ولكلّ شعب عبقريته في التعبير عن الظلم والقمع والإضطهاد، وطرائقه في ابتكار التسميات لرموز القمع وأساليبه؛ وقد اخترع الناس عندنا كلمة جديدة لوصف النماذج الحديثة من عناصر هذه “الأورْطات” الذين يتصرفون وكأن القانون غير موجود إلا للآخرين، وهي كلمة “الشبيّحة”.

فالشبيحة قادرون على تمرير أي شيء من دون أن تستطيع أية جهة مساءلتهم، وهم بالطبع أتباع، الشبيحة هم الأتباع المتسلطون باسم نفوذ سيدهم (الخال أو المعلم)، وهم يمررون أي شيء لأنهم لا يتعرّضون للمساءلة، ولا تتعرّض سياراتهم أو بيوتهم أو أشخاصهم للتفتيش أيضاً، ولذا فإن سياراتهم التي لا تفتّش قد تُدخِل أفيوناً أو سلاحاً أو بضاعة مهربة وربما جواسيس.

والطريف أنّ للكلمة أصولها في لسان العرب، فـ”شَبَح الشيءَ” مدَّهُ، و”شبّح الشيءَ” عرّضه، أي زاده عرضاً، و”مشبوحُ الذراعين” عريضهما وواسعهما، وقد أخذها الناس لجعلها تنطبق على تمديد الصلاحيات وتعريضها وتوسيعها.

والـ”شبّيح” هو ذاتُه الـ”بلطجي” والـ”منتمر”، ولكن الشبيّح يفعل ذلك كله في العلن، وهو مرتدٍ ملابسَه الرسمية، يمارس التهريب والابتزاز (عينك بنت عينك)، وهو مُدعَمٌ ومحميٌّ وواثقٌ من أن هذا الدّعم يجعله في عصمةٍ، فلا يطاله القانون ولا يجرؤ على مواجهته أو التفكير في محاسبته أحد، ولذلك فهو لا يطيع قانوناً، ولا يأبه لانزعاج أحد أو عرقلة مصالح أو مرور أو عمل وظيفي، يفرض ما يشاء على من يشاء لأنه دولة، أو سلطة، منتقلة بقوانينها الخاصة التي يفرضها مزاح اللحظة، وهذا المزاج لا يختلف إذا كان في مواجهة مع دورية مكافحة أو في مشوار استعراضي في السيارة أو عند الدردحة الاستعراضية مع الكأس في مطعم أو ملهى، أو عند اعتراض بنت جامعة أو مدرسة أو موظفة في الطريق، أو عند نزوة تستيقظ للسباق بالسيارات مع الشبيح الآخر، أو الخال الآخر، في شارع مزدحم بالناس.

وقد تكون للشبيح صفة رسمية (كأن يكون عنصر مخابرات أو عنصراً في قطعة عسكرية لها موقع خاص في البلد) وقد يدّعي هذه الصفة، وقد لا يحتاج إلى هذه الصفة أصلاً، يكتفي بكونه واحداً ممن يدورون في فلك الخال يخدمه ويلحس صحونه ويستفيد من اسمه في الحياة العامة.

والـ”تشبيح” كلمة ممتلئة بالمعاني، فهي مزيج من الزّعرنة والسلبطة والتّبلّي، وهي كل ما يقفز فوق القانون علناً، ومن ثم فهي عقليةٌ مثلما هي سلوك. ولذلك قد تجد الشبيحة في المدارس، والنقابات والمنظمات ومجلس الشعب ومجلس الوزراء وفي الحزب ذاته أيضاً، فالشبيح بهلوان بارع ووقح، يقفز بك مباشرة إلى مجالات لا تخطر لك على بال، فأنت إذا اعترضت على تهريبه مشكوك في إخلاصك للوطن، وإذا طالبت بتطيبق القانون مشكوك في إخلاصك الوظيفي، وإذا تساءلت عن سبب إجراء معين هبَّ الشبيحةُ للتشكيك في إخلاصك للمسيرة أو القائد، وهذا ينطبق على احتجاجك عليه إذا تسبب لك في أذى شخصي، إو إذا تطاول على بيتك أو على ممتلكاتك”.

من كتاب “حيونة الإنسان” لممدوح عدوان

ص. 134 و ص.135