إذا كانت الثورة السورية حتى الآن لم تحقّق كامل أهدافها التي انطلقت من أجلها، فهي بشكل أو بآخر قد زعزعت هيكل نظام القمع والاستبداد، وحرّرت السوريين من قيود الخوف والصمت، وأطلقت توقهم ومبادراتهم من أجل الحرية والديمقراطية والعيش الكريم. وإذا ما تبقّى شيء من النظام السوري فهذا لم يكن بفضله، إنما بفضل الروس والإيرانيين وميليشياتهم الذين هرعوا لإنقاذه من السقوط. فمنذ اللحظة الأولى للثورة رأى هؤلاء في سقوط النظام السوري سقوطاً لمصالحهم ونفوذهم وإسفيناً في أنظمتهم الشمولية الاستبدادية. ومن الأسباب الموضوعية الأخرى التي أدّت إلى الوضع السوري الراهن، كان موقف المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل. فهما لا تريدان منذ البداية تغيير النظام السوري وانتصار الثورة. أما تأثير الموقف الأوربي فكان ضعيفاً ومتواضعاً. لكن في المقابل لا يمكن تعليق المآل السوري الراهن على العوامل الخارجية فقط؛ إنما يجب عدم التغاضي عن العوامل الذاتية لقوى الثورة والمعارضة السورية بشقّيها المدني والعسكري، وما أفرزته ثقافة الاستئثار والاقصاء المتبادل من مظاهر الفرقة والانقسام، وما خلّفتهُ نزعات الهيمنة والتسلط لخدمة مصالح ضيقة، وتطلعات أيديولوجية اضرت بقوى الثورة ومسارها وأهدافها، وخاصة من قبل فصائل الإسلام السياسي ومثيلاتها. والتي أسهمت في تردّي الوضع الراهن، الذي أصبح خاضعاً بكامله لمحصلة إرادات وتناقضات الدول الخارجية. أمّا النظام فقد تحوّل إلى كيانٍ صوري هزيل، يستخدمه المحتلون كورقة سياسية، بعد أن انتزعوا منه القرار السياسي والعسكري وتقاسموا ما تملكه سورية من ثروات ومصالح ومرافق اقتصادية. لذلك فإن المهام المطروحة أمام قوى الثورة والمعارضة السورية كبيرة ومعقّدة من أجل إنقاذ البلاد بإسقاط النظام وإخراجها من سيطرة الدول المحتلة لسورية، الإقليمية وغير الإقليمية. من هنا نرى:

1-على قوى الثورة والمعارضة السورية أن تشرع في نقد تجربتها لاستعادة زخمها ووهجها، ومن الضروري أن يكون نقدها موضوعياً، في مواجهتها مع ذاتها، لتتمكّن من تحديد معظم الأسباب والعوامل التي حكمت مسار الثورة ونتائجها. لقد افتقدت لنقدها الذاتي خلال السنوات التسعة الماضية؛ في الوقت الذي كان هذا النقد ضرورياً في وقت مبكر من مسارها، وهو لم يكن ليشكل إضعافاً لها، كما ساد مثل هذا الرأي في بعض الأحيان. والنقد أولاً وآخراً يحيل إلى إغناء الشيء وليس إلى إفقاره. وعلى العكس فإن عدم النقد أسهم في إضعافها وتعقيد مسارها ومآلاتها؛ وأفسح في المجال لقوى الثورة المضادة أن تستثمر أخطاءها لحرفها عن شعاراتها التي انطلقت بها وأهدافها التي قامت من أجلها.

2- لم تستطع قوى الثورة والمعارضة السورية بمستوييها السياسي والعسكري أن تشكّل كياناً ثورياَ موحّداً. إنما بقي كيانها مشتتاً منقسماً متعدّد الرؤوس، وقد سيطرت على الكثير من أطرافه النزعات العقائدية والإيديولوجية والمصالح الذاتية أكثر من المصلحة السياسية والوطنية للثورة. ولم تستطع هذه الأطراف التوصّل إلى قواسم وطنية مشتركة تجمعها وتوحّدها سواءً على مستوى خطابها الفكري والسياسي، أو على المستوى الميداني الإستراتيجي والتكتيكي.

3- يجب النظر إلى الثورة كمجتمع مثل أي بنية اجتماعية، حيث المستوى السياسي فيها هو المحور الرئيس الذي يدير باقي مستوياتها. لكن ما ساد في الثورة السورية وخاصة بعد عسكرتها، هو عمل المستوى السياسي بدلالة المجريات على الأرض، وعمل الفصائل العسكرية بدلالة الداعمين وإرادتهم. وإذا كانت تجري بعض التنسيقات بينهما، فقد بقيت مؤقّتة ومتواضعة إلى أبعد الحدود.

4- لقد أثر وهن العلاقة والتنسيق بين المستوى السياسي والفصائل العسكرية على وضع الثورة بشكل عام. فأضعف حضورها وخطابها وأفقدها الكثير من سماتها الوطنية والديموقراطية التي بدأت بها، وهي سمة تشكّل حجر الزاوية في أية ثورة شعبية تناهض الاستبداد، وتنشد الكرامة والحرية والدولة الديموقراطية الحديثة. وفي كثير من الأحيان كان الخطاب السياسي للفصائل العسكرية يجنح بنصوصه ورموزه وأسمائه وإشاراته وأساليب عمله، إلى الانتماء المذهبي والتقوقع الديني، ولا نستثني في هذا السياق بعض النزوعات الإثنية.

5- لقد سيقت الثورة إلى الأسلمة وهذا ما كان يريده النظام ويخطّط له منذ انطلاقها، وكذلك أسهمت بعض فصائل المعارضة وداعموها في ذلك؛ ولقد فتحت هذه الظاهرة ثغرة واسعة استطاعت أن تنفذ منها الفصائل المتطرفة بكل أنواعها وأشكالها من داعش والنصرة وأخواتهما، التي شكّلت في العمق رديفاً غير مباشر لقوى الثورة المضادة. استغلّ النظام هذا التطرّف لتشويه صورة الثورة خارجياً وجعله ذريعة لأعماله الوحشية ضد الشعب بأكمله. واستغلّت كل الدول التي لها مصالح وأطماع في سورية تسرّب التطرّف إلى صفوف الثورة، فجعلته مسوغاً وحجة لتدخّلها، وجاءت إلى سورية تحت يافطة (محاربة الإرهاب). وفوق ذلك، كان الهدف الأساس لنيران الفصائل المتطرّفة الشعب السوري وقوى الثورة الحقيقية وليس النظام.

6- ومن الأسباب الرئيسية والمحورية التي أضعفت الثورة السورية، ارتباط بعض قوى المعارضة والفصائل العسكرية مبكراً مع بعض الدول الإقليمية وغير الإقليمية، فخسرت قرارها الوطني المستقلّ، وعملت وفق إرادة هذه الدول ومصالحها. وشكّل هذا وبالاً على بنيتها السياسية والعسكرية معاً، وأسهم إلى حدّ كبير في اقتتالها وتمزيقها وتفطيرها إلى عشراتٍ من الكيانات والفصائل والدكاكين. وفي هذا السياق كان ارتهان الثورة ومؤسساتها للعسكرة خطأ جسيماً؛ لم تتمكّن من تصويبه وإجراء حسبة واقعية لموازين القوى وتحالفاتها، والأوضاع الإقليمية والدولية، وتحالفات النظام.

7- لا يمكن مواجهة الوضع السوري الرازح الآن تحت سيطرة الاحتلالات المتعدّدة وبقايا قوى النظام دون معارضة سورية موحّدة في كتلة وطنية ديموقراطية تمثّل آمال ومصالح ومستقبل شعب سورية بكافة مكوّناته وثقافاته، الطامح إلى التغيير وبناء دولته الوطنية الحديثة.

8- تتوجّه هذه الكتلة إلى الشعب بخطاب سياسي بعيد كل البعد عن الارتجالية، والتجريبية، والتقوقع الطائفي والمذهبي والإثني والحزبي، يتضمّن قواسم مشتركة جامعة، تدعو لدولة قائمة على مبادئ الحرية والديموقراطية والمواطنة المتساوية والتنوّع الثقافي وسيادة القانون.

9- يمكن للكتلة الوطنية الديموقراطية، إذا ما وحّدت أهدافها وقواسمها المشتركة في خطاب سياسي واحد، أن تحافظ على تماسكها واستقلالية قرارها السياسي، فتعصم نفسها من التمزّق والتفطّر والانقسام، وهذا ما يمنحها مزيداً من التأييد الشعبي داخلياً والاحترام لدى المجتمع الدولي وفي علاقاتها الخارجية.

10- تخاطب الكتلة جميع السوريين وتحسن التواصل معهم، وتشاركهم في نشاطاتها وتحركاتها السياسية، فتصغي إلى هواجسهم ومخاوفهم ومقترحاتهم في بناء الدولة ومؤسساتها، وتساهم في تبديد الأوهام وتوحيد الرؤية والموقف باتجاه تكوين رأي عام وطني سوري الهوية والانتماء والمصير.

11- أن تبادر الكتلة إلى إشراك السوريين داخل البلاد وفي بلدان اللجوء والاغتراب ومؤسسات المجتمع المدني في معالجة القضايا الاجتماعية والثقافية الاستراتيجية، وتعديل وتجديد القوانين التي تلعب دوراً محورياً في توحيد الشعب السوري وبناء كيانه الوطني وتصليبه وازدهاره.

12-واستناداً إلى الدور الهام والكبير الذي يقوم به المجتمع المدني في الانتفاضات الشعبية والحراكات الثورية في البلدان العربية، وفي بناء الدولة الحديثة، يتوجّب تنميته وتشجيع بناء منظماته، التي يتطلّبها الواقع وتلبّي احتياجات المرحلة.

13- تخرج الكتلة من الخطاب النمطي والرومانسي التقليدي وتنظر إلى الواقع، حيث تتوجّب معالجة مسألة الثقافة والهوية السورية على أسس جديدة. فلا تتحدّد الثقافة السورية بالقومية العربية والإسلام فقط، وإنما تتحدّد أيضاً بثقافات وحضارات كل مكوّنات الشعب الموجودة على الأرض السورية، وكل الشعوب الأخرى التي سكنتها ووفدت إليها. وإن حجر الزاوية الرابع في مستقبل الثقافة السورية هو انفتاحها على الثقافات العالمية والإنسانية المعاصرة، فقد كانت الدولة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي قبل مجيء الانحطاط مفتوحة نوافذها وأبوابها على ثقافات العالم المختلفة، تتعايش معها، وتأخذ منها وتعطيها.

————————————-

من الوثيقة البرنامجية لحزب الشعب الديمقراطي السوري

 تمت المصادقة على هذه الوثيقة من قبل المجلس الوطني لحزب الشعب الديمقراطي السوري، الذي عقد في أواسط كانون الأول 2020.