ما يشهده العراق الآن هام جداً ومثير للانتباه. فرئيس مجلس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي، يُرَكِّز في خطابه السياسي، على استعادة سيادة للعراق وإعادة بناء وطنيته المنتهكة من الجار الشرقي وميليشياته. ويعلن بكل جدية، وبكلامٍ خالٍ من الرمادية، عن عزمه السيطرة على كل المنافذ الحدودية، والدفاع عن هيبة الدولة، وحصر السلاح بيدها، وردع أي وجود للميليشيات والدويلة الموازية، ووقف النهب العام، وتفكيك خيوط شبكة المحاصصة الطائفية في إدارة الدولة، وإجراء انتخابات جديدة حرة ونزيهة.

 إن التصدي لتحقيق مثل هذه المهام الجسام، يتطلب خوض مواجهة شاقة وقاسية، ولكن يبدو أنها باتت تشكل الخيار الوحيد لدى مصطفى الكاظمي وحكومته. إن الإعلان عن هذه المهام السياسية بإرادة وتصميم واضحين، دون لفٍ أو دوران، من قبل الشخصية الرسمية الأولى في العراق، لا يمكن إدخاله فقط، في إطار أهمية دور الفرد وما يمتلك من الشجاعة والوعي والوضوح في الرؤية، وإنما يأتي خطابه السياسي هذا مرفوعاً برافعة الشعب العراقي الثائر، الذي خرج وتمرد على نظام المحاصصة الطائفية واستباحة الدولة ونهب المال العام. فلقد تأكد الشعب العراقي خلال سبعة عشر عاماً من زيف الإيديولوجية المذهبية المدمرة ورأى بأم عينه مألات حرب الهويات القاتلة، وتعرف على الطريق الذي يخرج العراق من مستنقعه السياسي الغارق فيه، ومن أزمته الاجتماعية والاقتصادية الخانقة. 

وبالفعل ما كان ليأتي مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الحكومة لولا أصداء الثورة الشعبية العارمة المسيطرة على الساحة العراقية. ولقد شاءت الظروف الموضوعية والعميقة السائدة في العراق والمنطقة ككل أن يكون ميدان هذه الثورة في الجنوب والوسط حتى بغداد. هذا ما لم تكن تتوقعه إيران، فقد كانت مستسلمة إلى أن هذا الحيز الجغرافي العراقي سيكون فضاء موالاتها ونفوذها الدائم إلى الأبد فقط لكون سكانه من الشيعة. وما أرعبها أكثر في هذه الثورة التي امتدت إلى العتبات المقدسة في كربلاء والنجف شعاراتها السياسية التي تناولتها هي بالذات مباشرة ودون أي لبس.

 عملت إيران كل ما بوسعها لإنقاذ حكومة عادل عبد المهدي المطواعة لسياساتها التي لم يكن أمامها إلا الاستقالة أمام تصميم الشعب العراقي المنتفض. فأرسلت كعادتها قاسم سليماني إلى العراق، ومن بعده أرسلت علي شمخاني ومن ثم خليفة سليماني القاآني، ولكنها فشلت في كل مساعيها، وقبلت في النهاية على مضض مجيء الكاظمي رئيساً للحكومة العراقية على أمل أن تتغير الظروف والمعطيات.

تتعرض إيران الآن لضغوط شعبية داخلية كبيرة، فهي تعاني من أزمة اقتصادية طاحنة ومن أزمة الكورونا التي لم تتراجع فيها إلى الآن، ومن انفجارات ضخمة في مواقعها الأمنية ومراكز أبحاثها الذرية، ومن الحصار الخانق الذي تفرضه عليها الولايات المتحدة، ومن الاستهدافات الإسرائيلية لقواتها في سورية من الحرس الثوري وحزب الله اللبناني وباقي الميليشيات الموالية لها. ومن جانب آخر تعاني من وطأة صراعها مع حليفها الروسي على النفوذ في سوريا، الذي بدأ أخيراً يطفو على السطح بقوة، وقد وصل إلى درجة الاصطدامات بين الأذرع العسكرية الموالية لكل من الطرفين، وهذا ما شاهدناه أخيراً في محافظة درعا وأكثر من منطقة على الساحة السورية.

يمكننا القول إن إيران تعيش في الوقت الراهن حالة من الإرباك في العراق والمنطقة عموماً، فالخطاب السياسي للحكومة العراقية الجديدة لا يروق لها على الإطلاق وأكثر ما يزعحها الدعوة إلى عودة العراق إلى حضنه العربي وتمتين علاقته مع دول الخليج. ولأول مرة بدأت الميليشيات العراقية الموالية لها تستهدف من قبل السلطات ويتم اعتقال 14 عنصراً من حزب الله العراقي بتهمة الهجوم على المواقع الأمنية. ويبدو أن إرهاصات التغيير في السياسة العراقية أخذت تقلقها كثيراً وتهددها بقطع طريقها من طهران إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط. 

لم تستنفذ حكومة الولي الفقيه كل أوراقها، وهي تعرف تماماً أن خسارتها للعراق، تعني فشل مشروعها المذهبي القومي الشوفيني في كل المنطقة الذي تعمل من أجله منذ أواخر عام 1980. ولذلك عادت طهران في الفترة الأخيرة لتستخدم ورقة داعش الوظيفية مجدداً لإرباك الحكومة العراقية الحالية، وتبرير بقائها هي وميلشياتها في العراق تحت يافطة “الحرب على الإرهاب”. 

تستنفر إيران كل قواها وأذرعها العسكرية الآن لردع الثورة الشعبية في العراق وإجهاض أي تغيير فيه. ولجأت في الفترة الأخيرة –كعادتها- إلى الإرهاب المباشر والصريح وإلى الاغتيالات والتصفيات الجسدية، وكانت ميليشياتها قد قنصت منذ أول أكتوبر الماضي حوالي 700 شخصاً من ناشطي وناشطات الثورة، وقد وجهت تهديدها للكاظمي منذ طرح فكرة ترشحه لرئاسة الوزارة ومن ثم في اليوم الثاني لتسلمه منصبه. ومنذ أيام وجهت له، أي للكاظمي، رسالتها التهديدية الجديدة عندما اغتالت بكل وحشية وغدر الكاتب والباحث والمحلل السياسي هشام الهاشمي أمام بيته، ويبدو اأن هذا ليس آخر الاغتيالات. وفي الواقع يبدو أن الكاظمي أصبح أمام خيارين: إما المواجهة وإنقاذ العراق، أو التلكؤ والتراجع اللذان لا يعنيان سوى ضياع فرصته، وخسارته القاعدة الشعبية، وانفتاح العراق على الفوضى وربما الحرب الأهلية.