ها هو بشار الأسد ينجح في أمر آخر، فضلاً عن نجاحه في البقاء حتى الآن، ها هو يجتذب انتباهاً إلى كلمته العادية المبتذلة الموجّهة إلى أعضاء “مجلس شعبه”. ترقّبوه وهو يعلن عن هبوط ضغطه؛ هذا ما كان يقوله الإعلان الرسمي عن الكلمة قبل بثها. لا بأس، ستتجشمون عناء الاستماع إلى ما يقول لأنكم لا تعرفون توقيت الحدث الأهم، أي توقفه عن التحدث، ومن المحتمل جداً أنكم لن تستمعون وأنتم تستعجلون الوصول إلى تلك اللحظة. لا بأس أيضاً، لن يفوتكم شيء، وليست الغاية أصلاً اجتذابكم للاستماع إلى ما هو جديد.
خلال أشهر لم يخرج بشار للتحدث، رغم وجود أسباب تتطلب خروجه، لا ليقول كلاماً مهماً، فقط لما في ذلك من رمزية. لم يخرج للتحدث علناً عندما كان الإعلام الروسي يهاجمه، وشاعت التحليلات المتنبئة باقتراب تنحيته، مع ما لصدور الهجوم عن الإعلام الروسي من آثار على مؤيديه وقوة اصطفافهم وراءه. لم يخرج للتحدث أثناء النزاع مع ابن خاله رامي مخلوف، وأيضاً شاعت في الإعلام أسباب للنزاع تمتهن مكانة بشار إذ ترد النزاع إلى خلاف بين أسماء الأسد ومخلوف، وكان لظهوره حتى من دون الإشارة مطلقاً إلى النزاع أن يُنظر إليه كإثبات لمكانته. التحلي الحقيقي بالمسؤولية كان ينبغي أن يدفعه إلى مخاطبة الواقعين تحت سلطته مرات بسبب التفشي الهائل لكورونا، ففي معظم البلدان خاطب القادة شعوبهم ولو على سبيل تقاسم الهموم.
هكذا ظهر بشار متحدثاً في مناسبة روتينية جداً، وكأن كل شيء على ما يرام، بما في ذلك المؤامرة الكونية المزعومة عليه ومثابرته في التصدي لها، بل الانتصارات التي يحققها عليها. هذا هو أيضاً الفحوى الأهم لإجراء انتخابات مجلس الشعب وصولاً إلى إلقائه كلمته، أي التصدي للمؤامرات التي ترمي إلى تغيير الدستور. اختيار ما هو روتيني لجهة المناسبة، وتكرار الأسطوانة القديمة ذاتها في ظرف سوري غير مسبوق، يغريان “كما أغريا مراراً” بالقول أنه شخص منفصل عن الواقع. هذا قول صار مكروراً أيضاً، تعاقب على إطلاقه مسؤولون دوليون وصحافيون بمن فيهم غربيون أجروا معه لقاءات، وصولاً إلى مسؤولي معارضة يستخدمون الوصف عندما يريدون تقليد الغرب باستخدام شتائم مهذبة.
لكن أكد بشار مراراً أيضاً أنه ليس ذلك الشخص المنفصل عن الواقع، فهو على الأقل يعي جيداً من الواقع ما أسعفه ويسعفه من أجل البقاء. إنه مدرك لمصلحة سلطته كما يراها هو، لا كما يراها كثر من منطق عقلاني متماسك. تماسك المنطق العقلاني يأتي من القياس على مفهوم متداول للسلطة، بما في ذلك بعض نماذجها الديكتاتورية، بينما يأتي تماسك بشار من إصراره على استثنائية سلطته وعدم خضوعها للقياس، الإصرار الذي تأكدت واقعيته حتى الآن، ولا يمكن تالياً الانتقاص من “عقلانيته” أو اتهام صاحبه بالانفصال عن الواقع.
هناك سلطة منفصلة عن معاناة وهموم ومصالح محكوميها، هذا شأن مختلف تماماً ولا يعني أنها لا تعرف همومهم ومعاناتهم ومصالحهم، وتبرئتها من المعرفة هي خدمة جيدة مشابهة لمنح صك الجنون في المحكمة لقاتل بكامل قواه العقلية. إنها سلطة تعترف أحياناً بالحد الأدنى من معاناة المحكومين، من دون أن تلزم نفسها بحلول حقيقية، وعندما تمارس سياسة الإنكار تجاه المشكلات الكبرى وأسبابها فهي تمارس إنكاراً سياسياً متعمداً ووظيفياً، لا ذاك الإنكار الذي يمارسه مريض نفسي. إذا كان الانفصال عن الواقع، بالتعريف النفسي البسيط، تعبيراً عن الهروب والانسحاب فإنكار الواقع على هذا النحو السياسي هو نوع من المجابهة المقصود بها تعزيز قهر المعنيين به. بدورها، ما ندعوها سياسة إنكار لا تصدر عن عجز ومداراة له أو عن حياء، هي المقام الأول سياسة قهر وتعذيب ممنهجين للضحايا الذين تُنكر معاناتهم في الأحوال العادية، ويُنكر وجودهم إذا حاولوا إثباته.
بعد ذلك كله سيأتي تصوير هبوط الضغط الذي ألمّ ببشار أثناء إلقاء كلمته بمثابة منّة أو مكرمة، فها هو على هيئة البشر العاديين. يا له من متواضع، إذ من المحتمل أن يكون الانشغال بمهامه المفترضة قد أرهقه، وشغله حتى عن تناول الطعام! هو صاحب إنجاز لمجرد إصابته بالإرهاق، وصاحب إنجاز لتفسير الإرهاق بقيامه بمسؤولياته، وصاحب إنجاز أخير بالتواضع إلى مستوى البشر العاديين الذين يُرهقون أو يفقدون شهيتهم للطعام لسبب أو آخر.
ربما يكون قد أصيب حقاً بهبوط الضغط، لكن مجمل إخراج القصة يوحي بفبركتها، ومن المرجح أن يكون ما حدث نوعاً من التمارض، أو أنا الفبركة اللاحقة جعلته يبدو كذلك، لكن إشارة بشار إلى عدم تناوله الطعام لا تبدو بريئة وعفوية. المهم في الأمر أن هناك من يدّعي عدم تناوله الطعام رغم تأكد الجميع من وفرته لديه، في حين تأتي الأخبار بما هو مأساوي عن عدم قدرة السوريين على تأمين الطعام حقاً، وعن اكتفاء قسم منهم بأقل من الوجبات المعتادة، وتخليهم عن أصناف من الطعام كانت تُعدّ رخيصة إلى وقت قريب. حتى الملح والسكر اللذين قال بشار أنه تناول قليلاً منهما ليرفع ضغطه أصبحا من الأصناف الغالية قياساً إلى دخل الغالبية الساحقة، أما أسعار الأدوية “فضلاً عن فقدان البعض منها” فقد شهدت ارتفاعاً شديداً، بما فيها الضرورية كتلك التي يتناولها مرضى حقيقيون بالضغط أو ذات الطلب الحالي المتفاقم بسبب انتشار كورونا مثل الفيتامينات وبعض المضادات الحيوية.
في ظرف شديد السوء والبؤس، يأتي متمارض ليخطف الأضواء من مرضى حقيقيين. سواء حدث هبوط في الضغط أو لم يحدث، إخراج الأمر على هذا النحو فيه ما فيه من التنكيل بعدد هائل من المرضى الفعليين وبعدد هائل ممن هم تحت خط المجاعة، وأدنى درجات الاحترام لمعاناتهم ألا يتم السطو عليها بادعاء كاذب، لأن السطو عليها يحيل الأمر برمته إلى نوع من المهزلة. إن ما يفعله على الأقل مئات ألوف السوريين هو الصمت على معاناتهم أمام من يرونهم أصحاب معاناة أشدّ، ورغم الكبت الذي يراكمه الصمت ففيه قدر من النبل والمسؤولية على الضفة الأخرى تماماً من التمارض أو المتاجرة بعارض صحي خفيف. المتاجرة في حالتنا لا تصدر عن شخص ضعيف يستجدي تعاطفاً كما في الكثير من حالات التمارض المعتادة، هي تصدر عن تركيبة سيكوباتية أصيلة، عن المرض الذي يكون خطيراً على الآخرين.

المدن