كان الربيع العربي الذي انطلق عام 2011 مؤشراً طافحاً بالأمل بولادة عصر عربي جديد، يحمل معه أحلام التغيير المزمنة، ويحطم أغلال الاستبداد المديد والاستغلال والتسلط والفساد الذي أنهك الشعوب، وبدد طاقاتها لعقود طويلة في جميع الدول العربية؛ فطاقة الشباب الواعدة التي انطلقت في الشوارع والساحات بعد طول غياب وتحييد وإرهاب مبشرة بمستقبل للحرية والكرامة شكلت بارقة أمل بالتغيير على أرض أنهكتها القيادات الهرمة واجترار الشعارات الفارغة والوعود الخلبية بالانتصار والتقدم ودخول العصر، بينما كانت الدولة تزدهي بالنهب والفساد والزبائنية، وتزدحم بالسجون والمعتقلات والمنافي حيث الداخل مفقود والخارج مولود. ودخلت بصيغة الدولة الأمنية، لتصبح عدواً لشعبها ومغتصباً لإرادته في المقام الأول. 

  دخلت الشعوب – في ربيعها لعقد من الزمن – مخاض التغيير المطلوب كاتجاه وحيد لصنع الحياة، وواجهت في سبيل ذلك الكثير من الصعوبات والتدخلات الخارجية والداخلية، وقدمت من التضحيات ما يعز عن الوصف. غير أن بداية العقد الثالث من القرن (2021)، وبعد عقد دموي صاخب، كشفت الحقيقة العارية للوضع العربي بتصدعاته العميقة وتهتك البنى العامة للدولة العربية والاجتماع السياسي فيها وفيما بينها. وتأتي العلاقات البينية وجامعة الدول العربية ومؤسساتها على رأس هذه البنى المتهتكة والعاجزة، وقد وقعت في مطب العطالة والبطالة وانعدام الدور.

  يبدو الوضع العربي اليوم فاقداً لأي قضية جامعة قومية سياسية ثقافية أو اجتماعية اقتصادية تنموية. وتعاني دوله من تمزق الهوية الوطنية الجامعة لصالح الانتماءات ما قبل الوطنية من عشائرية وطائفية ومناطقية. وتبدي الدولة التي صارت فئوية بامتياز عجزاً فاضحاً عن أداء دورها المفترض ومهامها المطلوبة في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين. وتستعر بين هذه الدول النزاعات البينية والتدخلات العسكرية السافرة والمستترة لتصل إلى حدود قطع العلاقات الدبلوماسية بينها ووضع الشعوب في حالة استنفار وعداء، بينما توفر هذه الدول احتياجاتها الأمنية لتوفير أسباب البقاء والاستمرار بالاستناد إلى علاقات واتفاقات مع الدول الأخرى في المنطقة كتركيا وإيران وإسرائيل. 

شعوب ممزقة إثنياً وطائفياً وعشائرياً ومناطقياً وسياسياً، تعاني حالة تبدد وضياع غير مسبوق، تبحث في ركام المهانة والذل للفئات الحاكمة وإجراءاتها عن أسباب العيش الأولية البسيطة من ماء وكهرباء وخبز وأدوية ومواصلات ميسرة ولا تجدها. بدأب تبحث عن فيزا للرحيل ومغادرة البلاد. تخسر كرامتها وتمتحن صبرها كل يوم على أبواب المسؤولين وفي طوابير الدور والانتظار دون أمل في الخروج من المحنة. 

عملت الشعوب جهدها في الثورة على هذا الوضع وتغييره عبر الموجة الثانية من الربيع العربي 2019، غير أن السلطات بعسكرها وأجهزتها القمعية والدعم الخارجي الذي تتلقاه أجهضت إرادة التغيير وقواه الشابة مكتفية بوعود الإصلاح، بينما تمضي الحكومات بالتغني بانتصاراتها وإنجازاتها، وتفتعل صراعات مع جيرانها لشد عصب الناس حولها وتضليل الرأي العام عن المهام المطلوبة. وعندما يكون 50% من اللاجئين في العالم من الوطن العربي، و25% من النازحين في أوطانهم يعيشون على الأرض العربية، فأي واقع مرير تعيشه هذه الشعوب في أوطانها؟

 وهنا يبرز السؤال المر، أليس من قاع لهذا الهبوط؟! 

دمشق في 2 / 9 / 2021