بيروت انشغلت بتأبين شهدائها، الحدث هذه المرة ليس من الخارج ولكن من الداخل، والكارثة وقعت ليس على فئة أو طائفة بل على كل لبنان، الرسالة واضحة: أنتم جميعا في مرمى الموت. في العدد الهائل من الفيديوات والصور التي نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي لهذه الكارثة، يتضح أن ما حل بالناس العاديين أكبر من كارثة، إنه زلزال. هل هذا هو قدر لا مفر منه من الخراب في هذه المدينة المكلومة؟ وما سر أنها ما زالت واقفه على أرجلها؟ لو حل بمدينة أخرى ربع ما حدث لبيروت لما عادت الأمور الى حالها أبداً. طبعاً ما زال في لبنان سقف من الحريات، لذلك تجد أن هناك من يشير في الكثير من الحالات الى المتسببين الحقيقيين، كما ما زال البعض تغشى عيونه فيتوجه الى الدفاع عمّن أجرم.
  الحقائق تقول إن هناك عدداً ضخماً بكل المقاييس من القتلى وعدداً أكبر بكثير من الجرحى وخسارة أكبر وأكبر في الممتلكات وجرحاً عميقاً جداً في النفوس والوجع لدى غالبية اللبنانيين لا يقاس بمقياس. الأسئلة المركزية هي ماذا حدث بالضبط وكيف حدث ومن المسؤول عمّا حدث؟ تلك مجموعة من الأسئلة، أنا على يقين بأن اللبنانيين والعالم لن يعرفوا على وجه الدقة إجابات قاطعة لها، لا لأن اللبنانيين غير قادرين من حيث الفهم والمعلومات، ولكنهم بسبب هيمنة الدُويلة على الدّولة وظهور (الدولة الرسمية الفاشلة) لن يستطيعوا لأن التركيبة بطبيعتها تنتج كل القبائح وتتمنع عن الخير، فمن قتل جبران تويني وجورج حاوي وسمير قصير ووليد عيدو ووسام الحسن وبيار الجميل من بين سلسلة طويلة من الشهداء هي الدُويلة، التي تغولت على الدولة؟.

المعادلة الأخرى أظهرت أن هناك غالبية لبنانية ترفض كل ما هو موجود من ممارسات وأقلية لها مصالح أو يتملكها الخوف تحاول جاهدة كنس المشاكل تحت سجادة النفاق والتكاذب.
  والفرق بين الفريقين أن الثانية منظمة ولديها موارد، والأخرى غير منظمة وعفوية، وحتى تتحول الى منظمة هو الرهان الحقيقي على خروج لبنان من هذا النفق المظلم تحتاج طليعة عابرة للطوائف تعرف ما تريد من لبنان. بعض الدوائر العربية يرى أن لبنان قد انتهى، فالمعضلة أن هناك حزباً منظماً مدعوماً من دولة ايديولوجية بالمال والسلاح يستحوذ على أكثرية من طائفة تزدهر أطروحاتها في نظام طائفي ومهيأة للعمل لتحقيق أجندة تلك الدولة في الداخل وفي الخارج، فلا مخرج من هذا المأزق، وآخرون ما زالوا يراهنون على الغالبية اللبنانية العابرة للطوائف في أن تعيد لبنان في المرحلة المقبلة الى حياده وحياته. الفزعة الحالية أكانت من الخارج العالمي أو العربي هي في الغالب موقتة، قد تضفي بعض البلسم، ولكنها لا تشفي الداء على المدى المتوسط  والبعيد، حتى زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المشكورة في رمزيتها لن تترك إلا أثراً إعلامياً، فكل ما قاله لم يجد ولن يجد آذاناً صاغية لدى خلية الزنابير  السياسية، وما تسرّب من نقاش مع السياسيين ينبئ بخيبة أمل، كان عرس الاجتماع قد نظم في غياب العريس، والذي هو قابض على الزناد، فكل المدعوّين يمكن أن يقدموا التهنئة ولكن ليس فعل الزواج.
  سيكتشف ماكرون بعد حين أن المعضلة اللبنانية تقع في مكان آخر، ليس في نقص في الكفاءات اللبنانية القادرة على الإدارة ولا حتى نقص في الموارد، هي في مكان أن بعض اللبنانيين قد اتخذ قراراً نهائياً أن لبنان (ليس مهماً) كوطن والمهم هو (إرضاء الولي الفقيه) الذي يقدم (مالنا وسلاحنا وذخيرتنا) من خزينته، إنه ببساطة ارتهان شريحة من اللبنانيين لا رجعة فيه للخارج يفوق كل تدخل للخارج في السابق واللاحق في لبنان، فكل التدخلات السابقة حتى الاستعمار حافظ على لبنان الدولة، أما اليوم فإن الدولة (ليست مهمة) في عيون قادة هذه المجموعات المسلحة التي ترسل اللبنانيين الى ساحات الموت، وتقطع  علاقة الباقين بالعالم. في مكان ما تحول الإحباط الى فرح، إذ هبّت مجاميع من شباب وشابات لبنان من كل الطوائف لكنس وتنظيف الحطام الذي انتشر في المنازل والشوارع. لبنان اليوم بروحين، روح الحياة التي تقاوم وروح التدمير. العجز الذي يقعد الكثيرين من اللبنانيين عن الصدح بما يجب أن يقال يفعل فعله ولكنه لن يستمر، موجة الإحياء تحتاج الى تحديد استراتيجية شعبية وقيادة. ليس مطلوباً حمل السلاح في وجه السلاح، فلم يكن السلاح في يوم رادعاً لأماني الشعوب وطموحاتها. ربما كانت ثورة تشرين الأول (أكتوبر) الماضي مقدمة لإحياء الروح اللبنانية، وما ساعد على استمرار الدولة الفاشلة هو وباء كورونا، وهو مهما طال موقت، لكن الروح الحضارية باقية وستعيد من جديد الى شوارع لبنان وساحاتها البهجة.