شاع مصطلح “الجائحة” بشكل ملفت، عبر الفضائيات العربية والمواقع الإلكترونية، للحديث عن انتشار فيروس الكورونا الحالي، خصوصاً بعد تجاوزه للنطاق الصيني والشرق آسيوي، وتحوّله الى حالة مكابدة نفسية متواصلة تثقل على كل واحد من الأنام عبر العالم اليوم. قد لا تبدو هذه الحالة الهلعية مبرّرة إذا ما جرى النظر بنسبة الوفيات جراء الكورونا من المصابين به، خصوصاً لدى الفئات غير المتقدّمة في السنّ والتي لا تعاني أمراضاً مزمنة، لكن مجرّد التفكير بأنّ إصابتك بهذا الفيروس يمكنها أن تدفع بالتهلكة متقدّمين بالسنّ من حولك يحدث فيك فزعاً “أخلاقياً”، زدْ على اقتران الكورونا بشكل بسريع بطبقات متراكمة من التأويلات العنصرية والتفسيرات التآمرية. فمن ارتياب الصين الحادّ من كل ما من شأنه زعزعة الاستقرار الداخلي لمجتمعها، إلى تصاعد العنصرية ضد الصينيين عبر العالم، وصولاً الى ظهور تفسيرين تآمريين للكورونا في لبنان، أحدهما يردّه إلى منتج مختبري إمبريالي أميركي للفتك بالشعوب المقاومة، من الصين إلى إيران إلى لبنان، والثاني إلى تصدير إيراني لإلهاء الشعوب الرازحة تحت محور الممانعة عن طلب الحرية.
شيوع مصطلح “الجائحة” أتى على حساب مصطلح “الوباء”. والوباء إذا ما رجعنا إلى “لسان العرب” لابن منظور هو الطاعون، وإن عرفنا في تاريخ الأمراض أنّ عدداً كبيراً من الطواعين الأشد فتكاً لم يكن طاعوناً بالمعنى البيولوجي، أي مرض ناشئ عن تفشّي البتكيريا اليرسينية، انطلاقاً من القوارض. فالطاعون “الأنطوني” الذي أهلك قسما واسعاً من شعوب الإمبراطورية الرومانية وأباد جيشها بكامله نهاية القرن الثاني الميلادي لم يكن طاعوناً، بل وباء، أو جائحة، فيروس الجدري.
لم يفهم المتلقّي العربي مغزى التفريق بين وباء وجائحة. فهذا مردّه الحاجة إلى نقل التمييز المعمول به في الإنكليزية وسواها من اللغات التي تعتمد طبياً على المصطلحات اليونانية. Epidemic في مقابل وباء، ومعناها الاصطلاحي “بين الناس”، أي المتفشي بين الناس. وPandemic في مقابل جائحة، ومعناها الاصطلاحي “على”عموم الناس”. أي الذي يجتاح عموم الناس. وفي الحالتين، نحن أمام أمراض غير نخبوية، أمراض تفتك بالناس demos، أي نفس الجذر الذي تُنحت منه كلمة ديموقراطية. سلطة الديموس. سلطة الناس.
الأپيديميك كما الپانديميك في أي مجتمع تضع على المحك سلطة الناس فيها، أو علاقة الناس بالسلطة بالأحرى، سواء عنينا السلطة السياسية، أو السلطة المباشرة على الحدود والموانئ البحرية والجوية، أو السلطة الطبية. الجائحة هي كذلك لأنها مرض يشبك مباشرة مع المستويات السياسية والأمنية والطبية في الوقت نفسه.
وباء وجائحة، مصطلحان دقيقان في نقل المغزى من المصطلحين اليونانيين، لكن المشكلة أنهما لا يسمحان مباشرة للمتلقي أن يقف على هذا المغزى. والجائحة من نفس جذر “اجتياح”، وجمعها “جوائح”، وهي من “الجوح”، أي “الاستئصال”، وفي الحديث النبوي يرد “أعاذكم الله من جوح الدهر”.
في كتابها Pandemic تذكرنا الصحافية والكاتبة الأميركية صونيا شاه بأن تاريخ الأزمنة الحديثة وتوسّع اتصال أقاليم العالم ببعضها البعض ارتبط إيقاعه بتتالي الجوائح. وفي الوقت نفسه، كلما اعتبر القسم الأكثر اقتداراً وقوّة من العالم، وأصحاب الامتياز في كل مجتمع، أنهم في منأى عن الجوائح، كان امتداد هذه لهم بالمرصاد. فهذه حال الكوليرا في القرن التاسع عشر. اعتقد الإنكليز أنها ستبقى في الهند المستعمرة، لكن الكوليرا كانت مرضاً وجد في البواخر والقطارات والمدن الحديثة قنوات مثالية لتفشيه، واجتاح البلاطات الحاكمة في طول وعرض أوروبا، وبالكوليرا مات فيلسوف من وزن هيغل أو موسيقار مثل تشايكوفسكي.
الوهم عاد لينتاب البشرية أواخر القرن العشرين بأنّنا نقترب من عصر ما بعد الجوائح، وأن الأوبئة ستبقى محصورة في المجتمعات الأكثر فقراً. ترافق ذلك مع تمكّن البشرية أواخر السبعينيات من استئصال المرض الوبائي الوحيد الذي أمكن استئصاله كلياً حتى الآن في التاريخ: الجدري. واذا كان الإيدز جائحة، إنما يحتاج انتقاله لاتصال الدم بالدم أو العلاقات الجنسية، فإنّ عودة الجوائح بشكل متسارع ارتبط أكثر بتتالي الفيروسات التي تصيب الجهاز التنفسي، من أنفلونزا طير وخنازير وسارس ومرس وكورونا المستجد حالياً.
وكما تشدّد صونيا شاه، لا سيما في المقالة التي نشرتها لها “الموند ديبلوماتيك” لهذا الشهر، ما يجمع هذه الطائفة من الجوائح أنها مرتبطة كلها بالمشكلة البيئية العالمية، وبالضرر البالغ الذي يصيب البيئة والتنوّع الحيوي، ويدفع بالحيوانات البرية بعيداً عن التوازن الذي كانت تعيش فيه ضمن الأدغال والغابات. “مع تراجع الغابات، والتمدين المتسارع، والتصنيع المحموم، وفّرنا للميكروبات وسائل أفضل للوصول إلى أجسامنا والتكيّف معها”. هذا التدمير المتواصل للبيئة يدفع بأنواع حيوانية ونباتية كثيرة للانقراض، ويدفع بأخرى نحونا، والميكروبات التي كانت متعايشة مع هذه الحيوانات بسلام غدت تعرّضنا للموت. مثالها هنا وباء إيبولا في افريقيا الوسطى والغربية الذي انتقل من الخفافيش البرية المقصيّة عن غاباتها المفقودة إلى الثمار إلى البشر.
لا يلغي هذا أنّ للفيروسات ضرورة حيوية متصلة بالمسار التطوّري للأنواع الحيوانية المختلفة، وأنها تساهم على مرّ التاريخ في تعديل الجينوم البشري وزيادة مناعتنا على المدى الطويل، لكنّ تتالي الجوائح الفيروسية، بطبعات جديدة كل بضع سنوات، يتجاوز هذه الضرورة. هناك إذاً حاجة للمواءمة بين وعي علمي بماهية الفيروسات وبين وعي أيكولوجي بأهمية الحفاظ على التنوّع الحيوي، لا سيما الغابي، للحدّ من تفشّي هذه الجوائح.
لا يسع سكان أيّ بلد اعتبار أنفسهم غير معنيين بهذين الوعيين، العلمي بماهية الفيروسات ودورها، والأيكولوجي المتصل بأهمية التنوّع الحيوي. بالابتعاد عن هذين الوعيين، نغرق أكثر إما في التفسيرات التآمرية، وإما في الوصم العنصري لهذه الفئة أو تلك بحجة الفيروس.
من هنا، عندما تعتبر المستشفيات الخاصة في لبنان مثلاً أنّها لا تتعرّف على الكورونا، وأنّ هذا محصور بالمستشفى الحكومي، فهذا يجعلها مستشفيات في غنى عن البحث العلمي ومناوئة للهمّ الأيكولوجي.. زدْ على أنّها تكرّر الوهم بأنّ جائحة يمكن أن تبقى محصورة بعامة الناس ولا تصيب أصحاب النفوذ والثراء والجاه في المجتمع. لكنّ الجوائح ديموقراطية، تحديداً لأنها، وإن كانت تصيب الفقراء أكثر، إلا أنّها تخترق الحواجز الطبقية أبعد بكثير مما تصل إليه “سلطة الناس”.