ثانياً: الأوضاع الإقليمية والعربية ومستجداتها

    تشهد بعض دول الشرق الأوسط، تغيرات ملموسة في مواقفها السياسية، هي على علاقة وطيدة بتطور وصيرورة الصراعات الإقليمية والدولية المشتعلة نارها بضراوة منذ اندلاع ثورات الشعوب العربية ضد أنظمتها الشمولية المستبدة. وتشمل هذه التغيرات من جهة علاقات الدول الإقليمية فيما بينها، ومن جهة أخرى علاقاتها مع القوى الكبرى الدولية الفاعلة في المنطقة. ومن أكثر الدول الإقليمية التي كانت سياساتها متحركة بديناميكية أسرع خلال هذه الفترة، هي دول الخليج وتركيا ومصر إلى حدٍ ما. ولقد كشفت الحرب الروسية – الأوكرانية، الغطاء بوضوح عن خلفيات مواقف دول الخليج وكل من تركيا وإيران وإسرائيل والأردن والقسم الأكبر من الدول العربية التي امتنع معظمها عن التصويت في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار إدانة روسيا على غزوها لأوكرانيا واختارت هذه الدول موقف الحياد بين روسيا وأميركا مثل الصين والهند وحوالي 18 دولة إفريقية. ولابد في هذا السياق من رؤية مدى تضخم التداخل والتشابك والتعقيد بين الوضع الدولي والوضع في الشرق الأوسط، وكذلك رؤية الدور الرئيس الذي تلعبه مصالح الدول في اتخاذ القرارات السياسية.

    لا يمكن غض النظر عن تلك التغيرات التي طرأت على سياسات بعض الدول الخليجية، خاصة السعودية والإمارات والبحرين، التي أخذت علاقاتها مع الولايات المتحدة تتسم بالبرود والعتب والاحتجاج المبطن على سياساتها، وعدم اكتراثها بالأخطار المحيقة بحلفائها في المنطقة منذ عهد أوباما. وهذا ما دفعها، لأن تبادر إلى نسج وتوطيد علاقاتها السياسية والاقتصادية والنفطية مع كل من روسيا والصين التي يقال أن الإمارات تمهدً للتعاون العسكري معها. في الواقع، إن برود العلاقات الخليجية- الأميركية، لم يأتِ من فراغ، وإنما جاء تحت ضغط ووطأة الحرب الدائرة رحاها في اليمن منذ سنوات، والخطر الإيراني المتفاقم والداهم عليها، ومن استراتيجية الولايات المتحدة الانسحابية من أزمات الإقليم الشرق أوسطي بشكل عام. وبالفعل، لقد ضعفت ثقة الخليجيين بأميركا وحمايتها ودعمها لهم نتيجة عدم تنسيقها معهم بالنسبة للاتفاق النووي مع إيران، ومحاباتها للإيرانيين والحوثيين في اليمن، وإيقافها تزويد السعودية بالسلاح، وانسحابها المفاجئ والفوضوي من أفغانستان. إن الحوثيين لا يخوضون حرباً بالوكالة عن إيران في اليمن فحسب وإنما هم يشنون حرباً بالمسيرات والصواريخ البالستية الإيرانية على المدن والمطارات والمنشآت النفطية والمواقع الاستراتيجية في كل من السعودية والإمارات. ولقد اضطر الخليجيون، على طريق سياستهم الدفاعية والأمنية، إلى بحث خلافاتهم البينية، خاصة خلافهم مع قطر، وعملوا كل ما بوسعهم في مؤتمر العلا لطي هذا الملف المستحكم بينهم منذ عدة سنوات.

     أما الملف المثير للجدل الذي بادرت إليه دولتا الإمارات والبحرين منذ منتصف العام الماضي، هو حملة التطبيع غير المسبوقة مع إسرائيل. وكانت ذروة هذه الحملة التطبيعية، عقد مؤتمر شرم الشيخ الذي جمع كلاً من مصر وإسرائيل والإمارات والمؤتمر الخماسي الذي تلاه ” منتدى النقب “، الذي جمع كلاً من إسرائيل والإمارات والبحرين ومصر والمملكة المغربية بحضور الولايات المتحدة؛ الذي بحث في الشؤون الإقليمية الأمنية والسياسية والاقتصادية. ومن المتوقع حضور دول عربية أخرى هذا المؤتمر في دوراته القادمة. ويبدو أنه لا توجد خطوط حمراء في الطريق إلى عقده دورياَ. ويجب أن نلحظ عدم رضى أو احتجاج أي دولة عربية على هذا التطبيع الكبير والواسع مع إسرائيل. وكذلك هنا لا بد من الربط بين تزامن التطبيع العربي مع إسرائيل ودعوة الكثير من الدول العربية للتطبيع مع نظام الأسد وعودته إلى الجامعة العربية. فكلا التطبيعين يحيلان إلى بعضهما. ولقد أسهمت إيران، بشكل غير مباشر، بمشروعها التوسعي وسياستها العدوانية والتخريبية ونشرها الفوضى في الإقليم، في تسويغ وتسهيل وتسريع عقد مثل هذه المؤتمرات التطبيعية مع كل من إسرائيل والنظام السوري. ويبدو أن هنالك وجهة نظر إماراتية وبحرانية وعمانية وأردنية ومصرية ترى أن عودة سورية ونظامها إلى (الحضن العربي) يمكن أن تساعد على إبعادها عن إيران وتقلل من أخطارها على المنطقة، وكذلك تسهل الطريق إلى التطبيع السوري/الإسرائيلي. وتلعب روسيا دور العراب الكبير في تسويق مثل هذه السياسة. وبطبيعة الحال لا تصطدم وجهة النظر هذه مع مصالح إسرائيل، وفي هذا السياق كان للولايات المتحدة موقفاً موارباً أعلنت فيه أنها لا تحبذ ولا تشجع على التطبيع مع نظام الأسد ولكنها لا تتدخل ولا تضغط على الدول التي تقوم بالتطبيع معه. مع ذلك، لا يبدو الطريق معبداً أمام تعويمه وعودته إلى الجامعة. وإلى الآن ليس هنالك إجماع عربي على هذه العودة. فلا تزال بعض الدول العربية، منها السعودية وقطر وربما المغرب، ترفضها وتشكك في قدرة الحضن العربي الراهن، على إبعاد دولة الملالي عن سورية، وعلى تعويم نظام الأسد في وقت تحتل فيه سورية من خمس دول أجنبية، ولم يٌتوَصَل إلى أي حل سياسي لأزمتها السياسية المستمرة منذ أحد عشر عاماً.

    ومن دول الإقليم التي بدأت منذ أكثر من عام في إعادة تموضعها السياسي هي تركيا، التي بدأت تعمل على تضييق فجوة خلافها مع مصر، وإعادة علاقاتها معها، وتفهم مطالبها وشروطها فيما يتعلق بوقف نشاط الإخوان المسلمين على الأراضي التركية. وكذلك تعمل على إعادة المياه إلى مجاريها مع كل من الإمارات والسعودية، ولقد أنهت ملف الخاشقجي وسلمته للقضاء السعودي. وأعادت تركيا علاقاتها مع إسرائيل إلى سابق عهدها. 

   وكذلك لابد أن نلحظ دور المصالح في الموقف الإسرائيلي الملفت من الحرب الروسية الأوكرانية، فعلى الرغم من تصويت إسرائيل لصالح القرار الغربي بإدانة الغزو الروسي لأوكرانية في الجمعية العامة لهيئة الأمم، فقد انبرت الصحافة الإسرائيلية لتشيطن هذا الموقف واعتبرته خاطئا وضاراً بمصالح إسرائيل ومخرباً لعلاقاتها مع روسيا وتوجه اللوم لوزير الخارجية على هذا الموقف.

    إذا نظرنا إلى الخارطة السياسية للعالم العربي فنراها بشكلٍ عام شبه قاتمة، تزداد في دُوَلَها، يوماً عن يوم، مفاهيم الدولة الفاشلة والفراغ والانسداد السياسي وفقدان السيادة؛ في حين نرى خارطة الدول الشرق أوسطية غير العربية المحيطة بها مثل تركيا وإيران وإسرائيل يتعاظم نفوذها في المنطقة.

   لا يزال الشعب السوري يعاني منذ أكثر من نصف قرن من تعسف واستبداد وتوحش أسوأ نظام سياسي، ومن أشد أزمة اقتصادية ومعاشية خانقة في تاريخه، وترزح سورية بالإضافة إلى ذلك تحت نير خمس احتلالات أجنبية. وباتت الحلول لأزمتها تعيش منذ سنوات، وبمباركة دولية وأممية، حالةَ تسويف وتشويه ومماطلة وإزمان.

    وفي لبنان لا يقل الوضع كارثية بالنسبة إلى أزمتيه السياسية والاقتصادية عن الوضع في سورية، وتكمن خلف أزمته بشكل أساسي سيطرة حزب الله وكيل إيران على مقدرات البلاد، والتغطية المسيحية لهذه السيطرة التي يؤمِنها له حزب الجنرال عون وصهره وبعض القوى السياسية الأخرى الموالية للنظام السوري. لكن برزت مستجدات جديدة في الوضع اللبناني، انهت سيطرة حزب الله وحلفائه على البرلمان، عبر نتائج انتخابات 15 أيار بهزيمته مع حلفائه، ويفقدون الأغلبية في البرلمان. هذا يعني أن أكثرية اللبنانيون تقول لا لسلاح حزب الله، ليأتي بعدها التخوين والتهديد. هذا الهزيمة هي هزيمة لمشاريع إيران في المنطقة، ونجاح لقوى السيادة وقوى التغيير التي جاءت من خارج الطوائف كتعبير عن نجاح قوى ثورة 17 تشرين ودورها القادم في الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية، سوف تؤدي هذه المستجدات إلى الكثير من المعارك السياسية الشرسة، وإلى الكثير من التعقيدات في صوغ التسويات وآلية صنع القرار وقد تؤدي إلى شلل تام أيضًا وتكرار السيناريو العراقي؛ أي استمرار الأزمة والتعقيد وبالتالي سوف يفتح نقاش جديد حول الصيغة اللبنانية بعد اتفاق الطائف. ومن مستجدات الوضع اللبناني أيضاً، إعادة كل من السعودية والكويت وقطر سفرائها إلى بيروت. فيبدو أن هذه الدول قد أعادت حساباتها السياسة وارتأت أنه من الخطأ الاستمرار في مقاطعة لبنان وتسليمه نهائيا للمحور الإيراني. وعلى الأغلب لعبت كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي دوراً في هذه الخطوة الخليجية.

    اما في اليمن، فقد طالت الحرب، وتعب المشاركون فيها، وصارت تشكل عبئاً ثقيلاً على الجميع بما فيهم الحوثيين وكلاء أيران. فيبدو أن خسائرهم الكبيرة في معركة مأرب دفعتهم للقبول بالهدنة لمدة شهرين كفرصة لإعادة ترتيب قواهم، وهذا ما كانوا يرفضونه لمواصلة هذه الحرب التي يستخدمها حكام طهران كورقة تفاوض رابحة بيدهم. وبالتزامن مع إعلان الهدنة كانت قد تمت دعوة لجميع الأطراف السياسية اليمنية إلى طاولة حوار في الرياض. لم يُلَبِ الحوثيون هذه الدعوة، ومع ذلك انبثق عن هذ الاجتماع نتائج إيجابية، من أهمها تقوية الشرعية اليمنية وذلك بانتخاب مجلس قيادة رئاسي لليمن يمثل معظم القوى السياسية والجهوية اليمنية، مفوضاً بصلاحيات الرئاسة بعد استقالة الرئيس ونائبه. يبدو أن هذه الخطوة يمكن ان تقلص فجوة خلافات تسعينات القرن الماضي بين اليمنيين الجنوبيين والشماليين، وتزرع الأمل لتحقيق السلام والاستقرار في اليمن.

    والعراق يعاني أيضاً من أزمة فقدان للسيادة وفراغٍ سياسي وتعطيلٍ للمؤسسات الوطنية والدستورية، يقوم به وكيل ايران في العراق التحالف التنسيقي (حزب المالكي وفصائل الحشد الشعبي). فلم يستطع برلمانه الجديد أن ينتخب رئيساً للجمهورية ولا أن يشكل حكومة جديدة. فيبدو أن أيران ووكلاؤها العراقيون قد لعبوا دوراً ملموساً في توسيع فجوة الخلاف بين المحور الكردي في أربيل والمحور الكردي في السليمانية.

وكذلك في كل من ليبيا والسودان وتونس، لا تزال الفترات الانتقالية فيها تعاني الاستعصاء فلا تتقدم إلى الامام، وتعاني كثيراً من وعورة طريق الوصول إلى نهاياتها، والشروع في إعادة تأسيس وبناء الدولة. 

26 / 5   / 2022 

اللجنة المركزية

لحزب الشعب الديمقراطي السوري

يتبع الفسم الثالث ..

الأوضاع الدولية وانعكاساتها الشرق أوسطية