مناف الحمد

منهج مُساءلة الوحي باسم العقل؛ من أجل تعقيل مضمون النقل الذي كرّسه المُعتزلة، أصبح منهجًا يذرف على اندثاره دموع الحسرة كثيرون، ممن يُرهقون أنفسهم في البحث عن جذور العقلانية في التراث الإسلامي، وهم متوزعون على معظم ألوان الطيف: فمنهم الإسلامي الذي يُسمي نفسه تنويريًا، ومنهم اليساري الذي يأسف على اندثار هذا المنهج؛ بسبب سطوة تحالف السلطة المستبدة مع رجال الكهنوت الديني، ومنهم العلماني المُغالي، الذي يتخذ من عدم قدرة هذا المنهج على الاستمرار دليلًا على عقم المنظومة الإسلامية، وعدم وجود استعداد فيها للانسجام مع مناهج تجعل العقل أصلًا؛ بسبب المغايرة المطلقة بين هذه المنظومة، وبين العقلانية.

نقول إن هذا المنهاج إذا بُحث ما استلزمه من لوازم، سوف يفضي إلى نتيجة مخالفة لما هو مألوف، وسائد، وربما يبعث على الارتياح واقعُ أنه لم يُقيض له الاستمرار.

إن تعقيل المضمون النقلي الذي يُمثّل جوهر مذهب الاعتزال، كان وسيلة للحد من القدرة الخالقة، والإرادة الآمرة للخالق، وجعلهما متعلقتين بماهيات تسبق فعل الخلق والأمر.

فالخلق من عدم لا يعمل في عدم محض، وإنما في عدم “شيء”، له ماهية لا تضيف إليها القدرة الخالقة إلا الوجود.

والإرادة الآمرة المُشرّعة لا تعمل في أشياء “معدومة” عدمًا محضًا، وإنما في أشياء لها قيم ذاتية، وإن كانت معدومة فتُقيد بذلك من اعتباطية هذه الإرادة الآمرة، وإطلاقها.

تقييد القدرة الخالقة، والإرادة الآمرة عمل يتوخّى جعل العقل والغاية، أو الماهية والقيمة متقدمتين على القدرة الإلهية الخالقة، والإرادة الإلهية الآمرة، وهو ما يلزم عنه منطقيًا مذهب التحسين والتقبيح العقليين الذي ظُن أنه انتصار للعقلانية على النصية.

ولكن حقيقة الأمر أن شيئية المعدوم التي تُحقق هذا السبق للماهية على القدرة الخالقة، والقيمة على الإرادة الآمرة لا يمكن أن تنسجم مع نظرية الخلق التي يتحرك الاعتزال في إطارها ما لم تستند إلى نظرية الأحوال.

فما فحوى نظرية الأحوال؟

إن شيئية المعدوم تعني القدم الممكن الذي يمثل ماهية الشي المعدوم، مقابل القدم الواجب الذي يتصف به الخالق الواجب الوجود، وهو قدم ممكن لا يمتنع عليه الوجود، ولا العدم، وبما أنه مستعد بانفعال كامن فيه لكلا الأمرين، فإنه يحتاج لكي ينتقل إلى الوجود الفعلي، إلى أحوال في ذات الله يقوم بها.

العالِم عالم بعلة هي العلم، والقادِر قادر بعلة هي القدرة، والمريد مريد بعلة هي الإرادة، ولكنّ هذه الصفات ليست أشياء، وبما أن المعدوم شيء، فإنها ليست معدومات، ولكنها ليست موجودة كذلك؛ لأنها ليست أشياء، فهي لا موجودة، ولا معدومة، ويلزم عن هذا ما هو أكثر خطرًا؛ فبما أن المعلوم الذي هو لفظ مشترك يُطلق على كل المقولات في علم الكلام الإسلامي، وهو إما موجود، وإما معدوم، وبما أن الأحوال ليست موجودة، ولا معدومة، فهي ليست معلومة.

هذا التخبط الذي أوصل إليه منهج المعتزلة، والذي يتجلى في مخالفة أبسط قواعد العقل، وهو مبدأ عدم التناقض هو الذي يتباكى عليه المتنطعون للتنوير من بعض الإسلاميين، وغيرهم ممن ذكرنا في البداية.

وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل إن هذه الأحوال بما هي العالِمية والقادِرية، التي تقوم بها الماهيات المعدومة بما هي المعلومية والمقدورية، تُشبه إلى حد بعيد أقنوم الكلمة في التثليث المسيحي؛ فهذه الأحوال ليست صفات مُوجبة للإله زائدة على ذاته، ولكنها من ذاته الواحدة كالأقانيم الثلاثة في التثليث التي لا تنفصل، وتشترك في الجوهر، فأي عقلانية في منهج يريد أن يُكرّس مفهوم التوحيد، ثم ينتهي به الأمر إلى محاكاة عقيدة التثليث؟

أما الشطط في ادعاء العقلانية، فقد ذهب بهم مذهبًا بعيدًا في تحميل العقل ما لا يطيقه عندما عدّوا معرفة الله واجبة قبل بعثة الرسل، وهي مهمة لا يستطيع العقل المجرد الاضطلاع بها لوحده؛ بسبب عوائق من طبيعته، ومن طبيعة مبحث الميتافيزيقا نفسه، ولا بد لهذا العقل المجرد؛ من أجل بلوغ اليقين من عقل مسدد يُمثله النص، وعقل مؤيد يُمثله العرفان الذي يجدل الصلة الحية بين العبد وخالقه.

إن هذه المعدومات الأشياء، بما تتقوم به من أحوال فاعلية في ذات الله، هي مُثل مقابلة للمثل الأفلاطونية، ولكن الأخيرة تنقص بتجسدها المحسوس، والسابقة تكتمل بظهورها في العالم مُكتسبة صفة الوجود.

التقاطع مع الإنجيلية بأقانيمها، والأفلاطونية بمُثلها، وتحميل العقل ما لا يطيق هما ما أدى إليهما منهج مساءلة الوحي باسم العقل، والذي يُعد عملًا مشروعًا من حيث المبدأ، ولكنه انتهى مع “رواد الفكر الحر” (كما يحلو لـ “عشاق” العقل المعاصرين تسميتهم) إلى نتائج يمكن أن نشفق على العقل بسببها.

“جيرون”