تستمر المواجهات الدامية في جيب ناغورني قره باغ على الرغم من الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار وأهمها الدعوة المشتركة التي أطلقها الرؤساء دونالد ترامب وفلاديمير بوتين وإيمانويل ماكرون. في المقابل، اعتبر الرئيس رجب طيب أردوغان أن شرط وقف المعارك هو “إنهاء الاحتلال الأرمني للجيب الانفصالي المتنازع عليه”.

وينعكس هذا الانخراط التركي إلى جانب أذربيجان على تطورات النزاع وبالطبع على تقلبات اختبار القوة بين موسكو وأنقرة على عدة جبهات من سوريا إلى ليبيا فالقوقاز. من جهته، يدخل الرئيس الفرنسي المشهد نيابة عن أوروبا القلقة من التمدد الأردوغاني.

إنها لحظة جديدة في العلاقات الدولية يحاول “السلطان الجديد” أردوغان ترك بصماته عليها. لكن الرقصة على قوس الأزمات من المشرق إلى القوقاز تنطوي على مغامرة تبدو محسوبة النتائج لكنها تنطوي على مخاطر انزلاق يمكن أن تدفع تركيا ثمنه.

من أجل مقاربة واضحة لواقع النزاع الأرمني – الأذري لا بد من التذكير بالوقائع التاريخية إذ خضع إقليم ناغورني قره باغ في أعالي القوقاز (الذي تسكنه أغلبية أرمنية وأقلية أذريَّة) لسيطرة روسيا القيصرية في نهايات القرن التاسع عشر، ثم جرى إلحاقه بعد الثورة البلشفية بجمهورية أذربيجان متمتعًا بحكم ذاتي استمر حتى سقوط الاتحاد السوفيتي السابق.

ومع مطالبات الاستقلال وإعلان الأرمن في الإقليم سلطة محلية مستقلة عام 1991، ألغت أذربيجان الحكم الذاتي وخاضت حربًا ضد “الانفصاليين”، ثم توسعت لتصبح حربًا مع أرمينيا التي قدمت لهم الدعم العسكري واللوجستي. وأسفرت هذه الحرب التي امتدت من 1992 إلى 1994 عن خسارة أذربيجان للإقليم إضافة إلى ست مناطق أخرى كانت تخضع لسيطرتها (تقول باكو إنها خسرت 18 في المئة من أراضيها)، فضلًا عن سقوط 30 ألف قتيل وتهجير ما يقرب من مليون شخص من المناطق المجاورة غالبيتهم من الأذريين.

وهذا النزاع المجمد منذ عشرينات القرن الماضي يعتبر أحد نماذج الصراعات العِرقية-الحضارية التي نشبت بعد نهاية الحرب الباردة مباشرة، كنزاعات محلية بتأثيرات إقليمية أو دولية. حيث شاركت فيه عدة أطراف مثل أذربيجان، وأرمينيا، وتركيا، وروسيا، وإيران، وجورجيا، ثم أيضًا الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وفرنسا وغيرها.

كذلك لم تنته حرب بداية التسعينات باتفاق سلام نهائي رغم تدخل الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية (OSCE) وتشكيل مجموعة “مينسك” من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا لمتابعة جهود الحل. لذلك تجدد الصراع في الإقليم أكثر من مرة، أبرزها في أبريل 2016.

لكن وجود أذربيجان المنتجة للنفط والغاز ومرور الأنابيب في أراضيها يمنح هذا النزاع بعداً آخر في نطاق صراعات الطاقة والنفوذ التي احتدمت في شرق المتوسط وتمتد الآن نحو آسيا في منطقة صنّفها يوما المستشرق برنار لويس – بعد سقوط الاتحاد السوفيتي- في نطاق “الشرق الأوسط الأكبر” ، ويبدو أنه لم يكن مخطئاً في تصور امتداد جيوسياسي للشرق الأوسط نحو جواره من الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز وهذا يتحقق اليوم مع الانغماس الروسي من سوريا إلى ليبيا ومع الانخراط التركي المماثل. وهكذا يمكننا القول إن معادلة القوة الجديدة في شرق المتوسط تتفاعل مع مسعى تغيير المعادلة في نزاع ناغورني قره باغ خاصة من قبل الجانب التركي الذي يعتمد على خصخصة الحرب وإرسال “المرتزقة” (ما يسميه المقاتلين الرديفين للقوات التركية؟) والطائرات المسيرة والخبراء تماما كما فعل على المسرح الليبي.

ويسود التساؤل عن سبب الاندفاع التركي نحو القوقاز في وقت تتوزع فيه الإمكانيات التركية على جبهات سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط. والأرجح أنها من الحروب الاستباقية ويمكن ربطها بمعارك طوفوز في 12 يوليو الماضي بين أرمينيا وأذربيجان، ليس بعيدا عن  خط الأنابيب الأذري – الجورجي – التركي وهو خط نقل الغاز الشهير تحت مسمى باكو – تبليسي – جيهان، إذ لا يستبعد إدراك أنقرة وباكو خطورة تلك المعارك ودلالاتها في صراعات الطاقة وربما وجود أدوار دولية خفية وراء تحريكها. ولذلك يرجح أن القرار الأذري في شن هجوم سبتمبر، يأتي انطلاقا من استخلاص دروس معارك طوفوز وتتويجا لتعبئة أذرية – تركية مشتركة تحت عناوين مواجهة الخطر الأرمني واسترداد باكو لأراضيها، وتأكيد تركيا على تحولها إلى قوة إقليمية كبرى تحاكي أمجاد إمبراطورية غابرة بالإضافة إلى الدفاع عن المصالح المشتركة لتركيا وأذربيجان في ميدان الطاقة تحت يافطة أن “شعبهما واحد في دولتين” وما يعنيه ذلك قوميا وعرقيا.

ومن الواضح أن الطموح الأردوغاني في توسيع رقعة انتشار قواته وخبرائه وانخراطه يضع حدا نهائيا لنظرية “صفر حروب” واستبدالها بنظرية تهدف إلى تراكم الإنجازات الميدانية. لكن بالرغم من تصورات الوهلة الأولى لا تبدو المكاسب التركية راسخة ونهائية.

في الشمال السوري يزداد الضغط الروسي على منطقة إدلب ونقاط المراقبة التركية، وفي ليبيا يمثل وقف التقدم التركي على خط سرت – الجفرة والمفاوضات الليبية المستجدة تراجعا للدور التركي.

أما في شرق المتوسط قبالة اليونان وقبرص، فلم يطابق الحصاد التركي حسابات البيدر وأخذت أنقرة تناور وتتراجع تحت ضغط التغير في الموقف الأميركي والتلويح الأوروبي بفرض عقوبات على تركيا. وطبقا لذلك تشكل “مغامرة القوقاز” سعيا أردوغانيا لتحقيق إنجاز أو اختراق لأن الخطوات الأردوغانية على عدة مسارح لم ينتج عنها حكما تراكم إنجازات بل امتلاك أوراق مساومة أو إثبات وجود في إطار السعي لفرض وقائع جديدة أو حجز مكانة في السباق الإقليمي – الدولي.

يندرج تحريك الوضع في حديقة روسيا الخلفية تحديا برسم فلاديمير بوتين “القيصر الجديد” وغمزا من قناة الرئيس الفرنسي “ماكرون بونابرت” في سياق مبارزته مع “السلطان الجديد” من ليبيا واليونان إلى أرمينيا. ومما لا شك فيه أن دخول تركيا الحرب مباشرة لن يمر دولياً ويهددها بردود روسية وأوروبية وعدم رضا أميركي. ولذلك يبدو الانخراط التركي في القوقاز مقيدا باحترام قواعد اللعبة وسقوف معينة للتدخلات، وإلا سيقود أي انزلاق تركي إلى تجميع معارضي تمدد أنقرة ولجم طموحاتها.