الهوية عندما تكون رحما مشوها

ليس الانكفاء إلى الهوية المشاهد اليوم في أمريكا وروسيا -على الرغم من اختلاف الدوافع والمآلات- إلا تعبيرًا عن عجز القيم المرفوعة عبر عقود على التمكن من الاستجابة لحاجات أساسية لدى المجتمع الأمريكي تحديدًا، ولدى النخبة والشعب الروسيين.
ولا يعني هذا الانكفاء -كما يقال عادة- انحطاطًا في المنظومة القيمية بقدر ما يعبر عن رد فعل على معاكسة القيم التي جعلت رائزًا للحق والباطل لتطلعات أهملت، وحاجات لم تلبّ.
فأسطورة التاريخ الذي تحكمه قوانين حتمية -بما تتطلبه من وأد لقيمة الحرية لحساب العدالة المنشودة-، ثم التبتل أمام رموز رأسمالية بعد سقوط المنظومة التي وعدت بجعل الجنة في الأرض، بما استلزمته من استلاب لآلهة هذه الرموز، كلاهما أثمرا ضياعًا لحقوق أساسية لم يكن ثمة بدّ للسعي لاستردادها عن طريق توسيط البعد القومي المحافظ الذي يمثّل رحم الأم الدافئ في مواجهة الخوف من الضياع الأبدي.
وسياسات النخب في أمريكا على مدى العقود الفائتة الأخيرة –بما حملته من مغامرات ناء بحمل تكاليفها المجتمع والدولة الأمريكيتان لتحقيق حلم مستحيل بأمركة العالم، ثم الانكفاء عن أي تدخل بما استلزمه من ازدواج يمكن العثور على أحد تعليلاته في شخصية الرئيس الأسود الذي يحرص -بحكم شخصيته المترددة على عدم الحسم-؛ بحجة إزالة آثار مغامرات سلفه المتهورة، جاءت برد فعل الانكفاء إلى الهوية حيث لم ينفع لا تصدير القيم المتعالية على الحاجات، ولا العزوف عن تصديرها، ولم يجلبا إلا مزيدًا من الآثار السلبية داخليًا وخارجيًا.
ولكن الحالين المذكورين يمثلان حالتي انكفاء واعيتين لا تخفيان ما تستبطنه سياسات الهوية من ازدراء للآخر، ولكنه ازدراء يُستثمر كدينامية من ضمن ديناميات أخرى في خدمة استراتيجية قومية.
هذا الازدراء الذي لا يمكن للهوية أن تكون هوية مغلقة حاجزة بين الـ “نحن” والـ “هم” إلا بوجوده كمكوّن عضوي هو الذي يمثل الفرق بين انكفاء إلى الهوية يستخدمه لغايات أهم، وآخر يتحرك بتحريضه، وبوحي من بطانته القذرة.
وهذا هو الفرق بين سياسات الهوية التي أفصحت عن نفسها في ممارسات النظام السوري الذي جعل من شعبه آخر لا يملك تجاهه إلا مشاعر الازدراء، وبين سياسات هوية لدول تستثمره بوعي لتحقيق ما يتطلبه توسيط البعد القومي من علاقة مع الآخر.
وهو المكون الذي يأخذ موقع الصدارة في سياسات حليفه الإيراني الذي كشف عن وجهه الطائفي القبيح الذي ينظر شزرًا إلى خصمه الطائفي، ويملك شعور الازدراء عليه كيانه فتراه مندفعًا إلى إفنائه من دون أن يردعه رادع من عقل أو ضمير.
وهو المكوّن الذي يأخذ موقع الصدارة في سياسات الهوية لدى حليف المعارضة السورية السنيّ الذي يتحرك بالدافع نفسه؛ لأنه لم يستطع أن يُنضج منظومة إنسانية خارج النطاق الطائفي في علاقته مع مجتمعه، أو مع محيطه.
إن هذا الفرق بين سياسات الهوية التي كان النكوص إليها مخرجًا هناك، وبين سياسات هوية لم تبرح مكانها -أصلًا- لبديل وطني إنساني هنا بما ينطوي عليه الوضع هناك من استثمار واع لمشاعر الازدراء، وفعل بتوجيهها هنا، هو الذي يجعل المشهد قاتمًا إلى درجة غير مسبوقة.
فالمعارضة السورية المسلوبة القرار لصالح حلفاء لا يتحركون بوحي هوية مستخدَمة بوعي، وإنما بوحي هوية موسومة بسمة مكوّنها الأبشع لا يمكن إلا أن تصطبغ بهذه الصبغة فيصبح صراعها مع نظام الاستبداد، وحليفه الطائفي صراعًا مع شبيه، مع أنها في الأصل صاحبة حق أصيل في الحرية.
وهو ما جعل المشهد مربكًا لمن يريد توصيفه، ونافعًا لمن يريد استخدامه للالتفاف على حق الشعب السوري -صاحب القضية الأساسي- في نيل حريته، واسترداد كرامته.
هي في الأصل مشكلة فشل تاريخي في بلورة هوية منبسطة مفتوحة على آفاق إنسانية، اللهم إلا محاولات بائسة لم تستطع السعي إلى هذا الهدف إلا بتوسيط عمق إيديولوجي مفارق، ومشكلة فشل دول كرتونية -نعدها للمفارقة ركنًا شديدًا نأوي إليه اليوم- في بلورة هوية وطنية لا يمثل الازدراء للآخر أسّها، وقلبها الذي يمنحها الحياة.

رئيس التحرير