خليل عساف:

يعمل تنظيم “الدولة الإسلامية” على بناء شبكات استخبارات محلية من الأطفال، بشكل موازٍ لأجهزته الأمنية المعروفة، في المناطق التي يسيطر عليها، بهدف جمع معلومات عمَنْ يمكن أن يقوم بأنشطة معارضة له. كما تقوم هذه الشبكات بمراقبة “مخالفات” السلوك اليومي للناس مثل اللباس ولغة الحديث والتدخين، وهي مسالك يعتبرها التنظيم خروجاً عن النموذج “الشرعي”. ووظف التنظيم لهذه الغاية، آليات وأدوات ورثها عن جهاز الاستخبارات العراقي السابق.

ناشط سوري يُقيم في مدينة الرقة، قال لـ”المدن”، إن للتنظيم مخبراً أو اثنين، على الأقل، في كل حي من أحياء الرقة: “فحي الثكنة الذي لم يبق فيه سوى ألف شخص من سكانه، فيما استوطنه أكثر من خمسة آلاف جهادي مهاجر من مختلف الجنسيات، وظّف له التنظيم سبعة مخبرين”. الجديد في الأمر، بالإضافة إلى دورهم الاستخباري التقليدي، هو طبيعة المهام التي كُلف بها هؤلاء المخبرون من جمع معلومات عن البيوت الخالية أو المؤجرة.

هذا المنحى في عمل التنظيم تطوّر بعد التقلص التدريجي للرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها التنظيم منذ العام 2014، لا سيما بعد انسحابه من تدمر ثم من عدد من بلدات وقرى الريف الشمالي في حلب خلال الأشهر القليلة الماضية، واضطراره إلى استقبال الآلاف من أفراد أسر مقاتليه في الرقة، وسط حاجته المتزايدة إلى مساكن تأويهم. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، شَكَّل التنظيم خلايا جديدة للتجسس وجمع المعلومات في مدينة الرقة لهذا الغرض، لكن عناصر هذه الخلايا هم من الأطفال.

“شلة الأطفال المخبرين” تتراوح أعمار أفرادها بين 10-16 عاماً، وتقدِّم معلوماتها إلى جهتين في التنظيم: “مكتب العقارات” و”المكتب الأمني” أو “النقطة 11”. ومعظم هؤلاء الأطفال المُخبرين، كانوا قد امتهنوا الشحاذة والتسول، وبيع الدخان المهرَّب أو المعسل والمواد الممنوعة سراً، وبذلك وقعوا فرائس سهلة في يد دوريات “الحسبة” التي تُحيلهم بدورها إلى مسؤول “مكتب المُداهمات” المُلحق بـ”المكتب الأمني” في الرقة العراقي “أبو تراب”.

و”أبو تراب”، وهو مسؤول أمني سابق في نظام صدام حسين، يُجند الأطفال لصالحه بعد أن يُخلصهم من يد جهاز “الحسبة”. ويقدِّم الأطفال المخبرون معلوماتهم إلى “أبو تراب” أو إلى مسؤول “مكتب العقارات”. والمعلومة المُقدَّمة تخضع لتدقيق ومقاطعة مع وشايات مخبرين آخرين في المنطقة، بقصد المُطابقة وتحرّي الدقة.

بلغ عدد أفراد فريق “أبو تراب” 50 طفلاً يقدمون وشاياتهم الروتينية اليومية بأجر يتراوح بين 10-15 دولاراً، لكنهم يحصلون على مكافآت كبيرة عندما يقدمون معلومات عن عقارات خالية أو مؤجرة. مكافآت “أبو تراب” قد تصل إلى 100 ألف ليرة سورية إذا كان المنزل موضع الوشاية مفروشاً، أما إذا كان خالياً من الأثاث تُخفض المكافأة إلى 25 ألف ليرة.

“أبو تراب” يحتاج معلومات أكثر عن أصحاب البيوت حتى تسهل إدانتهم ومن ثم مصادرة بيوتهم، معلومات تجعل من موقف صاحب البيت ضعيفاً أمام إجراءات التنظيم، وتدفعه للجوء عبر أقاربه ومعارفه إلى شرعيي التنظيم لوقف المُصادرة. يقول أحد أهالي الرقة: “يبحثون عن أي صغيرة من أجل الإدانة.. من قبيل أن صاحب المنزل أو زوجته متواجد/متواجدة في مناطق النظام أو لا يزالون يتسلمون الراتب من هناك؛ أو الإقامة في تركيا”، ثم “يبدأ التدقيق عن الدورة الشرعية واللباس”. وحدث أن إعتقل أقارب بعض ممَن صُودرت بيوتهم لأنهم “راجعوا مكاتب التنظيم في شأن يخص أقاربهم، لأن كلام المخبر منزل لديهم وغير قابل للتشكيك”.

ولا ينجو من وشايات مخبري التنظيم حتى أولئك الذين أجّروا بيوتهم، فإما أن يقوم التنظيم “بإخراج المستأجر ويستولي على المنزل أو أن يدفع المستأجر” قيمة الإيجار للتنظيم. ومتى وصل الأمر إلى الاستيلاء على بيت أحدهم حتى يبدأ الصراع هذه المرة بين عناصر التنظيم حول إعطاء حق الأولوية في السكن، ومن ثم بين عناصر التنظيم والوشاة حول تقاسم الأثاث الذي يختفي الجزء الأكبر منه قبل أن يُسلَّم المنزل المُصادر إلى سكانه الُجدد من المهاجرين.

“الأطفال الوشاة” ليست فكرة خاصة بـ”أبو تراب” العراقي، فهو يستأنف بها تراثاً وضع أسسه نظاما البعث السوري والعراقي، وكانا يستخدمانه في المدارس بشكل خاص، ووصل أذاه وما أحدثه من تشوهات اجتماعية وأخلاقية داخل العائلات والأسر.

أطفال “أبو تراب” الوشاة الخمسين، قد يتزايد عددهم طالما بقيت قبضة النظام الأمني “الداعشي” ممسكة بخناق المجتمعات التي يحكمها. مجتمعات تتعرض وحداتها الرئيسية، العائلة، إلى تفتت سريع وسط وقائع التوحش والفقر والحصار، ويعاني أفرادها البطالة الاضطرارية. كما أن موجات النزوح المتعددة والاختلاط بين المهاجرين والسكان الأصليين صارت بمثابة بيئات متبدلة بسرعة، ما يجعل من إمكانية المقاومة، أمراً يزداد صعوبة يوماً بعد يوم.

المصدر..