د. مناف الحمد

عندما ذهبت لتعزية أسرة المرحوم حمد عبيد في السويداء الذي كان وزير الدفاع عام 1963 فوجئت في التأبين أن والد حمد عبيد هو أحد شهداء الثورة السورية الكبرى، وعلى الرغم من أن علاقتي الحميمة بالراحل استمرت أكثر من عشرين عامًا، فهو لم يذكر لي هذه الحقيقة ولم أعرفها إلا بعد رحيله.

زاد إكباري لهذا الرجل وإرثه العائلي الوطنيّ، وترسخت لدي القناعة القديمة أن ادعاء احتكار الوطنية على طائفة أو عرق محض هراء، وأن مذبح الحرية قد تشرّب دماء الشهداء من أفراد مختلف أبناء الوطن وكان دمًا نقيًا لم تلوثه الانتماءات العقدية، ولم تمنع سفحه طلبًا لنيلها فروقات أيديولوجية وخلافات مذهبية.

تذكرت هذا عندما انتفض أبناء جبل العرب الأشمّ منذ أيام ضد نظام الاستبداد نافخين في ثورة السوريين روحًا جديدة و إشراقة معنى جديدة، وتناولت بعض التحليلات انتفاضتهم بالتحقير والاستخفاف القائمين على أساس واه هو أن انتفاضتهم كانت ثورة على الجوع ولم تكن ثورة من أجل الكرامة والحرية.

لا بد -من أجل وضع الأمور في نصابها- من الأخذ في الحسبان أن من حق الجائع الصراخ، وأن صراخه تعبير عن إنسانيته، وأن محاكمة أبناء جبل العرب لا تكون ناجزة ما لم تأخذ في حسبانها تاريخ أبناء السويداء في النضال الوطني عبر كل مراحل التاريخ السوريّ، وهي سيرورة نضالية يكفي استحضارها لدحض كل مغرض مشكك في وطنيتهم وانتمائهم وشغفهم ببناء سورية حرة كريمة مستقلة.

وإذا كانت هذه الحجة لوحدها كافية لإفحام كل متقوّل، فإن ما ينبغي التنبه إليه أن سرقة ثورة السوريين على يد المتطرفين من جهتي الصراع كفيلة بتفسير وتبرير انكفاء أهلنا في السويداء لفترة طويلة عن المشاركة، ولا يعيبهم هذا الانكفاء بعد أن ملأ الفضاء عفن التطرف وسدّ المنافذ أمام التعدد خطاب قاصري الفكر وحاملي رايات التكفير.

ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن انتفاضة السويداء مفصل جديد قد يكون حاسمًا في ثورة السوريين يعيد إليها ألقها ونبل سلميتها ويقلب ظهر المجنّ على من يريدون حصرها بطائفة من طرف المعارضة، وعلى من يريد مسخ دوافعها بجعلها دوافع طائفية من طرف النظام.

والحق أن من ينتقد هذه الانتفاضة إنما يتلطى خلف حجج أسلفنا ذكرها من أجل إخفاء نزوع طائفي نكابر إذا أنكرنا وجوده لدى فئات كثيرة من السوريين ممن لا يزالون أسرى منظومات مغلقة وتصنيفات قبل وطنية.

إن تصنيف الأفراد بحسب انتماءاتهم إلى الجماعات شرط ضروري للتعصب ويصبح كافيًا إذا ارتبط ببعد تقويمي لهذه الجماعة يقع على أحد قطبيه قيمة الخير وعلى القطب الآخر قيمة الشر، ولا نجانب الصواب إن قلنا إن في الموروث السني ما يدفع إلى فرز الـ ” نحن” عن الـ” هم”، وهو ما يجعل التَّعصب ضدّ الطَّائفة واقعًا مضمرًا في ظروف العجز عن التَّصريح، وحربًا شعواء في ظروف مغايرة.

وفي هذا ما يصلح تبريرًا آخر لانكفاء من تمارس العنصرية ضدهم استنادًا إلى بعد تصنيفي تقويمي وخصوصًا عندما لا يستطيع بعض من يدعون الاعتدال من تيارات الإسلام السياسي إخفاء حبورهم بدولة الخلافة وتأييدهم لها، وعندما يندفع بعضهم بكل قوته لدعم فصائل متطرفة لم تكن داعش تجسيدها الوحيد.

إذا كنا نريد لثورتنا أن تنتصر فلنرحب وندعم كل من يقف في مواجهة الاستبداد من أبناء الوطن وخصوصًا إذا كانوا ذوي تاريخ مجيد في الدفاع عن هذا الوطن وممن أغنوا رموزه بشخصيات وطنية كبيرة لا يستطيع مزاود -مهما غالى في مزاودته- أن ينكر دورهم التاريخي العظيم.

ولعل من الصادم للبعض القول إن فتح صفحة جديدة لبناء وطن حر مستقل لجميع أبنائه يتطلب أكثر من ذلك؛ فصحيح أن العدالة مطلب لا محيص عنه ولكن قدرًا من التسامح الممكن مطلب لا يقل أهمية حتى مع أصناف ممن أجرموا؛ لأن التحرك بعوامل الثأر والانتقام سيظل ينكأ الجراح وسيغذي دورة العنف الذي يدفع الوطن نحو المجهول.

إن ثورة السويداء حدث عظيم وإن الثائرين في السويداء فاعلون قادرون على تغيير الكثير من المفاهيم البالية وإلى الدفع بمتطرفي الفكر من كل الجهات من متن الحدث إلى هامشه وإلى إعادة تدفق الدم في قلب ثورة مغدورة من طرف أبنائها قبل أي طرف آخر.