفادي الإشارة إليها، ومهما تبحّر النقاش، بالعلاقة بين الوطني والقومي، ولو أقرَّ بضرورة الفصل بينهما، لجهة تطور دولة قُطرية محدّدة، كسورية أو لبنان أو مصر أو فلسطين، وأن المسألة القومية قضية مستقبلية، وتتعلق بخيارات الأفراد الذين يشكلون الدولة، وينظمون ذلك حصراً، عبر الاستفتاءات الشعبية، والديمقراطية. وضمن ذلك، نقول إن الأغلبية السوريّة عرب، وهناك قوميات أخرى، والأخيرة جزء من قوميات أكبر، كالأكراد مثلاً، أو التركمان أو الشركس. القوميات هذه، وبغض النظر عن كبرها أو صغرها معنية بتشكيل دولة سورية حديثة، ورفض أية تنازعات بينها، انطلاقاً من القضية القومية، كأن يؤكد عرب سورية المسألة القومية قبل التحرر الوطني ومبدأ المواطنة، أو أن يؤكد الأكراد تبعيتهم لأكراد تركيا أو العراق، قبل انضوائهم في المشروع الوطني السوري، وهكذا. 

قضايا أساسيّة

سورية الآن على الأرض، وهي سوقٌ مفتوح للبازار عليه؛ أي على الرغم من كارثية وضعها وتهجير أهلها، فهي تتعرّض للبيع، نعم للبيع. روسيا التي حاولت، ومنذ سنوات، إغراء أوروبا وأميركا لإعادة إعمار سورية، لا تفكر أبداً بذلك الإعمار وبالتأكيد أوروبا أو أميركا. هنا، كيف يمكن النهوض بسورية؟ سياسياً، هناك شكل واحد للحكم، وهو الديمقراطية، ولا يجوز اللعب فيه بأية حالٍ، وتشكل مسألة الدستور مدخلاً دقيقاً لها. ولهذا هناك نقاشات متعددة، حول بنود الدستور، وكيفية تجاوز البعد الطائفي فيه، وتأمين مصلحة كل السوريين وحقوقهم، بغض النظر عن تمايزاتهم، القومية، والجنسية، والدينية، وسواه. ليست المسألة بسيطة، ولا يجوز التفاضل بأية قضية من هذه التمايزات. وبالتالي، الأساس فيها هو المواطنة، وشرعة حقوق الانسان، وأن يستقي الدستور والقوانين منهما كل البنود والفقه القانوني بأكمله. لا يكفي هنا القول بإعلان دستوري فوق الدستور، أو بمرحلة انتقالية لها دستورها وقوانينها، ولو كان الأمر مقبولاً في بدايته، فإن الأساس يظلُّ ما جاء أعلاه.

لا يحتمل وضع سورية الراهن مشاريع اقتصادية فاشلة، أو تتبع أهواءٍ عقائدية، تنطلق من اللبرلة، كما طُرحت في سورية. والسوق يطوّر نفسه بنفسه، وكفّ يد الدولة نهائياً، ووظيفة الأخيرة رعاية نمو السوق! هذه “كوارث”، حيث الدولة لم تهمش إطلاقا في أوروبا وأميركا، ولعبت الدور الرئيسي في إنقاذ البنوك والشركات الكبرى من الإفلاس، سيما في 2008، وحالياً في مواجهة فيروس كورونا. وبالتالي، وفي حالة سورية، يصبح من العبث بمكان القول بالحرية الاقتصادية. إن دولة كسورية أو العراق أو لبنان، وغيرها، تحتاج إلى رؤيةٍ اقتصاديّةٍ وطنية، تتحدّد فيها القطاعات الاقتصادية الأساسية ونقصد التصنيع العام، وبكل أشكاله والزراعة أولاً، وأن تجبر رؤوس الأموال على تمويل هذه المشاريع بالتحديد، وليس العمل بالبنوك أو الفنادق أو السياحة مباشرة، وأن يكون العمل بهذه القطاعات بما يخدم القطاعات الاقتصادية، ثانياً. هذا ليس شطباً للبرلة، بل تحديداً للمجالات الاقتصادية التي يجب أن تعمل فيها، وسعياً إلى النهوض بالوضع العام. البدء بتلك القطاعات يسمح بتطوير الثروات الباطنية، وتقليل الاعتماد على الخارج في المواد الأوليّة، وتشغيل أكبر القطاعات الشعبية، وإيجاد تشابكات اجتماعية جديدة، كالنقابات والقوى المجتمعية العابرة للمجتمعات المحلية. الخسائر في الاقتصاد أصبحت تتجاوز أربعمائة مليار دولار، وتجربة البنوك الدولية، وسياساتها في الدول المديونة، تقود إلى التبعية وتفكيك الاقتصاد المحلي، وتوجيه قطاعات منه نحو التصدير، وإلغاء المكتسبات الاجتماعية لأغلبية المواطنين، وتفكيك المجتمع وفقاً للهويات ما قبل الوطنية، ولهذا فالرؤية الليبرالية يجب أن تستند إلى المصلحة الوطنية للأغلبية ولكيفية النهوض بالاقتصاد.

.. لسنا ضد أيّة مشاريع اقتصادية ليبرالية أو من دولتية أو من الخارج، شريطة أن تتحدّد لها القطاعات الاقتصادية، ورفض أية مشاريع لا تتناسب مع مصالح الأكثرية الشعبية وحقوقها. 

وهناك قضية سياسيّة، وتتعلق بشكل الدولة، والبيانات أعلاه، والصراعات الكردية العربية، تقود إليها، وهناك من المحللين السوريين أو المنشغلين بالوضع السوري من يستسيغ الفيدرالية، وأنها وحدها الشكل المناسب للدولة، وعلى أرضية تهميش المركز، وتوسيع حقوق المحافظات، وأن ذلك سيتيح تمثلاً أدقّ للمحافظات، وتوزيع الثروة. بوضوح أقول: هل يمكن مقارنة وضع مدينة كدير الزور باللاذقية مثلاً، أو حمص بالحسكة أو طرطوس، وهل يمكن مقارنة ثروات دير الزور بثروات درعا. القضية غير ممكنة، ولو أضفنا الدمار الكبير لهذه الدولة أو تلك، فإن طرح الفدرلة يصبح كارثةً حقيقيّة. وعدا ذلك، ليست سورية في حالة تطوّرٍ كبير، ليتم البحث عن أفضل أشكال العلاقة بين العاصمة والمحافظات، بل هي في أسوأ حالاتها وعلى مختلف الأصعدة. وبالتالي، يكون مفهوم اللامركزية الإدارية، والذي يتضمن المركزية وتوسيعا أكبر لحقوق المحافظات. الأفضل، ويتيح مركزية كبيرة للعاصمة في تحديد كيفية النهوض، وتوزيع الأموال والثروات على كل المدن.

هناك مشكلة هنا، وتتعلق بسؤال الهوية، وكيف سيتم ضمان حقوق الأكراد أو العرب في شرق سورية، وقد ظلموا تاريخياً، ولم يستفيدوا من ثروات النفط والماء والقمح والقطن..، الموجودة في مدنهم بشكل رئيسي. الحقيقة المرّة أن تلك الثروات استفادت منها السلطة فقط، بينما نالت كل المدن السورية نصيبها الكامل من التهميش، وبقدرٍ متفاوت، ولهذا أسباب كثيرة، وليس قائماً على تطوير هذه المدن أو تلك. الفدرلة في حالة سورية تقود إلى صراعات قومية ومناطقية. الإشكالية هنا أن هناك اختلافات حقيقية، وكبيرة، وقديمة وتجدّدت بعد 2011، وبالتالي فإذا كان المطلوب من عرب سورية ضمان حقوق الأكراد وعبر حقوق المواطنة، أي الاعتراف الكامل بحقوقهم، وهذا ما تفعله أيّة قومية كبيرة في بلد ما، وتسعى نحو النهوض، فيصبح عل الكرد أن يعودوا إلى المطالبة بالمواطنة المتساوية، وليس “النط” إلى الفدرلة أو حق تقرير المصير. يتطلب بناء وطنٍ أو بلدٍ موحد نقاشاً دقيقاً في هذه القضايا. الدستور هنا يجب أن يكون واضحاً بما يتعلق بالفدرلة والمواطنة وشرعات حقوق الإنسان، وبحقوق القوميات.

الآن، وإضافة للمبادرات الجديدة، هناك الاتصالات الروسية مع معاذ الخطيب. والرجل رجل دينٍ ودمشقيٍّ وسنيٍّ، وهي رسالة قوية إلى المجتمع السوري، حيث رفض الروس من قبل أيّ شكلٍ للحكم خارج الشكل الحالي. أيضاً، هناك مشروع روسي لوحدة سورية الوطنية، ويجمع فيه الطوائف والأعراق والعشائر السورية. مشكلتنا مع المعارضة السورية، أنها لا ترفض هكذا خيار، وقد شكلت مؤسساتها وفقاً له، وهذا أولاً، وثانياً، غياب الجذرية لديها، وعدم قدرتها على رفض التوافقات الدولية، وضعف رؤاها الوطنية لكل مشكلات سورية. مقدّماتٌ كهذه، وفي حال شعرت المعارضة بجديّة الروس، فستوافق على معاذ والوحدة السورية “الطائفية والعرقية” وهذا سيؤسس لدولة سورية أكثر فشلاً بالضرورة، ومثالنا هنا لبنان أو العراق.

شخصيات سياسية كمعاذ الخطيب أو سواه، يمكن أن يكونوا واجهة انتقالية في شكل الحكم، وبما يقود إلى تبوّؤ شخصياتٍ أكثر درايةٍ بمشكلات الوطن وكيفية النهوض به، ومن كافة النواحي، ولكنّ المبادرات التي تنطلق من المحلي: الجزيرة، الأكراد، الطوائف، العشائر، لا تفيد سورية والسوريين بشيء، وتعمق مشكلاتها، وبالتالي هناك ضرورة لإعلانات جديدة، وتنطلق من الوطنية، وتوسع من مرتكزاتها وأوجهها، وتعمل من أجل مصالح الأغلبية السورية، وكائنة من كانت، وتتجاوز حكاية معارضة وموالاة.

لم يعد ممكنا إعادة إنتاج النظام الحالي أو إصلاحه، وما يجري حالياً من مفاوضاتٍ دوليّة وإقليميّة، هي بقصد البحث عن تسوية لتفكيكه، وضمان مصالح الخارج، وخلق أدواتٍ سورية تابعة لها، فهل يعي السوريون خطورة اللحظة الراهنة، ويتجهون نحو مشروعٍ وطني ديمقراطي، لا يسمح بوجود نظامٍ تابعٍ وهشٍّ ومسخٍ عن أنظمة العراق وسورية.