نظرياً، وإذا ما استمرت المعطيات، الدولية والإقليمية، على حالها، فهذا يعني أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سيكون قدر سورية في العقدين المقبلين، ويتضمن هذا إعادة صياغة هذا البلد وتشكيله ليتكيف مع هذا الواقع، بحيث يتحوّل ساسته وعسكره إلى مجرّد قشور خارجية، تغطي على أكبر عملية نقل لدولة من فلكها العربي إلى المجال الروسي، لغةً وقيماً ونظاماً سياسياً واقتصادياً.
يتجه بوتين إلى تأبيد حكمه بإجراء تعديلات دستورية تتيح له البقاء في رئاسة روسيا حتى 2036، وقد بدأ، في العام الأخير، في إعادة هندسة البنية التحتية اللازمة لنجاح هذا الأمر، من خلال تغييراتٍ على مستوى النخبة الحاكمة، واختيار أشخاصٍ أكثر موثوقيةً لعبور مرحلة أبدية الحكم. أما البنية الدعائية فهي جاهزة، استكمال البرنامج الذي بدأه من أجل نهضة روسيا ورفعتها، كما أكّدت رائدة الفضاء، والعضو في مجلس الدوما، فالنتينا تريشكوفا.
يرتبط جزء كبير من نهضة روسيا البوتينية بما أنجزته روسيا في حقبة تدخّلها السورية، حيث
“يتجه بوتين إلى تأبيد حكمه بإجراء تعديلات دستورية تتيح له البقاء رئيسا حتى 2036”
تمثّل تلك المرحلة الأساس لرؤية بوتين، والنخب الروسية المؤيدة له، والتي تقوم على نقل روسيا من قوّة “إقليمية” وفق نظرة الولايات المتحدة، عام 2014، على لسان رئيسها، باراك أوباما، إلى أكبر قوّة مؤثرة في الشرق الأوسط، بحيث تمسك بيدها كل خيوط اللعبة في الشرق الأوسط، عبر سيطرتها على قلبه، سورية، وتعيد إعمار منظومة المنطقة بهندسة روسية جديدة.
ينطلق بوتين من معطياتٍ راهنةٍ في رسم سياساته تجاه سورية والمنطقة، حيث القوى الوحيدة القادرة على منافسته وتعطيل خططه وجعلها مكلفة، أي الولايات المتحدة الأميركية، في حال تراجع وانسحاب من المنطقة، وما صنعته إدارتها الأخيرة (أوباما وترامب) من سياسات تراجعية، يصعب ترميمها في الأفق المنظور، كما أن الدول الإقليمية باتت في جيب بوتين الذي تقصّد ربطها مع روسيا بمصالح أمنية واقتصادية وسياسية طويلة الأمد، تجعل حصول خلاف معها بشأن سورية أمراً غير وارد في السنوات المقبلة.
سبق ذلك، هندسة بوتين الملعب السوري لتجري خيوله في هذا الملعب بدون عثرات، بعد أن دمّر، بسياسة الأرض المحروقة، هياكل فصائل المعارضة وحواضنها الاجتماعية، وحوّل المعارضة السياسية إلى هياكل فارغة، بعد إفراغ العملية السياسية من محتواها، وأعلن للعالم أن المعارضة الوحيدة المتبقية له في سورية هي جبهة النصرة وأضرابها.
وكما فعل بوتين على جبهة المعارضة، كذلك أعادت أجهزته صياغة نظام الأسد وإعادة تشغيله بمفاتيح روسية لكامل منظومته، وهو ما أتاح له التحكّم في جميع أجزائها، بما فيها الرأس نفسه، إلى درجة تمكّنه مستقبلاً من تبديله، إذا ما اضطرّته الظروف، ووضع رأس آخر مكانه، فالهدف هو سير المخطّط الروسي، والباقي مجرد “إكسسوارات” لا يؤثر تغييرها على الهدف النهائي لبوتين.
على ذلك، ليس مستبعدا أن يكون بشار الأسد الهدف التالي لبوتين، بعد تمكّنه من تحقيق الأهداف الأكثر صعوبة، والمتمثلة في تحييد اللاعبين الإقليميين والدوليين، وإضعاف المحليين إلى أبعد
“ثمّة اقتصادات دول كثيرة مرشّحة للانهيار، من ضمنها، الروسي والصيني”
درجة، خصوصا وأن إمكانية ترجمة إنجازاته إلى مكاسب مرهون بإزاحته الأسد، حسب التعريف الأميركي والغربي للحل السوري. وقد يكون الصحفي الإسرائيلي، إيدي كوهين، وهو مستشار في مكتب رئاسة الوزراء الذي تنبأ برحيل الأسد قريباً، بنى توقعاته من هذا المنطلق، أو ربما سرّبت له إحدى الجهات هذا النبأ، وقد تكون روسية، لمعرفة الصدى الممكن حدوثه لدى دوائر الغرب.
ويمكن وضع الهجوم الإعلامي الروسي على الأسد، في هذا الإطار، واتهامه بالفساد وعدم القدرة على إدارة البلاد، وتدنّي حظوظه في الفوز بولاية رئاسية جديدة، وكأن الأسد كان قبل الأزمة يجري انتخاباتٍ حقيقية! ولكن هل يعني ذلك أن بوتين الذاهب إلى حكم أبدي قد طوى الملف السوري في جيبه، ولم يعد ممكناً تغيير هذا الأمر، بما يجعل أي تفكير في سورية خارج هذا السيناريو ضرباً من الخيال؟
في عالم اليوم، يستحيل ثبات المعطيات، مثلما يصعب منع المتغيرات عن الحدوث، ولا يمكن التخطيط لأكثر من أشهر، إن لم يكن أقل. وبالأصل، فشلت المهمة الروسية في سورية منذ زمن، فلم يستطع بوتين إقناع أحد بنصره، ما دامت المقاومة سارية ضده، حتى ولو في مساحة صغيرة بحجم إدلب، كما أن قدرته على ضبط اللاعبين الإقليميين في سورية (تركيا وإيران وإسرائيل) انكشفت هشاشتها إلى حد بعيد، خصوصا وأن هؤلاء اللاعبين يمتلكون أدوات قادرة على كسر سلطته في سورية، إسرائيل وتركيا من خلال تكنولوجيا أسلحتهما، وإيران بواسطة ميليشياتها القادرة على زعزعة خططه، وحتى أميركا ليست في وارد ترك الجمل بما حمل لبوتين في سورية.
أهم من ذلك، لم يعد في إمكان أي تقدير سياسي أن يكون صادقاً ما لم يأخذ متغير جائحة كورونا
“هل اقتربت إزاحة
الأسد
على يد
بوتين؟”
بالحسبان، فقد لفتت الدراسات الاجتماعية والاقتصادية إلى أن تداعيات هذه الجائحة التي لا يوجد أفق واضح للخروج منها ستكون على شكل زلازل في مستويات عديدة، وإنْ كان العالم منشغلا بتداعياتها الجيوسياسية وأثرها على النظام الدولي، ولكن تأثيراتها الداخلية ستشكّل عربة القطار التي ستجرّ خلفها التداعيات الأخرى.
ثمّة اقتصادات دول كثيرة مرشّحة للانهيار، من ضمنها، الروسي والصيني، وثمّة دول قد تتغير تركيبتها وبنيتها، ولا يستطيع أحد الرهان على تماسك سلطته وقوّة حكمه، فالتاريخ تصنعه الأحداث غير المتوقعة، وكورونا تحوّل خطير في التاريخ، ولا يقين ولا أبدية لشيء.