كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

إذا صدقت تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول اعتزامه سحب القوات الأمريكية من سوريا، ثمّ بادر البنتاغون إلى وضع ذلك العزم موضع التنفيذ الفعلي وباشر عمليات الانسحاب، خلال آماد قصيرة كما يُقال لنا؛ فإنّ المتضرر الأول، داخل وزارة الخارجية الأمريكية بادئ ذي بدء، سوف يكون جيمس جيفري، السفير الأمريكي السابق لدى العراق ثمّ تركيا ثمّ ألبانيا، ولكن الذي يعمل اليوم تحت مسمى «المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا». الرجل سوف يخسر وظيفته، منطقياً، إذا أتمت الولايات المتحدة تصفية وجودها العسكري والمدني والدبلوماسي على الأرض السورية؛ أو ستنحصر وظيفته في التثاؤب من مكتبه في واشنطن، خلال مرحلة انتقالية تطول أو تقصر، يتحول بعدها إلى عمل آخر ومسمّى جديد.
لكنّ خيبة أمل جيفري لن تقتصر على خسران وظيفة، كانت أصلاً بلا معنى ولا محتوى في واقع الأمر، بل ثمة ما هو أبعد أثراً على أصعدة شخصية تخص عقل الرجل ومعتقداته ومَلَكاته الستراتيجية والتكتيكية؛ ليس حول المشهد السوري، ميدان عمله واختصاصه الراهن، فحسب؛ بل كذلك على مستوى موقع الولايات المتحدة الكوني كقوّة عظمى أولى، ومكانتها بالقياس إلى كبار منافسيها (روسيا والصين، على وجه التحديد)، ومصداقيتها مع حلفائها الصغار والكبار معاً. قبل أيام قليلة، هذا الشهر تحديداً، ألقى جيفري كلمة في محفل حول سوريا نظمه «المجلس الأطلسي»، جزم فيه أنّ أمريكا باقية في سوريا ليس لأسباب تتصل بالقضاء على الإرهاب أو هزيمة «داعش»، فهذه أهداف قريبة المدى؛ بل لأنّ مضامين الملف السوري المتفجرة لم تعد منحصرة في مصائر نظام قتل نصف مليون مواطن سوري وشرّد 11 مليوناً («أكثر من مجموع سكّان مدينة نيويورك وشيكاغو» كما قال، من باب تقريب الفاجعة إلى أذهان مستمعيه!)؛ بل باتت مسألة صراع وتصارع بين قوى إقليمية ودولية كبرى، هي أمريكا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، وفق إحصائه.
وإذا كان جيفري على وشك خسران وظيفته، لأنها باتت بلا معنى، فإنّ وظيفة وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس يمكن أن تصبح اسماً على غير مسمى في ضوء رضوخ البنتاغون لما أعلنه رئيسه المباشر، القائد الأعلى للقوات المساحة، من عزم على الانسحاب من سوريا. ففي مطلع هذا العام، وخلال خطبة عصماء بدورها، ألقاها في جامعة جونز هوبكنز لكي تكتسي بطابع فكري وليس عسكرياً فقط؛ كشف ماتيس النقاب عن الانعطافة الكبرى في الستراتيجية الدفاعية الأمريكية: بدل الحرب على الإرهاب، ديدن أمريكا خلال العقدين المنصرمين، تنتقل الأولوية الآن إلى مجابهة الجبروت العسكري لكلّ من روسيا والصين. وإذ أعلن، قبل عام من إعلان رئيسه، أنّ الولايات المتحدة تمكنت من هزيمة «داعش»، شدّد ماتيس على «حال التقلّب وانعدام الوثوق، وحقيقة عودة التنافس بين القوى العظمى»، وأنّ هذا التنافس «وليس الإرهاب، هو التركيز الرئيسي للأمن القومي الأمريكي». لكنه اليوم، في ضوء تغريدات ترامب حول الانسحاب، مجبر على ابتلاع لسانه تماماً، والبحث في المقابل عن أسس «فكرية» جديدة، لهذه الستراتيجية العجيبة المتمثلة في مجابهة التهديد الروسي عن طريق… الانسحاب منه، وأمامه!
ولا يصحّ، من جانب آخر، إغفال حسّ الإحباط الذي انتاب صحيفة «نيويورك تايمز»، بما تمثله من قيمة وتأثير في قلب مؤسسات القرار السياسية والإعلامية والفكرية الأمريكية. وهو إحباط يبدأ من التحسر على رئيس أمريكي لم يتعلم أية حكمة من دروس ما بعد 9/11، خاصة هذه القاعدة الكبرى: نشر القوّات الأمريكية خارج الولايات المتحدة هو «المفتاح لوقف الإرهابيين، قبل أن يصلوا إلى الشواطئ الأمريكية»، وهو «حيوي للحفاظ على التحالفات التي تُبقي العالم آمناً». وأمّا هذا الرئيس، يندب دافيد سانغر موقّع المقال، فإنه يفضّل «فكرة استخدام الجيش لضمان أمن الحدود المكسيكية، على مجابهة روسيا وإيران وكوريا الشمالية والصين». لكنّ سانغر يتذكر ــ لحسن الحظّ! ــ أنّ ترامب لا يقوم بما هو أكثر من إعادة استنساخ نظرية سلفه باراك أوباما؛ الذي دشن نظرية أبسط في الواقع: نعتمد على شركاء محليين، ونستخدم القوّة الجوية الأمريكية إذا اقتضت ضرورة الدفاع عن المصالح الأمريكية، ثمّ نحتفل بإعادة القوّات الأمريكية إلى الوطن خلال الأعياد. وهكذا، أعاد الرئيسان الـ44 والـ45 النظر في انتشار الجيش الأمريكي ما وراء المحيط (170 ألفاً في العراق، و100 ألف في أفغانستان، خلا 17 سنة)؛ وليس غريباً، بالتالي، أن يغصّ ترامب بوجود 2000 من فتيان أمريكا على أرض سوريا!
إلى هذا، يتردد أنّ عدداً من معاوني ترامب المقرّبين كادوا أن يشدّوا الشعور رعباً، قبل السخط، إزاء قرار يحمل كلّ أوجه السوء، في أبعاده جمعاء (ما خلا إعادة «فتياننا» إلى أمريكا خلال الأعياد)، على الأصدقاء والحلفاء، قبل الخصوم والأعداء. والمرء، بالطبع، ليس بحاجة إلى عناء من أيّ نوع لكي يعدد الخاسرين من قرار الانسحاب (دولة الاحتلال الإسرائيلي أولاً، ثمّ الفصائل الكردية التي رهنت مصيرها بالقرار الأمريكي شرق الفرات وفي منبج و20 انتشاراً عسكرياً أمريكياً على الأقلّ في مناطق الجزيرة الحدودية مع تركيا والعراق، فضلاً عمّا تبقى من صبيان «المعارضة» السورية الذين تعلقوا بأذيال واشنطن، ثمّ الحلفاء أمثال السعودية والأردن…)؛ مقابل الرابحين من القرار إياه (روسيا فلاديمير بوتين، إيران «الحرس الثوري» و«فيلق القدس» و«حزب الله» والميليشيات ذات التمذهب الشيعي كافة، تركيا رجب طيب أردوغان وفصائل «المعارضة» السورية المسلحة الملحقة بالجيش التركي، ما تبقى من وحدات عسكرية موالية لنظام بشار الأسد…).
ولا فائدة تُرجى، هنا ومرّة أخرى، من توجيه الملامة إلى قيادات الفصائل الكردية المسلحة التي انضوت تحت المظلة الأمريكية، فليست الخيانة الأمريكية جديدة على التاريخ الكردي؛ بأسره في الواقع، في تركيا والعراق وإيران، قبل سوريا؛ وليس جديداً، أيضاً، أن تتخذ تلك الخيانات صفة الغدر المعلَن، الذي يندر أن يأتي كمفاجأة مباغتة، إلا عند السذّج بالطبع. لقد اختلطت، مراراً وتكراراً، أوراق القوى الكردية، ومعها تبعثرت الحسابات وتشرذمت واتخذت مسارات معاكسة؛ لدى «حزب العمال الكردستاني» و«حزب الاتحاد الديمقراطي» مرّة، وعند «وحدات حماية الشعب» و«قوات سوريا الديمقراطية» مرّة أخرى؛ على امتداد مناطق الجزيرة السورية، في محيط دير الزور وشرق الفرات، على خطوط أحياء حلب الشرقية، وفي منبج وعفرين. وإذا كانت عفرين آخر شهيدات الرهانات الأمريكية البائسة للقيادات الكردية، فإنّ منبج سوف تكون الشهيدة المقبلة والفريسة التي يتطلع الرئيس التركي إلى قضمها، على مرأى من أمريكا، ومسمع من… موسكو!
ولست أختم هذه السطور دون ابتهاج شخصي بقرار ترامب سحب القوّات الأمريكية من بلدي، إذْ أنه في المقام الأوّل يُنقص الاحتلالات واحداً، رغم أنه يُبقي سوريا محتلة من إيران وروسيا وتركيا، إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي؛ برّاً وبحراً وجوّاً. وهي احتلالات ليست دون استطالات محلية (ميليشيات مذهبية تديرها طهران، وأخرى تموّلها موسكو وترعاها، وثالثة تتولاها أنقرة؛ مضامينها تتماثل حتى إذا اختلفت مسمياتها بين «حزب الله» أو «عصائب الحق» أو «قوات النمر» أو «درع الفرات»…). وهو، في المقام الثاني، إذْ يرتّب على أبناء سوريا مهامّ أكثر تعقيداً في وضع تحرير البلد نصب الأعين، فإنه يُشعل أكثر فأكثر أوار التناقضات بين مصالح قوى الاحتلال هذه، ويجعل تكالبها على مشاريع اقتسام البلد أشدّ صعوبة وتعقيداً.
وإنّ ضارّة للبعض قد تكون نافعة لسواد السوريين!

*كاتب وباحث سوري يقيم في باريس.