كان ذلك هو اللقب الذي أطلقه معتقلون سياسيون في سجون النظام السوري على خلفية انتمائهم إلى أحزاب يسارية على الراحل الياس مرقص؛ لأنه ارتد عما يعدّونه ثوابت قطعية الدلالة في منظومتهم الماركسية، وارتكب جريمة الخيانة للبروليتاريا بتنظيره للديمقراطية التي كانت غطاء أيديولوجيًا زائفا -في نظرهم- لخصمهم اللدود البرجوازية القذرة.

لا شك أن البنية الأيديولوجية المصمتة التي تنتج ذلك الخطاب اليساري المتعفن لم تكن صاحبة السيادة في إنتاجه، وإنما تتقاسم معها عملية إنتاجه جذور سوسيولوجية، ونوازع نفسية.

فمعظم هؤلاء كانوا من جذور اجتماعية معينة، وقد وجدوا في صراع الطبقات متنفسًا لأحقاد متراكمة، وفي إزاحة اليقين الديني كشرط للتقدم العلمي استجابة لانسلاخهم المسبق عن كل ما يمتّ للتراث بصلة.

ولا شك أيضًا أن الياس مرقص، ورفيق دربه ياسين الحافظ قد سبقا عصرهما بإعادة الاعتبار للبعد القومي، وبالدعوة إلى الديمقراطية بديلًا لا مندوحة عن النضال لأجله؛ من أجل الخلاص من الاستبداد، وبناء الدولة المدنية التعددية.

ومن جهة أخرى قد يكون الراحلان الياس وياسين قد غفلا عن ثغرة موجودة في الديمقراطية كفيلة بتسلل الشبهة التي يرفع بها العقيرة منتقدوهم، وهي اقترانها بالليبرالية التي لم تنفكّ عن بعد رافقها منذ بداياتها، وهو البعد النخبويّ الذي يجعل التوفيق بينها، وبين الديمقراطية تلفيقًا؛ لأن الاستعلاء على الجماهير، وفقدان الثقة بها لا يمكن أن ينسجما مع جوهر الديمقراطية، وإن الكثير من المظاهر السلبية في المجتمعات التي تبنتها إنما يعزى إلى هذا المزج بين متنافرين.

إن نقد اليسار الأكثر شيوعًا في العالم الغربي للديمقراطية الليبرالية، والذي ينطلق من فهم عميق لهذا البعد يركز على عناصر الفردية الاقتصادية، والرأسمالية، والنخبوية، والتي لن ينتج بوجودها إلا ديمقراطية نحيفة يقتصر حضورها على نطاق ضيق من الحياة السياسية

 وقد كان جديرًا بروّاد الفكر الديمقراطي تأكيد إمكانية فضّ التنازع بين الليبرالية والديمقراطية، إذا تخلّت الأولى عن نخبويتها، وإذا كان المقصود بالديمقراطية ثقافة تتغلغل في كل مفاصل الحياة.

الطريف أن مقتل الديمقراطية الليبرالية هذا المتمثل في بعدها النخبوي كان سمة مشتركة بين دعاة الديمقراطية وخصومهم، فالأولون مصرون على مفهوم الطليعة الذي يمثل شكلًا من أشكال النخبوية، والآخرون لا ينفكون عن نخبوية أكثر سماجة باستعلائهم على عقائد الناس في مجتمعهم، وعدّها أوهام متخلفين.

إن للقيم التي تنطوي عليها المنظومات الفكرية قدرتها على التضليل، فبينما يظنّ المأخوذ بها أنها علاج سحريّ يفاجئه الغوص في أعماقها، والتبصر في حالها المتعين بجوانبها المظلمة، ونوايا المنادين بها غير الطيبة في أحيان كثيرة.

ولعلّ الدرس المستفاد أكثر من غيره بالنسبة إلينا، هو ضرورة ألا يدفع بعضنا شعور النقص باتجاه تبنّي أحدث الأفكار، ومنح الولاء لآخر النظريات، من دون الإمساك بتلابيبها، وفهم حمولاتها الأيديولوجية، وواقعها، وكلّ ابعادها.

وربما يمكننا العثور على جوانب نخبوية في كلّ منظوماتنا التي نفهم من خلالها الواقع، وربما نستطيع بالقبض على هذا البعد فيها إضافة عامل تفسيريّ جديد لتأخر انتقالنا إلى الديمقراطية، وعجزنا عن الإطاحة بجلادينا .

رئيس التحرير