طوالَ عقودٍ تقاربُ الحقبة الأسدية كلها، شاعَ في سورية قول متفضِّل يفيد أن النظام أنتجَ معارضةً تشبهه، أو أن المعارضة هي الوجه الآخر لورقة هو وجهها الأول، على ما أمكن لأدونيس أن يكتب في جريدة النهار في صيف 2004. وأمكنَ حتى لمثل ابراهيم الأمين أن يقول شيئاً مماثلاً في الشهور الباكرة للثورة السورية، حيث كتب مقالة عنوانها «سوريا: حين يلتقي النظام ومعارضوه» (18/7/2011). يعطي هذا ظاهرياً الانطباعَ بأن المعارضة سيئة مثلما هو النظام سيئ، لكن غرضه هو تطبيع النظام بالحطّ من شأن معارضيه.

لكن بصرف النظر عن الوظيفة التبريرية لكلام المتكلمين المشار إليهما، وحتى عن صلاحية مفهوم المعارضة ذاته في وصف تنظيمات سياسية تعرضت طوال الحقبة الأسدية لسحقٍ شامل، فإن في تقرير «تشابهٍ» بين النظام ومعارضيه معقوليةٌ تحاول هذه المقالة بيان منطقها.

تنطلقُ المقالة من أنه لا يمكن الفصل بين تكوين ونمط عمل المعارضة السياسية، وتكوين ونمط ممارسة السلطة العامة في أي بلد، وأنه من الاثنين تتكون تشكيلةٌ سياسية، يُحتمل أن تتسع أيضاً لمعارضة متنحية، لا تساعدها الشروط السياسية القائمة على النمو. من شأن مفهوم التشكيلة السياسية، في تصوري، أن يُتيحَ لنا تبصراً أعمق في أوضاعنا السياسية، وفي بلورة تصورٍ أوضح عن تغييرها.

أقترحُ الصياغة التالية لمفهوم التشكيلة السياسية: أياً يكن النظام السياسي في أي بلد، فإنه تتطور في مواجهته «معارضة موضوعية» أو «نوعية»، هي التي تتواطؤ الظروف على نشوئها أكثر من غيرها. ومن أهم هذه الظروف المساحةُ المتاحة للنشاط المعارض في الحياة العامة، وما إذا كانت قادرة على العمل العام العلني، والأمدُ الزمني لدوام الأوضاع السياسية نفسها دون تغيير. وتجنحُ المعارضة الموضوعية إلى أن «تشبه» النظام الذي تعارضه كلما طال الأمد بالتشكيلة السياسية التي تجمعهما، سواء كانت هذه التشكيلة «استبدادية» أم «ديمقراطية». المعارضة الموضوعية لا تغيّر التشكيلة السياسية المعمرة، حتى لو استطاعت تغيير النظام أو المساهمة فيه، بل إن تغيّرَ التشكيلة هو تغيّرُ النظام والمعارضة معاً. وكذلك لا تتغير المعارضة دون تغيّر النظام، وتغيّر مجمل البيئة السياسية التي تجمع النظام والمعارضة النوعية والمعارضة المتنحية، أي التشكيلة السياسية.

ولا تتغير التشكيلة السياسية فعلياً دون أن تنخرط المعارضة الكامنة في الصراع، أعني مجمل القوى الساخطة في المجتمع، المتناثرة وغير المنظمة، التي تحولُ التشكيلةُ دون الاتصال بينها وبين المعارضة الموضوعية والذاتية معاً.

ويجري الكلام هنا على معارضة موضوعية للقول إن شروط التشكيلة السياسية (في مقابل الخيارات الذاتية للمعارضين) «تنتجـ»ها وتسهّل انتشارها. وهي معارضة نوعية من حيث ارتباطها الوثيق بالنظام الذي تعارضه، أي من حيث أنها الضد النوعي له. وتكون المعارضة متنحيةً حين تكون ضائعة الهوية، وغير نوعية للنظام الذي تعارضه، وأصفها بالذاتية لأنها أشدُّ ارتباطاً بتفضيلات واعتقادات المنخرطين فيها.

 

1

الملاحظةُ الأصلُ التي يصدر عنها تصور المعارضة النوعية، تتمثل في ما يبدو من أن الإسلاميين هم المقابل الطبيعي لنظم عربية مثل نظام الأسديين في سورية، ومبارك ثم السيسي في مصر، ونظام القذافي وزين العابدين، والنظام الجزائري قبل الحرب الأهلية. هذه أنظمةُ تسلطية مديدة، بدأت بحزب واحد وانتهت بفرد أو أسرة واحدة، واستقر الحكم فيها لعقود طويلة على الصيغة نفسها. وهي من جهة أخرى أنظمة «تحديثية»، حداثتها جهازية وشيئية (ليست حداثة علاقات اجتماعية وحقوق وتفكير…)، وقد يكون مناسباً وصفُ هذه التشكيلة بالتشكيلة السلطانية المحدثة.

والمعارضة الموضوعية أو النوعية في هذه التشكيلة السلطانية إسلاميةٌ، على نحو أكثر اطراداً من أن يكون عارضاً. وفي بلدان مثل سورية وعراق صدام والبحرين ينضاف عنصرٌ طائفيٌ نشط إلى الاعتراض على النظمِ الحاكمة. لكن أمثلة مصر وليبيا وتونس والجزائر توحي بأن العنصر الطائفي معززٌ، وليس مُنشئاً، لكون الإسلاميين هم المعارضة النوعية أو «الموضوعية» لهذه النظم أيضاً. في العراق كان الإسلاميون المعنيون شيعةً، وفي البحرين أيضاً.

في هذه البلدان كلها هناك معارضون آخرون، كان كاتب هذه السطور منهم في سورية. لكن يتولد لدى المرء إحساس بأن البيئة السياسية ليست مناسبة لحساسيتنا وتفكيرنا ورمزياتنا وخيالنا السياسي، أياً تكن درجة إخلاصنا الذاتي. المعارضةُ الذاتية أو المتنحية هي العبارة التي يمكن أن تصف موقعنا. ولعل الأصل في تنحينا أننا لا نقدم استجابةً مؤثرة لتحدي الاستيلاء على السلطة العامة بالقوة، والاحتفاظ بها «إلى الأبد». معارضتنا ذاتية، أوثقُ ارتباطاً بقيم وتفضيلات فكرية وسياسية لنا كأفراد ومجموعات، منها بتكوين القوة المسيطرة بالتشيكلة ونمط ممارستها للسلطة، وأقل اتصالاً بمنابع السخط والاحتجاج الاجتماعي، أو المعارضة الكامنة.

الإسلاميون هم التيار السياسي الذي يبقى حياً حين يجري اجتثاث كل حياة سياسية، وهذا بالضبط لأن الرابطة الدينية هي «سياسة الحديدة»، في مجتمعات صارت «على الحديدة» سياسياً.

الإسلاميون تطور لديهم ردٌ أكثر فاعلية، مواجهة القوة بالقوة، ويستطيعون فوق ذلك مواجهة الأبد السلطاني بما يفترضُ أنه جوهر الأمة الثابت، العابر للعصور. ولديهم كذلك فلسفة للحكم وأسطورة سياسية مغايرتان للدولة السلطانية المحدثة ولحداثتها. المعارضة النوعية هي التي توفر لقطاعات نشطة من السكان الموقع الفعلي أو المتخيل لقطبٍ مقابلٍ للنخبة الحاكمة، وهي التي توفر جواباً على مسألة التغيير: النظام الذي يتغير، نؤثر على تغيره في الاتجاه الأنسب لنا، والنظام الذي لا يتغير، يتغيّر بالقوة.

وقد يتمثل أحد جذور إشغال الإسلاميين موقع المعارضة النوعية في أن رهانَ السلطانية المحدثة في سورية على التخلص من المعارضين جميعاً كان أثره على الإسلاميين أقل، رغم تعرضهم لقمعٍ استئصالي أشدّ. وهذا لأن الإسلاميين، بحكم تكوينهم الديني، يستفيدون بيُسرٍ أكبر من شبكات اجتماعية ومؤسسات دينية قائمة، أو يستطيعون تأهيل بعضها لحسابهم بيُسرٍ متفاوت، ولهم أيضاً جذورٌ رمزيةٌ وخيالية في اللغة والثقافة لا يحوز أي علمانيين ويساريين مثلها. الإسلاميون هم التيار السياسي الذي يبقى حياً حين يجري اجتثاث كل حياة سياسية، وهذا بالضبط لأن الرابطة الدينية هي «سياسة الحديدة»، في مجتمعات صارت «على الحديدة» سياسياً. ولهذا بالذات هم المعارضة النوعية لأنظمة الاجتثاث السياسي، إن جاز التعبير. هذا بينما كان اجتثاث السياسة العام فعالاً جداً ضد اليساريين والديمقراطيين، على ما شهدنا في سورية بين ثمانينات القرن العشرين والثورة. كنّا أشبه بنبتات صحراوية، لا تبقى بمشقة على قيد الحياة إلا بثمنٍ باهظ: القزامة والتناثر.

وبقدر ما إن الخاصية الأبرز للتشكيلة السلطانية المحدثة هي الديمومة أو الأبد، وما يقتضيه ذلك من سحق المعارضة بكل أشكالها وتياراتها، وتعطيل أية آليات سياسية للتغيير من داخل التشكيلة، فإن من لا يستبعد العنف كمنهج للتغير من سياسته يصير في وضع أفضل لمواجهة القوة المسيطرة في التشكيلة، النظام. في هذا الشأن، الإسلاميون في موقع أنسب من غيرهم، والسلفيون الجهاديون في موقع أفضل بعد من الإخوان مثلاً، وهذا بالضبط لأن عنف السلفيين مبدئي، ولأن السلمية «دينٌ» مرفوض في نظرهم، أكثر مما هي استراتيجية تغيير عقيمة.

ويجازفُ من لا يوفر إجابة واضحة على سؤال التغيير بأن يفقدَ مبرر وجوده أو يتحول إلى معارضة ذاتية، على نحوٍ يبدو أن السيرة السياسية للإخوان المسلمين السوريين توفر مثالاً عليه منذ ما قبل الثورة (جمّد الإخوان معارضتهم للنظام وخرجوا من «جبهة الإنقاذ» التي جمعتهم منذ مطلع 2006 مع عبد الحليم خدام، وهذا بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي على غزة في أواخر 2008). وفي هذا ما يشرحُ تصدّر السلفيين الجهاديين والتشكيلات المشبّهة بهم (أحرار الشام، جيش الإسلام…) الصراع، بالتناسب مع دفاع السلطنة الأسدية عن التشكيلة المغلقة الأبدية التي تسيطرُ فيها. السلفيون الجهاديون يوفّرونَ إجابةً أكثر اتساقاً على مسألة تغيير ما لا يتغيّر، وما يقاوم التغيّر بالقوة. ولعلهم كذلك أقرب إلى قطاعاتٍ من المعارضة الكامنة، وأقدر على تعبئة قطاعات سنية ريفية منها في مجموعاتهم المسلحة.

 

2

كان الحالُ بعيداً جداً عن ذلك في سورية نفسها في خمسينات القرن العشرين، وفي الفترة القصيرة بين انهيار الوحدة مع مصر والانقلاب البعثي الأول. كان النظام السياسي وطنياً ليبرالياً محافظاً على العموم، وكانت المعارضة النوعية له يسارية بالأحرى، وليس الإسلاميون. كان البعثيون صاعدون بقدر معقول بفضل توجهات قومية معادية للاستعمار، وقت كان لهذا الكلام معنى فعليٌ محدد (مشاريع «الدفاع» عن الشرق الأوسط، سياسة الأحلاف، سياسة الانقلابات، العدوان الثلاثي…)، وعنايةٌ ناميةٌ بالمسألة الفلاحية. وكانَ الشيوعيون مهيمنون ثقافياً، وصاعدون سياسياً بدورهم. كان الإسلاميون موجودين، لكن بالكاد كتيارٍ بين تيارات، ويحاولون هم أنفسهم شرح مبادئهم باللغة اليسارية المهيمنة، على ما يُظهرُ مثال مصطفي السباعي، المرشد العام الأول للإخوان السوريين، وقت كتب الاشتراكية في الإسلام، الذي صدر عام 1959.

كانت الصفة المحافظة اجتماعياً وفكرياً لحكومات ذلك الزمن، تضعُ الشيوعيين ومن يماثلهم في موقع التباين الأكبر والأوضح، موقع المعارضين النوعيين والموضوعيين. وهم أيضاً من كانوا يعرضون استعدادا للكفاح المسلح أكثر من غيرهم وقتها، أو على الأقل من كان مثالهم السياسي يزكي «العنف الثوري» كحلٍ ممكن، إن لم يكن واجباً. الثورة، وهي عنيفة تعريفا و«حمراء» في تصورات تلك الحقبة، كانت تتقابل مع «الإصلاح» الذي كان من يدعو إليه هم الإسلاميون. كان هؤلاء، وبالصيغة الإخوانية المحافظة و«المعتدلة» لتلك الأيام، يبدون ملتبسين بمن هم في الحكم، تباينهم محدودٌ وهويتهم أقلّ وضوحاً بفعل هذا التباين المحدود، وبالتأكيد أدنى تمايزاً من الشيوعيين، ومن البعثيين كذلك. وهم من كانوا، تالياً، يشغلون موقع المعارضة الذاتية التي تدافعُ عن واجب وعقيدة، وتجد مشقّةً في تسويغ وجودها. أما الأحزاب المعارضة الأخرى التي تنحدر من بيئة الأعيان التقليدية نفسها، فكانت المعارضة الرسمية التي تعمل وتفكر ضمن أفق تداول الحكم في التشكيلة التي لم تعمر طويلاً كي تشهد تداولاً أو قطعاً له، ولم تكد تلك المعارضة الرسمية تجتذب أحداً من القوى الشابة القادمة من الأحياء المهمشة والريف المفقر والأقليات الناهضة. وضعها في ذلك يناظر وضع معارضين بعثيين للنظام الأسدي، فقد آلَ الأمر بـ«الشباطيين» منذ أواخر سبعينات القرن العشرين (زمن صعود «المعارضة النوعية» الإسلامية، والصراع المفتوح بينها وبين النظام) إلى ما يتجاوز التنحي: التلاشي، أو حتى الالتحاق بالنظام. الجناحُ البعثي الأقدم، اندرج في صراع النظامين الصدامي والأسدي.

وتركيا اليوم، التي يحكمها حزبٌ وطني ليبرالي محافظ، حزب العدالة والتنمية، هي مثالٌ مناسب. فالمعارضة النوعية لحكم الحزب هي اليسار الاجتماعي، الذي اقترب كثيراً من نموذجه حزب اتحاد الشعوب الديمقراطي (دخل البرلمان في الانتخابات الأخيرة). ما كان بوسع هذا الحزب أن يخاطب جمهوراً تركيا أوسع، وهو الحزب ذي الأصول الكردية، لولا ذلك. ويعرض حزب الشعب الديمقراطي، الكمالي، باطرادٍ تحولاً اشتراكياً ديمقراطياً بعيداً عن حساسيته الأصلية، القومية العلمانية، مقترباً من الموقع الأنسب للمعارضة النوعية. وفي الجامعات، وفي حركات الشباب والنساء، وفي الثقافة، ما يبدو صاعداً هو الموقع اليساري الذي يعترض على بطريريكية العدالة والتنمية ونزعته المحافظة اجتماعياً، وسياساته الاقتصادية الليبرالية الجديدة. وبقدر ما إن التشكيلة لا تسحق المعارضة ولا تزال توفر آليات تغيير ذاتية، فإن القوى الشاغلة لموقع المعارضة النوعية لا تسعى إلى الانقلاب على التشكيلة السياسية أو الخروج منها. ما تسعى إليه يتراوحُ بين توسيع ممكنات هذه التشكيلة باتجاه أكثر استيعاباً، وبين إشغال موقع القيادة ضمنها. وهي تجنحُ من هذا الباب إلى التشابه مع الحزب الحاكم في الأساسيات.

بقدر ما إن التشكيلة لا تسحق المعارضة ولا تزال توفر آليات تغيير ذاتية، فإن القوى الشاغلة لموقع المعارضة النوعية لا تسعى إلى الانقلاب على التشكيلة السياسية أو الخروج منها.

وما لا يزال النظام السياسي التركي يوفره من آليات تغيير ذاتية، تدمجُ قطاعات من المعارضة الكامنة، هو ما يحدّ من احتمالات الركون إلى العنف السياسي المسلح. في الانتخابات الأخيرة في تشرين الثاني 2015 حافظ «حزب الشعوب الديمقراطي» على نسبة تخوله دخول البرلمان (فوق 10% من الأصوات)، لكنه خسر أصواتا لمصلحة حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي خاطب حاجة جمهور واسع، تركي وكردي تتحسن أحواله الاقتصادية، إلى الاستقرار، ما مكّن الحزب الحاكم من تشكيل حكومة بمفرده (وهو ما كان متعذراً عليه في انتخابات حزيران من العام الحالي). لكن لو تصورنا أن النظام التركي انغلقَ دون التغيير السياسي، وليس هذا احتمالاً مستبعداً بفعل تنامي النزعة التسلطية عند الرئيس أردوغان، فلا يُستبعد أن ينمو إغراء المقاومة المسلحة في أوساط تتسع من المجتمع التركي، وربما يعاود العنف صلاحيته كأداة سياسية مشروعة. وبما أن الحزب الحاكم محافظ، و«إسلامي» بصورة ما، فمن المحتمل أن تكون الركيزة الفكرية لمقاومة مسلحة محتملة يساريةً وعلمانية.

والمثال التركي مفيد، من منظار سوري، لإضاءة معنى موضوعية المعارضة الموضوعية. ما يثيرُ غضبَ اليساري السوري المعارض عند أكثرية اليسار التركي، أن تمركزه الضدي المفرط حول منازعة العدالة والتنمية، وضَعهُ في موقعٍ عدائي من تطلعات السوريين التحررية منذ البداية (بفعل تأييد العادلة والتنمية للثورة السورية)، وصولاً إلى مساندة نظام بشار الأسد. الصفة «الموضوعية» لليسار التركي تبلغ هنا  درجة التضاد الحتمي العقيم، وتفتقرُ كلياً إلى هوامش لا ضدية تُبقي أبواب التطور السياسي مفتوحة. وكان وضع الاستقطاب الضدي هذا، هو سبب الأزمة السياسية التي عاشتها تركية بين مطلع صيف وخريف هذا العام، وأدت إلى انتخابات جديدة. لكن ينبغي القول إن تنامي التسلطية في المراتب العليا لحزب العدالة والتنمية، غذّى هذا الاستعداد «الموضوعي» أو الضدي عند معارضيه (يتغذى أيضاً من وزن سياسة الهوية في أوساطٍ نافذة ضمن اليسار في تركيا). وينفلتُ من هذه «الموضوعية» مجموعاتٌ وأفرادٌ يساريون، يحافظون على موقع المعارضة في مواجهة تشكيلة وطنية ليبرالية محافظة، لكن من منطلقات أوسع أفقاً، وأكثر انفتاحاً على الإقليم والعالم، وأكثر تحررية في المحصلة.

 

3

لكن ماذا إذا كان الحكم إسلامياً استبدادياً؟ في إيران، موقع المعارضة النوعية علمانيٌ ليبرالي، ليس شيعياً (وإن لم يكن معادياً للشيعية بطبيعة الحال). أما في السعودية فمن الصعب الكلام على معارضة بفعل تضافر القمع الساحق والريع النفطي، لكن ما هناك من حساسية معارضة مثلما تظهر في صحف سعودية توصف بالليبرالية، أو في كتابات سعوديين في صحف ممولة سعودياً، هي من الصنف نفسه. غير أن للحكم السعودي وجها آخر، وجه استبداد تحديثي دولتي، مع تبعية سياسية وأمنية للأميركيين، وتنهض في وجه هذا الوجه معارضةٌ إسلاميةٌ عنيفة، وهابية أكثر من وهابية الدولة والسلالة الحاكمة. ويبدو أن الحكم السعودي يستخدم المؤسسة الوهابية الداجنة، في مواجهة الوهابية المطلقة للقاعديين من جهة، وتطلعات الليبراليين من جهة ثانية، ما يعطيه موقعاً متعالياً على الصراعات الاجتماعية، يسهّل من أمره أيضاً الريع النفطي الوفير، والسند الأمني الأميركي. أما في إيران فلا يبدو أن هناك من هو أشد شيعية من النظام، وهو ما يعززه استناد النظام الإيراني اليوم إلى ميراث الثورة الشعبية عام 1979، وإلى استقلاليته عن القوى الدولية النافذة. يجدُ المعارضون الإيرانيون أنفسهم مَسوقين إلى مراعاة أكبر للحسّ الديني والحسّ الوطني، فيفقدون الخطاب الواضح الذي يقتضيه موقعهم كمعارضين نوعيين.

في «سورية الأسد» أيضا كان الإسلاميون موقعاً محسوساً جداً، ولم يكونوا تياراً معلوماً يمكن أن يلتقي المرء ممثليه داخل البلد.

في السعودية تخشى الحساسية المعارضة الجهازَ الوهابي، وليس السلالةَ السعودية وحدها، بل يتواتر أن تستند إلى هذه في وجه تلك. والقاعديون كما سبق القول هم الذي يواجهون السلطة السعودية، استناداً إلى عقيدتها الوهابية المشرعة بالذات. وفي إيران يخشى المعارضون الاصطدام بمؤسسة الولي الفقيه وأجهزتها، وليس بمن يمثلون «الدولة» بالمعنى الضيق وحده. وفي الحالين المعارضة النوعية موقعٌ محسوسٌ أكثر مما هي تيارٌ معلوم. في «سورية الأسد» أيضا كان الإسلاميون موقعاً محسوساً جداً، ولم يكونوا تياراً معلوماً يمكن أن يلتقي المرء ممثليه داخل البلد.

ما كان يشبه سورية الأسدية وإيران والسعودية من حيث استحالة الظهور العام لجسم معارض منظم، هو الاتحاد السوفييتي السابق. كان موقع المعارضة النوعية الذي يوفر التباين الأوسع عن التشكيلة السياسية الشيوعية هو الموقع الوطني الليبرالي، على نحو ربما تمثل في ألكسندر سولجنتسين أكثر من غيره، ومع عمق مسيحي أرثوذكسي في روسيا (ليش فاليسا، وعمق كاثوليكي في بولونيا). وانغلاق التشكيلة الشيوعية كان يمحو الفوارق بين هذا الموقع الوطني الليبرالي وبين غربيي الهوى، وهو فارقٌ استعاد قوته بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وفي البلدان الإسلامية السوفييتية يبدو أن موقع الاعتراض النوعي كان نقطة تقاطع الاستقلال والحرية الفردية (السفر والتملك والحرية الدينية بخاصة) والإسلام.

 

4

ما هو موقع المعارضة النوعية في الديمقراطيات الغربية؟ طوال عقود سبقت الحرب العالمية الثانية وتلتها كانت المعارضة الموضوعية والضد النوعي هي أحزاب اليسار الشيوعي التي لم تكن تعارض «الديمقراطية البرجوازية» فقط، وإنما كذلك «نمط الإنتاج الرأسمالي» الذي شكل بنيتها التحتية، وكانت تقابله بـ«دكتاتورية البروليتاريا» وبنمط إنتاج اشتراكي. كانت هذه الأحزاب القوية، في بلدان مثل فرنسا وإيطاليا بخاصة، تعرض التباين الأكبر عن حكومات يتناوب عليها محافظون ليبراليون وديمقراطيون اجتماعيون، وتشكل بذلك القطب السياسي المقابل لقطب الأحزاب البرجوازية في الحكم. كانت أيضاً لا تستبعد العنف الثوري مبدئياً، ولم يكن ممتنعاً أن تلجأ إليه لولا أن التشكيلة الديمقراطية البرجوازية طورت سياسات استيعابية حيال الشيوعيين في بلدان أوربا الغربية (وإن تكن من جهة أخرى، وعبر مركز قيادتها الأميركي، عملت على إبقائهم خارج الحكم إلى درجة التفكير في انقلابٍ عسكري في إيطاليا في سبعينات القرن العشرين، بإلهام من هنري كيسنجر). في ذلك العقد، بلغت تلك الأحزاب ذروة قواها وبداية انحدارها. كان انقضى أكثر من جيلٍ على الحرب العالمية الثانية، وتوسعت الحقوق الاجتماعية لأكثرية السكان، هذا بينما كان النموذج الاشتراكي العالمي يتخثر ويفقد جاذبيته. في هذه الفترة ظهرت مراجعات لعقيدة «دكتاتورية البروليتاريا»، وكانت حجر الأساس في السياسة الشيوعية، وجرى تقبل أوسع لـ«الديمقراطية البرجوازية» التي أظهرت وقتها ديناميكيةً وانفتاحاً على «المواطنة الاجتماعية» (إتيان باليبار). وآل هذا التطور بالمعارضة الشيوعية النوعية إلى فقدان موقع الضد النوعي، والانحلال في التشكيلة السياسية الديمقراطية الليبرالية. ظلَّ موقع المعارضة الموضوعية شاغراً، الأمر الذي لقي تعزيزاً كبيراً من الانتصار الغربي في الحرب الباردة. وربما ترتد أزمة اليسار الغربي اليوم إلى أنه لا يسجّل تمايزاً على مستوى الحساسية وأنماط الحياة والأذواق، والفكر، والخيال السياسي، ما أحاله إلى موقع المعارضة الذاتية التي لا تملك إجابة على سؤال التغيير، بل يبدو أن السؤال نفسه قد ألغي، فصار اليسار نسخة معدلة من نخبة الحكم، لا يسجّل فارقاً عن حزب العمال في بريطانيا أو الحزب الديمقراطي في أميركا. لا في مظهره ولا في مخبره يختلفُ باترك كوبرن «اليساري» عن ديفيد كاميرون اليميني، وقد يكون طارق علي أسمرَ البشرة، لكن عالمه وحساسيته ليسا بعيدين عن عالم توني بلير، ولا يبدو أن في حياته من المشاق ما يزيد على مشاق حياة بلير. ويختلف الأربعة كثيراً عن اللاجئ، وعن الأسود، وعن العاملة المهاجرة، وعن الفلسطيني، وعن المسلم، وعن السوري. كان غور فيدال يقول عن التشكيلة السياسية الأميركية إنها نظام حزب واحد بجناجين يمينيين. قد تلزمُ إضافةٌ منذ نهاية الحرب الباردة على الأقل، أن لهذه التشكيلة ذيلاً يسارياً أيضاً. وهذا في أميركا وأوربا معاً.

ولعل لشغورِ موقع المعارضة النوعية ضلعٌ في تراجع الديمقراطية ذاتها، إلى مستوى تكنولوجية تسييرية فنية للمجتمع والدولة.

التنوع الذي لم تستوعبه الديمقراطيات الغربية يتصل بالمهاجرين الملونين، وهم يشغلون مواقع أدنى اجتماعياً، مع درجات متفاوتة من الغربة الثقافية، ومع حواجز غير مرئية دون المشاركة السياسية.

ويبدو أنه بفعل شغور موقع المعارضة النوعية، فإن الأشد اغتراباً في الغرب المعاصر اليوم تُغريهم داعش، يجدون فيها نموذجاً راديكالياً، مبايناً كل المباينة لأوضاعٍ تستبعدهم. ما يجري ليس تظاهراً لراديكالية إسلامية متأصلة، يقول أوليفيه روا في تعليق له إثر مجزرة باريس في شهر نوفمبر الماضي، بل أسلمة للراديكالية يقوم بها جيل رافض لآبائه ولمجتمع لا يعترف به من حوله، وغير قليل منه متحولون حديثاً إلى الإسلام. الإسلام هو السردية الرائجة اليوم عالمياً للرفض.

الأشد اغتراباً في الغرب المعاصر اليوم تُغريهم داعش، يجدون فيها نموذجاً راديكالياً، مبايناً كل المباينة لأوضاعٍ تستبعدهم.

ويبدو في الواقع أن الإسلامية، وفي صيغة سلفية جهادية بخاصة، أقرب إلى موقع المعارضة النوعية في العالم الراهن. فالنظام العالمي القائم نظام مغلق واستبدادي، وإن تكن القوى القائدة فيه «ديمقراطية» بصورة ما في بلدانها، وبقدر أقل في علاقاتها فيما بينها. وهو نظام تراجعت الفوارق الإيديولوجية والسياسية بين كباره، فصار أشبه بنظام حزب واحد، حزب الأقوياء. وحكم الأقوياء يعتمد القوة في دوامه وأبده الخاص، ما يفرض على معارضيه الهامشية إن استكانوا للقوة، أو اعتماد القوة، ما يضعهم في علاقة استمرار، لا قطيعة، مع التشكيلة نفسها. وعارضو القوة المعولمون الوحيدون في عالم اليوم هم الشبكات السلفية الجهادية الإسلامية، لكن السلفية الجهادية «معارضة» مفرطة الموضوعية، أعني أنها مبنية على التضاد المحض وعلى انعدام المغايرة، إن استرجعنا تمييزاً بين الضدية والمغايرة من غسان الحاج في كتابه Alter politics. الجهاديون خاضعون بشدة لحتمية التشيكلات السياسية المحلية والتشكيلة العالمية التي يواجهونها، بفعل ضمور البعد الذاتي، الفكري والقيمي، في سياستهم، وركونهم المطلق إلى الفعل والعنف. وهذا ما يجعلهم استمراراً لأسوأ خصائص التشكيلات المحلية والتشكيلة العالمية التي يحاربونها.

 وما يؤهل الإسلاميين الجهاديين لإشغال موقع المعارضة النوعية في عالم اليوم واقعُ أن في الإسلام طاقة عالمية أصلية، يمكنها أن تأخذ شكل الإرهاب، بقدر ما هي تبقى على مستوى نفي العالم نفياً مجرداً، أو عدمياً، وغير قادرة على تطوير بدائل تعترف بالعالم وتراه مصلحة عامة بشرية، وتشارك في إصلاحه أو تغييره. «الإرهاب»، وهو الشكل المهيمن لمقاومة النظام العالمي اليوم، هو اليوم إسلاميٌ أساساً. وما يُتداول في أدبيات الجهاديين من تعابير «النكاية» و«شفاء الصدور»، وإمعانهم في القتل والتدمير، يدل في تصوري على الصفة الموضوعية المطلقة لمعارض الجهاديين، أي على تمام تبعيتهم للنظام الذي يعارضونه، وتمام تحكم منطق التشيكلات المغلقة التي يواجهونها بتفكيرهم وسياستهم. إنهم «نيغاتيف» العالم، نفيه العدمي البسيط، مضاداته العقيمة.

الإسلامية، وفي صيغة سلفية جهادية بخاصة، أقرب إلى موقع المعارضة النوعية في العالم الراهن.

ولعل تطور العالم ككل منذ نهاية الحرب الباردة في اتجاه «حضاروي» (أو ثقافوي)، يسهّل لمعارضته أن تكون حضاروية أيضاً. الحضاروية ساعدت في امتصاص اليسار في الغرب (كتابات سالفوي جيجك، ويتواتر أن يتكلم فيها على «نحن» و«هم» حين يتطرق إلى شأن إسلامي، مثال على ذلك)، وفي رسم خطوط تمايز تضع الإسلام عموماً في الجانب المقابل. والنخب الإسلامية من المثقفين المستقلين إلى السلفيين الجهاديين يجمعهم التفكير «الحضاروي»، الطائفي في واقع الأمر.

الإسلاميون المعاصرون عموماً غريبون على مبدأ المسؤولية العالمية والشراكة العالمية بفعل تمركزهم المفرط حول عقيدتهم الخاصة، وتأصّل استعداد المضادة في تفكيرهم وسيكولوجيتهم وسياستهم. لا شركاء للإسلاميين، ليس من غير المسلمين فقط، بل لا شركاء لهم من معظم المسلمين. ودون شراكة لا سياسة، ولا عدالة، ولا تضامن. وهم لذلك ليسوا معارضة تحررية، تحمل تصوراً لتغير التشكيلة ككل، أو للانفتاح على المعارضة الكامنة العالمية. وليست الديمقراطيات الغربية التي تريد سيطرة عالمية دون مسؤولية عالمية أقل تمركزاً حول ذاتها، أو أدنى منزعاً حربياً في علاقتها بغيرها، أو تحمل تصوراً لعالم أكثر تحرراً. ليس هناك شيء تحرري في انتصار القوى القائدة للتشكيلة العالمية في المواجهة، وهي لا تَعِدُ ضحايا الإسلاميين بأي عدالة أو حرية أو مساواة أو أخوة. تواجه بالتضاد المحض قوة تشكلت على التضاد المحض، فتعطيها قضية كان يمكن أن تكون أكثر عدالة لولا نفي الإسلاميين السلبي للعالم وللمسؤولية العالمية. ليست مشكلة الإسلاميين أنهم عنيفون في مواجهة تشكيلات محلية ونظام دولي مغلق، لا تقوم بمجموعها على غير العنف في حقيقة الأمر، مشكلة الإسلاميين بالأحرى أنهم ليسوا إلا عنيفين في مواجهة نظم لا تكاد تكون إلا عنيفة. إنهم رد فعل عليها من صنفها، الأمر الذي يجردهم من القدرة على أن يكونوا بديلاً لها. إنهم تعبيرٌ عن أزمة العالم، وليسوا علاجاً شافياً لها.

 

5

لا يقولُ مفهوم المعارضة النوعية شيئاً عن الطاقة التغييرية للمعارضة. الحزب الشيوعي في بلد غربي، والإخوان المسلمين في سورية أو مصر، والسلفية الجهادية اليوم، ليست قوى تغيير تحررية بقدر ما إنها تطورت باتجاه المضادة، أو التنحي. لكن هل من خيارات غير التضاد، ومواجهةٍ بالقوة تضمن استمرار التشكيلة، أو تنحياً مفضياً إلى الانضواء في النظام نفسه والتشكيلة نفسها؟ فهل الدفع نحو التضاد المحض أو موقع «المعارضة الموضوعية» هو من مناهج التشكيلات في حماية ذاتها وضمان دوامها، مثله في ذلك مثل الدفع إلى التنحي؟

كيف السبيل إلى تغيير تشكيلات سياسية مغلقة تحمي استمراريتها بالقوة، دون لجوء معمّمٍ إلى القوة؟

يميل المرء إلى افتراض أن تعبئة المعارضة الكامنة يمكن أن يكون عنصر انفتاح للتشكيلة السياسية، يجدد منابع الحيوية السياسية فيها. لكن ماذا إذا كان ذلك ممتنعاً؟ لقد كان ممتنعاً بكل معنى الكلمة في سورية طوال عقودٍ قبل الثورة، ويبدو أن العالم في نظامه الدولي وفي تشكيلاته الوطنية المركزية يسير في اتجاه الانغلاق وليس العكس. هذا يُبقي السؤال حياً؟ كيف السبيل إلى تغيير تشكيلات سياسية مغلقة تحمي استمراريتها بالقوة، دون لجوء معمّمٍ إلى القوة؟

الواقع أن هذه هي معضلة التغيّر في عالم اليوم. التشكيلات المحلية والتشكيلة العالمية تستوعب المماثل القريب، أي الذي لا يكلف استيعابه طاقةً وجهداً وتغيراً ذاتياً، وتقصي غير المماثل، فتدفعه إلى العنف وتحرم نفسها من التغيّر. وفيما وراء التقابل بين نظم «استبدادية» وأخرى «ديمقراطية» تبدو الاستعدادات متماثلة: من هو مثلنا نقبله، ومن ليس مثلنا نهمّشه، ومن يتحدانا نقتله. ووراء ذلك يبدو أن هناك ديناميكية خفية شغّالة، ديناميكةُ مشابهةِ الذات، أن نبقى نحن نحن، أن لا نتغيّر. عدا أنه ليس هناك أي شيءٍ ديمقراطي في ذلك، فإن قبول المماثل وحده وإقصاء المغاير يؤول إلى تحجّر التشكيلات السياسية وانغلاقها. الديمقراطية في أزمة بسبب توقف استيعاب المغاير وانطلاق ديناميكية التماثل مع الذات، وليست الحضاروية غير مظهرها الإيديولوجي.

 

6

يمكن لمفهوم المعارضة النوعية أو الموضوعية أن يكون أداة مفيدة في التحليل السياسي وفهم العمليات السياسية، من حيث أنه يدفع نحو تحليل البنى والديناميكيات السياسية، وأنماط ممارسة السلطة، فيخرج النقاش من الكيدية السياسية من الصنف المألوف في سورية.

لكن أليسَ مفهوم التشكيلة السياسية، والمعارضة الموضوعية المرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً، مفهومين حتميين، يحرمان المعارضين من هوامش مبادرة ومناورة من جهة، ويعفيانهم من المسؤولية عن أوضاعهم من جهة ثانية؟

ألمحَ التحليل السابق إلى أن التشكيلة السياسية ذاتها، وفي بلدان غير مركزية مثل بلداننا على وجه خاص، ليست الفاعل الحصري الخفي الموجه لأفعال نخب السلطة أو مجموعات المعارضة، ليس الذاتية منها بل حتى الموضوعية. للصراعات الدولية دورٌ مؤثر على نحو ندركه نحن السوريون بيُسر. تدويل الشرق الأوسط والشكل العدواني للسيطرة الأميركية والإسرائيلية أتاح للدولة الأسدية مساحة هيمنة واسعة، قلما أمكن لمعارضيها، بمن فيهم الإسلاميون التحرك والتفكير خارجها، ما يحمل مخاطر الانضواء والتنحي دوماً. بالمقابل حرم معارضيه، وعموم السكان من هوامش تحرّك مستقلة، فجعل العنف ملاذاً محتملاً. ولطالما وفّر التوتر بين إيران منذ الثورة والغرب هامش مناورة واسعة لنظام الجمهورية الإسلامية على حساب معارضيه كلهم.

ويسهم في كسر الحتمية ما يوفره العرض الفكري والرمزي المزامن، من أشكالٍ وصورٍ فكرية وقيمية ورمزية يمكن أن تتشكل بها جماعات سياسة معارضة. كان ماركس، وفكره «موضوعياً» بقدر كبير، قد أسهم بقوة في صعود الاشتركية، ثم الشيوعية كشكل أبرز من أشكال مواجهة الرأسمالية ومعارضة هياكلها السياسية طوال نحو قرن. صنع بذلك ذاتية وفرت مساحات مبادرة وتحرر لعمال ومثقفين وكوادر من الطبقة الوسطى، وأسهمت بقوة في تغيّر الرأسمالية من داخلها. والعرض الماركسي تعمّمَ عالمياً، دون أن يكون متمفصلاً في كل وقت وبقدرٍ مساوٍ مع التشكيلات الاجتماعية والسياسية التي ظهر بالتمفصل معها، وفّرَ بذلك عنصر اعتباط و«حرية»، يحدّ بدوره من حتمية التشكيلات السياسية.

ليست المعارضة الذاتية متحررة من التشكيلة ومنفلتة من إكراهاتها، ويتواتر أن تتحكم بها موضوعية التشكيلة، فتدفعها إلى التضاد السلبي العقيم، فتصبح أسيرةً لها.

لكن المفهوم الذي يجسد أكثر من غيره الصفة اللاحتمية للتشكيلات السياسية، هو مفهوم المعارضة الذاتية أو المتنحية بالذات. ولعله يناسب في هذا الموقع بالذات إدخال تمييز بين الصفتين. فالمعارضة المتنحية هي التي همّشتها بنية التشكيلة السياسية، فتراجع تباينها، وتكيفت مع الوضع القائم، وانضوت ضمن ما يتيحه لها من هوامش ضيقة. وتنحيها بذلك «موضوعي»: ضُرِبت، فخافت، فاستكانت، فبقيت على قيد الحياة. لم يعد وجودها ذاته موضع تحكمٍ منها، بل صارَ بقاؤها مرهوناً بما تنوطه بها التشكيلة من وظائف، وبخاصة توسيع هامش مناورة القوة المسيطرة في التشيكلة، «النظام»، حيال مجمل القوى المعارضة. أما المعارضة الذاتية فضعفها «موضوعيٌ» بدوره، لكنها تدين باستمرارها لانحيازاتِِ وإيمان وتصميم أشخاص عنيدين، ومجموعاتٍ مثابرة. وهو ما يضفي على المعارضة الذاتية طابعاً مأساوياً وبطولياً، وما يمكن أن يجعلها التعبير الحر فعلا عن تطلّب التغيير والحرية. في سورية عمل معارضون ذاتيون على الجمع بين المقاومة العنيدة للطغيان الأسدي، وبين محاولة التملك المعرفي للطغيان، أي السيطرة عليه بالفكر، وهذا سندٌ لأي قطيعة حقيقية مع التشكيلة السلطانية الأسدية. ليست المعارضة الذاتية متحررة من التشكيلة ومنفلتة من إكراهاتها، ويتواتر أن تتحكم بها موضوعية التشكيلة، فتدفعها إلى التضاد السلبي العقيم، فتصبح أسيرةً لها. وهذا بخاصة حين تستسلم المعارضة الذاتية لموضوعية التشكيلة المغلقة، وتنساق فكرياً وسياسياً ونفسياً إلى التمركز حول القوة المسيطرة في التشكيلة، بدل أن تستثمر في ذاتيتها الخاصة: الاستمرار العنيد في مقاومة السيطرة، والإحاطة بمنطق التشكيلة وإكراهاتها، وبالتالي التحرر منها في الذهن كمدخل إلى التحرر منها في الواقع.

 

7

كانت الثورة السورية إجابة مبدعة على سؤال التغيير: ثورة شعبية، تستقطب المعارضة الكامنة، وتحركها صورة سورية جديدة، كريمة وعادلة وواحدة. انكسرت حتمية التشكيلة عبر هذا الاقتحام الواسع من قبلِ جمهورٍ واسع للمجالِ السياسي الذي كان مغلقاً لعقود. وكان معارضون ذاتيون بنسبة لافتة في مواقع متقدمة من موجات الثورة الباكرة، لكن كانت هناك معارضة كامنة منتشرة تخرج من الجوامع، وتتحرك في الجامعات، وتتجمع في الساحات الجانبية، وتحاول حتى احتلال ساحاتٍ رئيسية. لو حدث التغيّر السياسي في سورية في وقت مبكر من الثورة، لحد ذلك حتماً من ظهور السلفية الجهادية كمعارضة موضوعية لنظام طغمويٍ تطور في اتجاه أكثر أنانية وطائفية ودراكولية، قبل أن يبيحَ نفسه والبلد لقوى أجنية عدائية.

والأرجح أنه كان من شأن التغيّر المبكر أن يعود بوزن مهم لشاغلي أقرب موقع إلى المعارضة النوعية في التشكيلة الأسدية من إسلاميي النموذج الإخواني، على نحو سبقت رؤيته في تونس ومصر. تقدّمت الإشارة إلى أن الإخوان كانوا وقت تفجرت الثورة يسيرون نحو التنحي، وهو ما كان عاملاً ميسراً لصعود الجهاديين بعد الثورة.

لو حدث التغيّر السياسي في سورية في وقت مبكر من الثورة، لحد ذلك حتماً من ظهور السلفية الجهادية كمعارضة موضوعية لنظام طغمويٍ تطور في اتجاه أكثر أنانية وطائفية ودراكولية، قبل أن يبيحَ نفسه والبلد لقوى أجنية عدائية.

ولكان مرجحاً لنظامٍ يشاركُ فيه هؤلاء الإسلاميون أن يتطور في واحد من اتجاهين: في اتجاه استبدادي عدواني من صنف الدولة الأسدية، ويرجح في هذه الحالة أن يكون موقع المعارضة النوعية مساحة تقاطع بين الفكرة العلمانية وبين مطالب الأقليات؛ أو في اتجاه ليبرالي محافظ، ويرجح هنا أن يشغل اليسار الاجتماعي موقع المعارضة النوعية. ولكان ذلك اقتضى من المعارضة الذاتية أن تتطور في هذا الاتجاه (يسار اجتماعي)، أو ذاك (علمانية نضالية وتأكيد مطالب الأقليات) على نحو تحدّده أساساً التشكيلة السياسية الجديدة. لكانت تكونت منظمات وقوى جديدة أيضاً، تتشكل هويتها السياسية حول ما يقتضيه موقع المعارضة النوعية الذي تشغله من توجهاتٍ ومواقف.

وإذ لم يتحقق التغيّر، يبدو أننا سائرون في درب تعفن دموي بكفالة نظام دولي، يبدو هو ذاته سائراً في درب التعفن بفعل انغلاق عالمي مطرد لآليات التغيير الفعلية (التي تنشط المعارضة الكامنة، وليس التي تقتصر على التداول ضمن النخب المستوعبة سلفاً). النظام الأسدي يشبه كثيراً النظام الدولي الذي تقف أميركا على رأسه، والنظام الشرق أوسطي الذي تسوده إسرائيل، من حيث البنية التمييزية جوهرياً والاعتماد على القوة، ومن حيث ما يبدو أن البنية المشتركة للثلاثة تدفع نحو التضاد السلبي كعامل استمرارٍ، لا تغيّرٍ، للتشكيلة. ولعل هذا التماثل البنيوي هو ما يفسر المحاباة الأميركية والإسرائيلية للدولة الأسدية، ويفسر الأثر العالمي للصراع السوري.

الحتمية التي تنكسر بهذا القدر أو ذاك في التشكيلات السياسية المحلية والمركزية، تستعيد قوتها على النطاق العالمي بحكم انتهاء الانغلاقات المحلية النسبية إلى انغلاق عالي محكم، يشهد عليه الطابع الأوليغارشي لمجلس الأمن. الانغلاق يقوي نزعات الموضوعية السلبية، وتحجر العالم ومخاطر الانفجار العنيف.

اليوم، نداءُ تغيير العالم الذي أطلقه ماركس قبل نحو 170 عاماً يستعيد معقوليته ووجوبه. ينبغي أن يتغيّرَ العالم كي تتغير معارضته الموضوعية، السلفية الجهادية، وكي يمكن لمعارضاته الذاتية أن تنقذ نفسها من الهلاك، وتُسهم في تجدّد معنى العالم.

ياسين الحاج صالح

موقع مجموعة الجمهورية

14 ديسمبر 2015