بينما كان المندوب الروسي في مجلس الأمن يعترض على إدانة تنظيم الأسد، بسبب استخدامه غاز السارين في هجوم على خان شيخون، كان كبير مستشاري خامنئي يتوعد من حلب بالسيطرة على شرق سورية وعلى محافظة إدلب، أي أنه يعِد بالسيطرة على مناطق بعضها مشمول بتفاهمات آستانة، وبعضها الآخر ربما يكون تحت مظلة التحالف الدولي ضد داعش. التنسيق الروسي- الإيراني والتصعيد المشترك رداً على تنصل ترامب من الاتفاق النووي، ليسا بخافيين على أي متابع، ومع ذلك لن يكون من الخطأ التذكير به مجدداً كرمى للذين راهنوا على تخلي موسكو عن طهران، أقلّه في سورية.
إذاً، لا خلاف الآن في ما يخص احتدام المواجهة، خاصة منذ تقديم سعد الحريري استقالته، الخلاف فقط في التكهنات حول المدى الذي يمكن أن تصله. لكن، إذا عدنا خطوة أو اثنتين إلى الوراء، ستطالعنا وفرة من التحليلات التي تشدد على حماية لبنان من ارتدادات الصراع السوري، حيث حينها لم تكن مطروحة حماية لبنان من حزب الله وآثار إرهابه الخارجي. أيضاً، ستطالعنا وفرة من التحليلات التي تعلن أو تضمر القناعة ببقاء بشار في الحكم، وتعكس تفاهماً دولياً- إقليمياً في هذا الشأن، من دون وفرة في الحس النقدي والأخلاقي إزاء هذا التوجه.
وحتى هذه اللحظة تخرج مطالبات تتمنى على حزب الله الكفّ عن تدخلاته في الخليج، تجنباً لانعكاساتها على الداخل، ولا يصل أصحابها إلى مطالبة مماثلة تخص عدوان الحزب على السوريين ما دام هذا العدوان بلا تكلفة في المدى المنظور. ولا يندر أن يوجد بين أصحاب تلك المطالبات من ينتقد الفيتو الروسي لصالح بشار الكيماوي، في حين لا يملك الحساسية ذاتها إزاء قتلى حزب الله من السوريين الذين يفوق عددهم ضحايا هجمات الكيماوي، ولا يملك حساسية إزاء الخلاصة التي تعني تكريس سورية كأرض للإفلات من العقاب، ولو من باب محاباة قاتل على حساب آخر.
القضية، وإن كان لها حساسية خاصة في شقها اللبناني، هي في المناخ العام من عدم الاكتراث بالمقتلة السورية، بل التســليم بها كلما كانت تتفاقم، والتسليم بمصالح المعتدين كلما أحرزوا نصراً إضافياً. ذلك لا ينتمي إلى الواقعية السياسية في أحط معانيها فحسب، وإنما ينطوي على ذرائعية تزيّن الأخيرة بوصفها الخيار الوحيد الممكن. ثم من المحتمل جداً، وقد حصل مراراً وتكراراً، توجيه اللوم إلى الضحايا لأنهم لم يتحلوا بالوعي السياسي المطلوب، فتصبح الخسارة مسؤولية الضحية.
لقد قيل عن السوريين ما قيل، من موقع التشفي أو الوعظ، وبلا أدنى شك تستحق المعارضة السورية نقداً أقسى مما وجِّه إليها، على أن يذهب النقد في الاتجاه الصائب. السوريون غير مسؤولين، إلا من باب جَلْدهم، عن خسارات إقليمية أو دولية ضمن الصراع المركب على الأرض السورية، وهم لم يكونوا في أي وقت إزاء حرية اختيار الأعداء والحلفاء، مثلما لم يملكوا في أي وقت القدرة على إيقاف الحروب البينية بين الحلفاء في الميدان السوري. على هذا الصعيد، نملك مثلاً راهناً إذ تُطلق تلك المخاوف على لبنان من مواجهة إقليمية متوقعة، وإذ يعلن أصحابها غياب الحصانة الداخلية، على رغم انفتاح السياسة اللبنانية شرقاً وغرباً، وعلى رغم عمر مديد من العلاقات الدولية لمجمل نخبته السياسية.
نعم، المواجهة المستجدة والمخاوف المتعلقة بها تصلحان للتذكير بالعقد مع الشيطان، ولعل أفضل من صاغه علناً هو الرئيس الفرنسي ماكرون عندما قال: الأسد خطر على شعبه أما «داعش» فخطر على العالم. هذا العقد الفاوستي الذي تُباع بموجبه أرواح السوريين تم إبرامه على نطاق واسع، ظناً بأن الشيطان سيكتفي بها. ومن أجل تبريره جرت شيطنة الضحية، فهي إما حاضنة لـ «داعش»، أو هي ابنة النظام الذي تقاتله فلا امتياز لها عليه، ولا بأس في الجمع بينهما لتكون كائناً كريهاً نصفه أسدي ونصفه داعشي.
سيكون أقرب إلى الهزل اكتشاف مخاطر فائضة لقتلة السوريين، تلك الأخطار التي نبّه إليها سوريون من قبل ونُظر إليهم باستخفاف. فلا قاتل مثل بشار يخفي شهيته لاستئناف جرائمه خارجاً عندما تحين الفرصة، وقد فعل من قبل في لبنان والعراق وصحت تهديداته باستهداف أوروبا بالإرهابيين! ولا نظام مثل نظام الملالي، يفخر مسؤولوه بتوسع نفوذه، مستعد للتوقف عند سقف، وكان رئيسه «المعتدل» قد أشار أخيراً إلى نفوذ بلاده في الشمال الأفريقي. أما البلطجة العالمية لنظام بوتين فأثبتت حتى الآن نجاعتها في أوكرانيا وسورية، بل كان تجريب أسلحته بأجساد السوريين فرصة لإبرامه صفقات ضخمة لبيع السلاح.
كل ما فعله تنظيم الأسد بالسوريين منذ الثورة بمثابة مرآة للحلف الثلاثي الذي ينتمي إليه، وإعادة استخدام غاز السارين «برعاية حلفائه» بعد كذبة التخلص من المخزون الكيماوي هي بصقة من هذا الحلف على جميع المواثيق الدولية، ولكي تكون النكاية أبلغ يقرر الأسد الانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ بعد تقرير إدانته في مجلس الأمن. هذا ليس قدر السوريين، هي بالأحرى جريمة أكبر بكثير من أن يستوعبها السوريون وحدهم. ذلك كان مكتوباً ومقروءاً منذ سنوات، ومع ذلك استمر الظن بالقدرة على حصر الحريق في مكان واحد.
إذا تغاضينا عن النهاية السعيدة في أسطورة فاوست لعدم واقعيتها، قد يبقى واقعياً أن إبرام عقد مع الشيطان لا يكون صفقة يُدفع ثمنها مرة واحدة، لأنه سرعان ما يعود ليلقي التحية على طريقته. وما دمنا في حقل الميتافيزيق فقد تكون الإشارة واجبة إلى أن هذا لا يتعلق بما يتمناه بعض السوريين بأن تحل لعنة الدم السوري على كل من باع أرواحهم للشيطان، فالواقع المؤسف سيغني عن تلك الأمنيات. وحتى إذا تراجعت نذر المواجهة الحالية فمن المرجح بشدة ألا يكون تأجيلها سوى ما يشبه إعادة جدولة للدين، أي تحمّل عبء أكبر من الفوائد التي ستُدفع لاحقاً. لقد فعلها السوريون من قبل، عندما أجّلوا المواجهة وقتاً طويلاً، فدفعوا ثمن الوحش الذي تضخم في سورية، وثمن الوحش الذي تضخم برعايته في لبنان، من دون أن ننسى بركاته على مجاهدي الزرقاوي الذين أتى منهم «داعش».