عبدالوهاب بدرخان

لا يزال الاعتقاد الأكثر شيوعاً عن الإرهاب، مجسّداً بتنظيمَي «القاعدة» و «داعش» وما تفرّع عنهما، أنه يسعى إلى إقامة «الدولة الإسلامية» أو «دولة الخلافة» أو في حدٍّ أدنى إلى فرض «الحكم بشرع الله». أما الاعتقاد الآخر الأكثر شيوعاً فهو أن هذه الأهداف غير قابلة للتحقيق، لا بالحمولة العقائدية ولا بتطبيقاتها الدموية والقهرية. فالنموذج الإيراني لـ «الدولة» الموصوفة بـ «الإسلامية» ساد في الداخل باستخدم القمع والترهيب واستنساخ أساليب سوفياتية وصينية وكورية شمالية لسحق الشعب وإماتة طموحاته، واستنبط بالشحن المذهبي وميليشياته نمطاً من «الفتوحات» الخارجية قائماً على اختراق المجتمعات وضرب أسس تعايش الأديان والأعراق فيها، فضلاً عن استلاب الأنظمة وإلغاء الجيوش وإفساد الأمن وتجاوز الدساتير والقوانين. أما «دولة الخلافة» التي أقامها «داعش»، المنبثق من «القاعدة»، المتحدّر بدوره من تجربة «الأفغان العرب»، فبدت مُستَلهَمة من تجربة حركة «طالبان» والنظام الذي فرضته على أفغانستان قبل أن تزيله الولايات المتحدة مستندةً إلى تحالف دولي عريض، والأرجح أن المصير ذاته ينتظر «دولة داعش»، ولو أن فلولاً بقيت لـ «طالبان» وقد تبقى لـ «داعش» في سورية والعراق، كما هي حال «القاعدة» في اليمن وباكستان وإيران والصومال منذ طرده من معاقله الأفغانية.
قد يلتقي النموذجان الإيراني و «الداعشي» موضوعياً أو يفترقان، وقد يتعاونان أو يتحالفان. الفارق بينهما أن إيران دولة و «داعش» مجرّد تنظيم، والدولة تستخدم التنظيم ولا يستطيع التنظيم أن يستخدمها، بل إنهما قد يقتتلان متى رأت الدولة أن صلاحية استخدام التنظيم في صدد الانتهاء، كما هو حاصل في الموصل. ثم إن هذه الدولة، إيران، التي شرعت أخيراً في التواصل مع عدوّ لدود سابق هو «طالبان»، لم تتردّد في اعتماد فلول «القاعدة» التي تؤويها كقنوات اتصال مع تنظيم «داعش» لتمكينه وتوجيهه، ولم تعدم سبل تعايش مع «جبهة فتح الشام – النصرة سابقاً» التي أبصرت النور من خلال مبايعة علنية لزعيم «القاعدة»، فهذه «الجبهة» تشكّل مع «داعش» وسيلتين لإحباط أي حلّ للصراع السوري ورأس حربة المقاومة الإيرانية – الأسدية للترتيبات الروسية – التركية في سورية. وأبرز ما يلتقي عليه هذا الرباعي أن أطرافه كافةً (النظامان الإيراني والسوري وتنظيما «داعش» و «النصرة») تتخذ من الإرهاب وسيلة لاستكمال تدمير سورية والتحكّم بوجودها ومستقبلها كدولة موحّدة، بمعزل عن نيات روسيا ومشاريعها. وتكرّر إيران مع «الحشد الشعبي» و «داعش» السيناريو ذاته في العراق، حتى في ظل الدور الأميركي.
وإذ يلتقي النموذجان، الإيراني و «الداعشي» – «القاعدي»، على عداء علني للغرب الأميركي وعلى خطاب تتنوّع التفافاته اللغوية إلا أنه يختصر رسالته بـ «إعلاء شأن الاسلام والمسلمين» وبـ «إلحاق الهزيمة بأميركا»، وهي غايات حققت بالأحرى حتى الآن عكس ما توخّته، لذلك تعزّز الانطباع لدى عموم السوريين والعراقيين ومعظم الشعوب العربية بأن ما يحصل هو تواطؤ جمعي أو على الأقل نتيجة التقاء مصالح أتاحه «داعش» بظهوره وانتشاره اللذَين لا يزالان لغزاً أضافت إليه توسّعاته وتجاراته مزيداً من الغموض. إذ شكل التنظيم دافعاً لاقتراب أميركا من ساحة سورية حاذرت إدارة باراك أوباما التعامل معها، ثم ذريعة رسمية للتدخّل الروسي المباشر المتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مكوث طويل في سورية، وقبل ذلك ساهمت إيران في تصنيعه ومدّه نظام بشار الأسد بتسهيلات ثم اتخذاه عنواناً لتحالفهما في الحرب على «التكفيريين» بديلاً واستكمالاً لحربهما ضد «المؤامرة الكونية».
عندما اختصرت هذه الأطراف، ومعها أطراف أوروبية وعربية، المسألة السورية بأنها مفاضلة بين الأسد و «داعش» بدا الخيار محسوماً لمصلحة رأس النظام. فمن لديه دولة يمارس باسمها القتل بالسلاح الكيماوي واقتلاع السكان بالمجازر وبمحاصرة المدن وتدميرها بعد تجويعها يبقى أكثر قبولاً في نظر المجتمع الدولي من تنظيم يدّعي «دولةً» ويقطع الرؤوس ويحرق أسراه بالنار ويفجّر المنشآت. والواقع أن تحرّكات التنظيم أظهرت في كل المراحل أنه قاتل المعارضة أكثر مما حارب النظام، بل إنه اتّبع تكتيكات الفصائل المسلحة في الاستيلاء على المناطق، ما دعم الحجة التي دفعت روسيا بها أخيراً حين ذكّرت الأسد بأنها أنقذته وأنقذت سورية من السقوط في أيدي الإرهابيين. لم يسبق لـ «إرهاب الدولة» وارهاب «المجموعات غير الدول» أن وجدا بيئة مناسبة يتناغمان فيها كما هي حالهما في سورية، ولا سبق لهما أن التقيا ضد «عدو» واحد كما يفعلان بكل وحشيتهما حيال الشعب السوري.
من المؤكّد أن «داعش» يقترب من الهزيمة في العراق، وقد يلقى المصير ذاته في الرقة بعد شهور، لكن الإرهاب يضمن بقاءه في سورية عبر نظام الأسد طالما أن القوى الخارجية تواصل دعمه، ويضمن بقاءه في العراق عبر هيمنة إيران وميليشيات «الحشد الشعبي». غير أن الإرهاب أنجز منذ زمن أحد أهم انتصاراته التي طيّر بها صواب الدولة العظمى الوحيدة وكان أحد أسباب تراجع الهيبة الأميركية وما سمّي «أفول الغرب»، وأحد الدوافع وراء بحث دونالد ترامب عن استعادة «عظمة أميركا». كانت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي آخر من تحدّث عن عوامل التراجع. ففي خطابها أمام خلوة الحزب الجمهوري في فيلادلفيا، عشية لقائها مع ترامب، قالت أن «أفول الغرب» و «صعود الصين» حصلا بالتزامن مع: الأزمة المالية، و «فقدان الثقة» بعد هجمات 11 سبتمبر، والحربين في أفغانستان والعراق، مستخلصة أن استعادة أميركا (وبريطانيا) قيادة العالم مشروطة بعدم العودة إلى «السياسات الفاشلة» وأن أيام تدخلات أميركا وبريطانيا في دول ذات سيادة «لإعادة صنع العالم على صورتهما» قد ولّت.
كان إرهاب «القاعدة» عام 2001 الاختبار الأهم الذي تحدّى أميركا على أرضها واستفزّ جورج بوش الابن وإدارته، وبدا منطقياً أن يتعامل معه كما فعل الرئيس فرانكلين روزفلت مع الهجوم الياباني على بيرل هاربر عام 1941، أي بالذهاب إلى حيث يوجد تنظيم «القاعدة» لمعاقبته ومسحه عن وجه الأرض. لكن بدت أفغانستان هدفاً متاحاً وسهلاً وغير كافٍ أو متناسب مع المستوى الذي تريده أميركا لثأرها، ومع إضافة هدف آخر هو العراق بدأ الاختلال الأميركي في الداخل وحتى في مجتمعات الدول الحليفة في الخارج. وبمعزل عن المسوّغات أو التلفيقات التي سيقت لتبرير غزو العراق واحتلاله فإن الأعوام التي تلته أظهرت الدولة العظمى غارقة في مسار أقرب إلى العشوائية وفي صراع غير متكافئ مع تنظيم إرهابي لا يحقق فيه أي طرف انتصاراً حاسماً.
لا شك في أن ما حصل بعد 9 – 11 أضعف «القاعدة» وكبّده خسائر هائلة، لكنه تنظيم وليس دولة، لا هو مسؤول عن شعب وأرض وحدود، ولا هو ينشغل بإحصاء قتلاه. والأكيد أنه عندما خطّط لهجماته لم يحسب نتائجها التي فاقت لاحقاً توقّعاته، كما أنه لم يوصّف أهدافه ولو فعل لما استطاع أن يتصوّر ما تحقق سواء بفعل أخطاء واشنطن خلال الاحتلال، ليس في العراق فحسب بل في عموم المنطقة، أو بفعل أخطاء الانسحاب أواخر 2011 وما تلاه من سياسات أثبتت استمرار الاختلال في الأداء الأميركي إلى حدّ أن انكفاء إدارة باراك أوباما توصّل إلى نتائج أسوأ من تلك التي سجّلتها تهوّرات إدارة بوش الابن. وإذ ذكّر أوباما أخيراً بقتل أسامة بن لادن كأحد أهم إنجازاته فمن الواضح أن ستة عشر عاماً بعد الهجمات الإرهابية والحربَين والأزمة المالية واستمرار صعود الصين وعودة روسيا إلى الواجهة جعلت المجتمع الأميركي في مزاج آخر تماماً. أميركا التي لم تعد أميركا التي يعرفها العالم مهّدت لمجيء دونالد ترامب، متفلّتاً من القيم ومن الواجبات، محاولاً تجاوز «السياسات الفاشلة» ونسيانها، لكنْ متمسّكاً بالصراع المستمر مع الإرهاب ومتوعّداً بسحقه. وكلما زادت أميركا منسوب القوة ضد الإرهاب كتبت له بدايات جديدة.