ثالثاً: الأوضاع الدولية وانعكاساتها الشرق أوسطية 

  بالإضافة إلى الأوضاع الدولية والإقليمية البالغة التعقيد، جاء غزو روسيا لأوكرانيا بحجة الدفاع عن أمنها القومي ليزيد احتدام صراعها مع الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي. حيث تتهم موسكو الغرب عموماً بعدم اكتراثه بمخاوفها الأمنية في حال مد (الناتو) إلى أوكرانيا لتطويق حدودها مباشرة. لا شكَّ أن لهذا الغزو البوتيني انعكاسات كبيرة على العالم ومنطقة الشرق الأوسط وكذلك على القضية السورية. 

1-الغزو الروسي لأوكرانيا.

لم تستطع سردية بوتين حول “تخوفات روسيا على أمنها القومي”، تبرير هجوم جيشها على أوكرانيا وهي دولة حرة ذات سيادة ولديها أيضاً تخوفاتها على أمنها القومي؛ وموقف اوكرانيا لا يختلف كثيرا عن موقف كل دول أوربا الشرقية ودول البلطيق والبلقان التي هرولت عقب انهيار الاتحاد السوفييتي للدخول في الاتحاد الأوربي وحلف الأطلسي. ويبدو في هذا السياق أن روسيا قد بدأت تُلَمِح أخيراً إلى غزو مولدافيا للدفاع عن “إقليم انفصالي” فيها. إن خلفية الغزو الروسي تحمل في طياتها أكثر من ذريعة دخول أوكرانيا إلى حلف الناتو. ومنها أحلام وأوهام بوتين القومية/الدينية، وطموحاته التوسعية الامبراطورية؛ وخوفه من كل ما يحيل إلى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ورعبه من كل ما يشكل خطراً على نظامه السياسي الراهن القائم على تأبيد الاستبداد والفساد. ويطمح كذلك لعودة الحرب الباردة وتكريس روسيا مجدداً كدولةٍ عظمى وقطب مواجِه للولايات المتحدة، في وقت لا تمتلك روسيا من مقومات الدولة العظمى سوى قوّتها العسكريّة وترسانتها النووية. فاقتصادها ريعيّ وضعيف قائم على ما تصدره من نفطٍ وغاز وسلاح، وإسهامها محدود في الاقتصاد العالمي. أما نظامها السياسي فهو طارد ولا يجذب إليه سوى الأنظمة الشمولية المستبدة والفاسدة. ويمكن القول إن كل ما حصده نظام بوتين من الحرب على أوكرانيا، هو أيقاظ وتأجج الشعور القومي والعداء لروسيا لدى الأوكرانيين، وحفرِ خندق عميق بين شعبين تجمعهما أخوة تاريخية.

    لقد فشل بوتين مبكراً في تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية من غزوه لأوكرانيا، ووضع نفسه في مأزق ومستنقع كبير، نتيجة سوء تقديره لمسارها. ولقد تبين ان إسقاط النظام الأوكراني لن تنجزه عملية عسكرية خاطفة، وكذلك تبين أن رد الفعل الأميركي والأوروبي كان أكبر وأقوى كثيراً من توقعاته التي بناها على استنتاجات ليست دقيقة حول ضعف إدارة بايدن، وانقسام مواقف الدول الأوربية وخلافاتها مع الولايات المتحدة.  ولكن ما حدث في الواقع أن الغزو الروسي وَحَّدَ أميركا وأوربا والناتو.

كان للغزو الروسي على أوكرانيا انعكاسات على العالم بأسره، فبدأت روسيا تضعف وتخسر هيبتها لما ترتّب عليها من عقوبات اقتصادية ومالية ودبلوماسية، وفي المجال الجوي والبحري والفضاء الإعلامي والمعلوماتية والأنترنت. حتى أن حلفاء وأصدقاء روسيا بدأوا التموضع بعيداً عنها، بعدما أدركوا صعوبة انتصارها. وحتى إذا ربح بوتين الحرب عسكرياً فهو أمام مدن مدمرة وسجل حافل بجرائم الحرب والإبادة المعادية للإنسانية، بالإضافة إلى طردها من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وتحولها إلى دولة منبوذة، يصعِّب على أصدقائها الوقوف إلى جانبها وفي مقدمتهم الصين وإيران. 

  ومن المبكّر الحديث عن تغيرات عميقة في التحالفات الدولية والإقليمية، وكذلك من المبكر تأكيد انتصار الغرب على روسيا في الصراع على أوكرانيا. لأن الصراع مفتوح في الزمان والمكان سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، فالمرحلة الراهنة في غاية الخطورة على القارة الأوروبية والولايات المتحدة، فتعاملهما الحازم مع بوتين لن تخضعه بسهولة. فازدياد الضغوط عليه وعزله وحصاره، يمكن أن تدفعه إلى إبراز قوته وجعله أكثر خطورة وانتقاماً، وقد يغامر أكثر ويلجأ الى إجراءات استثنائية واستخدام أسلحة غير تقليدية، لإرضاء غروره وأحلامه التوسعية. وهذا ما لوح به منذ بداية غزوه لأوكرانيا، ويذكرنا هذا بالنازية والفاشية.

2-تداعيات الأزمة الأوكرانية على القضية السورية

انعكست الأزمة الأوكرانية على جميع الملفات العالقة بين الجانبين الروسي والأمريكي، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتها الملف السوري، الذي يعاني من غياب مصداقية وجدية المجتمع الدولي في تنفيذ قرارته المتعلقة بالحل السياسي، بسبب عدم توصل الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع السوري، إلى التوافقات المطلوبة لمباشرة العملية السياسية وفق مندرجتاها في القرارات الأممية. وهذا ما أدى إلى قبول كافة الأطراف بخيار “إدارة توازن المصالح”، وهو ما أبقى الأزمة السورية في حالة جمود وعلى رف القضايا المؤجلة.

  بالنسبة لأميركا، ما يزال الملف السوري معلقاً منذ مجيء إدارة بايدن، التي لم تعتبره حتى الآن من أولوياتها، وما تزال سياستها حياله غير واضحة. وتولي اهتمامها فقط ببعض مساراته الفرعية مثل ملف المساعدات الإنسانية، ومحاربة الإرهاب، وضمان أمن إسرائيل في مواجهة المخاطر التي يمثلها الوجود الإيراني وميليشياته في سورية. وهذا ما أتاح لروسيا هامشاً كبيراً للمناورة في معالجة الصراع السوري وفق مصالحها ورؤيتها للحل. ومع الغزو الروسي لأوكرانيا أخذت الولايات المتحدة تستخدم هذا الملف مع الأوربيين كورقة في وجه بوتين تكشف جرائمه في سورية على وقع جرائمه في أوكرانيا. وفي الذكرى الحادية عشر للثورة أطلقت أميركا “شهر محاسبة الأسد” دون أي إجراءات عملية واضحة وملموسة. 

  أما روسياً، فتقع سورية ضمن أولوياتها، الشرق أوسطية، التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بجهودها لاستعادة مكانتها في النظام الدولي. واستخدمت سورية إلى حدٍ بعيد لخدمة هذا الهدف، كورقة رابحة في علاقاتها المضطربة مع الغرب. يبدو من التنسيق الوثيق بين موسكو ونظام الأسد، أن سورية لا تزال تمثل هذه الأولوية لديها. ومع ذلك، لا يمكن مقارنة أهميتها بأوكرانيا والجوار المباشر لروسيا. في سياق ذلك، أعلن نظام الأسد تأييده مسبقاً للحليف الروسي في حربه العسكرية ضد أوكرانيا، واعتبرها “تصحيحاً للتاريخ”، وجاء هذا التأييد عشية زيارة وزير الدفاع الروسي لقاعدة حميميم العسكرية الروسية واجتماعه مع الأسد قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، وهذا يعني أن نظام الأسد أصبح امتداداً للأمن القومي الروسي، وأن قاعدة حميميم خطاً دفاعياً روسياً متقدماً في البحر المتوسط. وبالإضافة إلى ذلك تعمل روسيا على تجنيد مرتزقة سوريين ليلتحقوا في حربها على أوكرانيا، وهو أمر يحمل الكثير من الإشكاليات والمخاطر.

كما نلاحظ تراجعا نسبياً في اهتمام موسكو بملف الأزمة السورية لاسيما على المستوى العسكري، وأن انشغالها في الحرب الأوكرانية يفسح في المجال أمام إيران وميليشياتها كي تعزز انتشارها وسيطرتها في سوريا، بعد أن سحبت روسيا جزءاً من قواتها العسكرية، لكن هذا التراجع لا يعبر عن تغيير فعلي بشأن إدارتها لأبعاد الأزمة، حيث يخدمها في ذلك طبيعة الاهتمامات الأمريكية في ظل إدارة بايدن. 

لكن من أكثر الانعكاسات فداحة التي ستتأثر بها سوريا جراء هذا الغزو الآثار الاقتصادية السلبية؛ حيث ارتفعت الأسعار أكثر من 100% في الأيام الأولى للغزو. كما أن نظام الأسد يعتمد على استيراد مواد غذائية ونفطية وغاز من روسيا وأوكرانيا، وهو ما سيزيد من وطأة العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة، هذا بخلاف أن العقوبات المفروضة على روسيا، والتي من شأنها التأثير بقوة على الداخل الروسي، ما يعنى أنها ستنشغل لفترة من الزمن بمعالجة أزماتها الداخلية بما يترتب عليه من ترك النظام السوري في مهب مواجهة العقوبات الاقتصادية المرشحة للتزايد. عدا عن ارتفاع أسعار النفط، الأمر الذي سيفرض على نظام الأسد تحديات جديدة على بقايا اقتصاده الهش، كذلك ستؤثر على قيمة الليرة السورية المنهارة أصلاً، وتراجع قدرتها الشرائية بما يزيد من الأعباء المعيشية على حياة السوريين التي وصلت إلى الفقر المدقع والجوع الحقيقي.

بات ملف الأزمة السورية أحد العوامل في الصراعات الدولية، وفى مقدمتها الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، وإن الأزمة الأوكرانية يمكن أن تمهد للحل السياسي في سورية أو أن تبعده وتعزز النفوذ الإيراني، وهذا يتوقف على نتائج هذا الصراع. 

3-تداعيات الأزمة الأوكرانية على الشرق الأوسط والعالم. 

  إن منطقة الشرق الأوسط هي الأكثر تأثراً بالأزمة الأوكرانية. وبدأت ترتسم ملامح تغييرات في تحالفات دولها. أولها افتراق مصالح بعض دول الخليج العربي عن الولايات المتحدة، واقترابها الحذر من روسيا والصين، فقد رفضت السعودية طلبات أميركية متكرّرة لزيادة إنتاجها من النفط لكبح جماح ارتفاع أسعاره، وتعويض أيّ نقصٍ محتمل في الأسواق العالمية، كما أنها امتنعت عن التصويت على مشروع قرار واشنطن في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي ومطالبتها بسحب قواتها من أوكرانيا. في المقابل، صوّتت روسيا إلى جانب مشروع قرار قدّمته الإمارات، يصنّف الحوثيين تنظيماً إرهابياً، ويمدّد حظر السلاح ضدهم. وتتحرك إدارة بايدن لإصلاح علاقاتها المتوتّرة مع الدول الخليجية، مما يضع الدول الخليجية في موقع وازن دولياً. 

 كذلك هناك مؤشرات إلى تباين/تفارق بين إيران وروسيا، بسبب انعكاس الحرب الأوكرانية على المفاوضات النووية في فيينا، حيث تسعى إيران لبناء جسور مع الغرب، وأعلنت استعدادها لتغطية نقص النفط في الأسواق العالمية، في حال رُفعت العقوبات عنها. كما أعربت عن استعدادها لتزويد أوروبا بالغاز، بدلاً من الغاز الروسي. 

أما تركيا فقد أبدت موقفاً حذراً في بداية الغزو، وتالياً، أخذت موقف “الحياد المؤيد لأوكرانيا” عندما قررت، تحت الضغوط الغربية، تفعيل اتفاقية مونترو- الموقعة عام 1936- بإغلاق هذه الممرات الاستراتيجية (البوسفور والدردنيل) في وجه السفن العسكرية الروسية، وهذا يؤدي إلى اعتماد روسيا على الموانئ السورية، فتركيا المنخرطة عسكرياً في سوريا، ويعنيها الوضع في أوكرانيا جيوسياسياً، من المحتمل أن يكون له تداعيات سلبية على العلاقات الروسية- التركية. هذا التغير في الموقف التركي جاء مدفوعا بهدفين، الأول: أن تثمن الدول الأوروبية الموقف التركي وإبداء المرونة تجاه مطالبها المستمرة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. والثاني: رغبة أنقرة في التأثير على الموقف الأمريكي الداعم لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، لوضع تخوفاتها الأمنية بالاعتبار.

أما إسرائيل رغم أنها صوتت لصالح مشروع القرار الأمريكي الذي يدين روسيا، وتمييز تفاعلها، مع الحرب الروسية على أوكرانيا وارتباطاته بالأزمة السورية؛ بالحذر الشديدة التي أبدتها حكومة بينيت، جاءت مدفوعة بمخاوف تل أبيب من قيام موسكو بتقييد ضرباتها العسكرية المستمرة في سورية ضد الأهداف الإيرانية. 

   أما الصين تعمل للحفاظ على مصالحها الحيوية وخاصة الاقتصادية ولن تغامر وتُعرّض نفسها الى عقوبات تؤثّر في مشاريعها البعيدة المدى كمشروع “الطريق والحزام” الاستراتيجي من أجل مغامرة بوتين. فالصين لن تدعم شريكها الاستراتيجي الروسي، ورفضت حتى توفير قطع الغيار للطائرات الروسية. ولن تقدّم لروسية سوى الدعم الشفوي الناقد للغرب وقيمه وعقوباته. 

وحتى فنزويلا تنعطف الآن نحو الولايات المتحدة، بعدما قرّرت إدارة بايدن أن تفتح الباب أمام رفع العقوبات والعزل عنها، والمحادثات جارية بينهما، ومادورو يبدو جاهزاً للتخلّي عن حليفه الروسي لأنه يرى أن بوتين لن يخرج من ورطته.  كما بدا لافتاً اقتراب باكستان من روسيا، إذ امتنعت عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في الأمم المتحدة، ورفضها طلباً أوروبياً بهذا الخصوص. ولقد دفع رئيس الوزراء عمران خان ثمن موقفه هذا.

تسبب الغزو البوتيني في خلق كارثة إنسانية للأوكرانيين، وشكل تهديداً لأمن الغذاء العالمي، وكذلك تهديداً محتملاً للعالم بخطر اندلاع حرب نووية تدمر الحضارة البشرية، وتسبب أضراراً بيئية هائلة على الكوكب.

4-الأزمة الأوكرانية والملف النووي الإيراني 

  أضاف الغزو الروسي لأوكرانيا عنصراً جديداً إلى مفاوضات إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وهو عنصر النفط والغاز الإيرانيين ليكونا بديلاً عن النفط والغاز الروسيين التي فرصت الولايات المتحدة الحظر عليهما، وهما المصدر الرئيسي لأوروبا. وأن إدارة بايدن مستعجلة الى ابرام صفقة الاتفاق النووي مع إيران، وهي تدفع الى إتمامها قبل الانتخابات النصفية الأمريكية. فبدأت محادثاتها مع طهران بشأنهما. وإيران جاهزة ومستعدّة لتصديرهما حالما تُرفع العقوبات عنها، وتدعو واشنطن الى إتمام محادثات فيينا فوراً، بالتأكيد على أساس شروطها ومطالبها ورفع العقوبات كاملة عنها بما فيها رفع الحرس الثوري الإيراني من لائحة الإرهاب. كما أن أوروبا، أمام تصاعد أسعار النفط والغاز عالمياً، نجدها مندفعة بقوة لاستكمال مفاوضات فيينا وإتمام الصفقة النووية وإن تضمنت على تنازلات أميركية جذرية أمام المطالب الإيرانية. لأنها في أمس الحاجة الى النفط والغاز الإيراني. وبذلك تكون إيران في طليعة الرابحين من الغزو الروسي لأوكرانيا. 

 كما يبدو، أن إيران اختارت مصالحها مع الغرب، وتريد أن تجلس على طاولة رسم السياسات الدولية، وترى أن المتاح أمامها من الغرب له قيمة كبيرة تضاهي وقوفها مع روسيا، وأن الانفتاح على الغرب سينقلها الى القدرة على تمويل مشاريعها وخاصة التوسعية الإقليمية. وبذلك قدّم بوتين بغزو أوكرانيا خدمة كبيرة لإيران، تعزّز انفتاحها على الغرب. وإن حاجة إدارة بايدن والأوروبيين الى النفط والغاز الإيرانيين قد يجعل منهما شريكين. وهذا يعني أن الغرب معني بمخاطر روسيا أكثر من مخاطر ملالي طهران على المنطقة والعالم.        

 26 / 5   / 2022 

اللجنة المركزية

لحزب الشعب الديمقراطي السوري